أيام زمان.. مقدسيون يروون الحكاية
قد تكون مدينة القدس أكثر مدن العالم اهتماما من حيث المجال البحثي في معظم مجالاتها وأنشطتها الحياتيةغرد النص عبر تويتر والمادية، إذ إن أهمية المدينة الدينية والسياسية -بما تحمله من صراع حاد ومستمر بين الفلسطينيين والاحتلال من جهة، وقدسيتها ورمزيتها الروحية لعموم المسلمين من جهة أخرى- منحتها أولوية فريدة في هذا الاهتمام؛ الأمر الذي أدى إلى نشر عددٍ هائل من الأدبيات المعرفية، وفي كافة المجالات، بشأنها.
ورغم الكم الكبير من هذه الأدبيات فإن تناول الجانب الشعبي أو الإنساني لهموم وآمال المقدسيين بقي محدودا كما، وفقيرا نوعا؛ فنادرة هي المنشورات التي “اقتحمت” الحياة التفصيلية والحساسة لأبناء القدس المهددين -دوما- في أرواحهم وأرزاقهم واستقرارهم من الاحتلال الإسرائيلي.
هذا “الاقتحام” وجدناه مؤخرا يأخذ جولة جديدة عبر قلم إعلامية مقدسية شابة، شقت طريقها في ميدان الإعلام سريعا، لتُخرج لنا مؤلفا يتضمن حوارات مستفيضة مع خمسين شخصية من نساء القدس ورجالها؛ لتسرد لجيلنا، والأجيال القادمة، قصة القدس على مدى قرن من الزمن.
إنها قصص حية ممن وُلدوا في حارات القدس العتيقة، وتنفسوا عبق الأقصى ووهج قبة الصخرة، قصص تلاحم فيها الإنساني مع السياسي، والأدبي مع التربوي، والثوري مع القانوني، والفن مع الفكر.
شرائح منوعة
ويمكن القول إن المؤلفة ديما دعنا لم تترك شريحة من شرائح المجتمع المقدسي إلا قدمت ناطقة أو ناطقا باسمها للتعبير عن همومها وهموم المدينة المقدسة، فثمة رجال دين وشخصيات سياسية واجتماعية، وصحفيون وأدباء وفنانون ومؤرخون وأكاديميون، وأطباء ومهندسون ونقابيون، وثمة ناشطات في حقل الخدمة الاجتماعية وناشطون.
في هذا الكتاب سلسلة من الشهادات الحية على مرحلة تاريخية بأكملها، وفيه مجموعة متكاملة من السير التي تقدم واقع المدينة المقدسة من خلال الأشخاص، وتقدم في الوقت نفسه حياة الأشخاص من خلال المدينة.
وفي الكتاب تروي المؤلفة أقباس من زوايا الماضي الذي لا يزال حاضرا في قلوب من عاصر أحداث وظروف الوطن لحظة بلحظة منذ الانتداب البريطاني حتى الاحتلال الإسرائيلي المغتصب لأرضنا، وقاتل شعبنا وسارق ممتلكاتنا.
ومن خلال هذه المشاهدات الحية يمكننا الاطلاع على التفاصيل الخاصة بأبرز منعطفات التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني، ابتداء من الإرهاصات الأولى للوعي بمخاطر الغزوة الصهيونية لفلسطين، مرورا بالثورات الفلسطينية المتلاحقة، وتوقفا عند النكبة عام 1948، وكذلك عند هزيمة يونيو/حزيران 1967، وما تلاها من هبات شعبية وانتفاضات، وممارسات تعسفية إسرائيلية، هدفها تفريغ مدينة القدس من أهلها المسلمين والمسيحيين، وطمس هويتها؛ تمهيداً لتهويدها.
ويسرد الكتاب قصصا لم ترو من قبل، ولم يذكرها كتاب تاريخي، فالكتاب هو الأول من نوعه في التاريخ المقدسي الشعبي، وذلك لأنه يحتوي على قصص وحكايات وروايات حقيقية ودقيقة وأكثر واقعية من كتب التاريخ المختلفة، لأنها رويت على لسان أصحابها الأصليين.
وفي هذا الخصوص، تقول الكاتبة “التقيت خمسين شخصية مقدسية، لأوثق تاريخ وطن بمكانه وزمانه وأناسه، التي كافحت وناضلت في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فجبت معها أروقة الزمان والمكان، وحفظت حكاياتها منذ نعومة أظفارها، مروراً بأحداث مختلفة مرت بها: من فقر وجوع وتشريد وهجرة وحرمان، وتعريجاً على أبرز محطات حياتها، ورصدت تحركاتها التي تعبر عما تشعر به، ولمست تواضعها وأخلاقها الرفيعة وإحساسها المرهف، فتعلقت بها وبماضيها الحزين منه والمفرح
وتضيف دعنا: “يظن البعض أن زمان هذه الشخوص كان جميلاً، ولكن حين تسمع حكاياتهم تصيبك الصدمة، لأن زمانهم لم يكن سوى حرمان وحروب وظلم كبير، فهم عاشوا ظروفاً قاسية لم يعرفوا فيها الوطن إلا في ظل احتلال، فليست لديهم طفولة عاشوها، ولا شباب تنعموا به، وكبروا وهم يحلمون بالعودة إلى ديارهم وأراضيهم وممتلكاتهم التي سُلبت دون سابق إنذار.
وفي قراءة متأنية ودقيقة للكتاب نجد أن أبرز الموضوعات التي تطرقت إليها شخصيات الكتاب تمثلت في: الطفولة، والمدرسة، والتعليم الجامعي، والوظيفة، والنضال الوطني، والتشرد، وحكايات ثورة فلسطين الكبرى عام 1936، وأحداث النكبة والنكسة، وحديث المنفى والاغتراب، وسقوط القدس بيد الاحتلال الإسرائيلي، والعمل النقابي، والمشاركة في الانتفاضات، لا سيما انتفاضة الحجارة والقدس، والانتهاكات الإسرائيلية بحق الإنسان والمكان في القدس، والعمل التطوعي، والعمل الحزبي، والانضمام للأحزاب القومية العربية، والتجارة، وهدم البيوت، وحياة الفقر والحرمان، تلازماً مع قوة الإرادة ومواجهة الصعاب، والزواج، والإقامة الجبرية، والزواج، واتفاق أوسلو، والوجود المسيحي، وسواها.
صوت النساء
إلى ذلك، كان “الصوت النسائي” ملحوظاً -وإن كان محدودا في العدد- إذ إنه من أصل الشهادات الخمسين التي اشتمل عليها الكتاب نجد عشر قصص لنساء مقدسيات، كان لهن دورٌ وأثر في الحياة المقدسية والفلسطينية عموماً، فمنهن من بذلت جهوداً مثمرة في مساعدة اللاجئين بعد النكبة كجورجيت رزق، ومنهن من ترك بصمة في الحقل التربوي والتعليمي، مثل سامية خوري، وعليا نسيبة، وماهرة الدجاني، ونديرة أبو غزالة. وأخريات كان لهن دورٌ مشهود في الحياة السياسية والاجتماعية، أمثال: فدوى خضر، وفريدة العمد، ونورا قرط، وهند خوري، وزهيرة كمال.
وفي السياق ذاته، تورد بعضاً من الأقوال حول القدس لعدد من الشخصيات التي احتواها الكتاب، فالأديب إبراهيم جوهر نراه يصف القدس قائلاً “القدس هي أقحوانة الروح التي انتزعت من البستاني الفلسطيني وأصبحت وحيدة، لذلك أخاف من تناسيها والسماح للإسرائيليين بالتفرد فيها إلى درجة منع أي نشاط له علاقة بالهوية والانتماء الفلسطيني، وها هو الاحتلال يجسد خططه بإفساد الشباب بكل الطرق والوسائل المتاحة، لكن مع ذلك وجودنا في القدس هو نوع من الصمود”.
أما عالم التربية البروفيسور أحمد فهيم جبر نجده يقول “أنا متعلق بالقدس جسديا وروحيا حد التماهي فيها، فلن أجد أجمل منها، ولا أطيب من الهواء فيها، وليس هناك أفضل من مناخها، هذا عدا عن قدسيتها وكونها أطهر بقاع الأرض، ومن عاش في القدس وترعرع فيها كيف له ألا يحبها ويفديها”.
بدوره يقول طبيب الأسنان والرائد في العمل التطوعي حنا طليل “إن القدس غير قابلة للتغيير رغم كل التغييرات التي حصلت وتحصل، القدس هي بذاكرتنا يصعب على أي أحد أن يشوه صورتها أو يغيرها، فهي بقلوبنا حية وستبقى حية مهما استمرت كل المحاولات لتغييرها”.
مدينة لا مثيل لها
ويصف العالم في اللغة والإسلاميات عبد الرحمن عباد القدس قائلا “لا يستطيع أي شاعر في العالم أن يصف القدس بكلماتٍ وأسطر، فهي المدينة التي لا تموت مهما حاول البعص تدميرها أو تشويهها أو حتى سرقتها، هي المدينة التي لا مثيل لها في الوجود، هي الأرض والتاريخ والأم الحنون، القدس تمثل فلسطين كلها، ولكن كل فلسطين لم تمثل القدس، يمكن أن يكون الجزء معمماً على الكل ولكن لا يمكن للكل أن يستثني هذا الجزء.
المطران د. منيب يونان من جهته يسرد تجربته قائلا “تعلمت من القدس الكثير، منها: أن أكون إنساناً حوارياً مع الأديان، وأن أدافع عن حقوق الإنسان، وأن أحب السلام العالمي”.
بينما تعرض أما زهيرة كمال -أول وزيرة لشؤون المرأة في السلطة الفلسطينية وأمين عام حزب فدا- روايتها بالقول “القدس هي حياتي، ولا أستطيع العيش خارجها، وأنا حزينة لما يحدث فيها، فقد كانت بداية الستينيات من القرن المنصرم العاصمة والمدينة الكبيرة والمشهورة بثقافتها، فكانت تعد المركز الطبي والتعليمي وكل ما فيها هو الأفضل ومعروفة بطهارتها وقدسيتها، فأتمنى أن تعود كما كانت”.
وبهذا، فإن كتاب ديما دعنا يمثل محاولة جادة في سد ثغرة معرفية حول التاريخ الشعبي والإنساني لمدينة القدس بكل تفاصيلها الزمانية والمكانية على مدى قرن من الزمن. كتاب من شأنه أن يفتح أفقاً للعديد من الباحثين والإعلاميين الفلسطينيين للتوسع في سرد شهادات لشخصيات مقدسية أخرى لم يُسعف الكاتبة تناولها؛ لضيق ما هو متاح لها من وقت ومساحة للتغطية