أصبحت فلاحة مصرية أصيلة منذ نحو خمسين عاماً، بعد مكوثها في أحد البيوت الريفية في قرية “تونس” بمحافظة الفيوم، الطراز المعمارى الرائع لقرية تونس جعلها تتمسك بها, فتركت بلدها “سويسرا” وقررت العيش مع زوجها حينئذ الشاعر سيد حجاب.
انها الفنانة العالمية “إيفلين بورية” والتى رحلت عن عالمنا اليوم الثلاثاء 1/6/2021. اكتشفت “إيفلين” عند أهل قرية “تونس” موهبة فنية يتوارثونها ويعملون بها، هي صنع الفخار. ورغم أنهم لا يحملون مؤهلات علمية، فهم يملكون خبرة بالفن وتنفيذ ملامح الطبيعة على الفخار. لذا قررت إيفلين بورية أن تفتتح مدرسة لتعليم صناعة الفخار بشكل عملي وحرفي.
عاشت إيفلين مثل أي امرأة مصرية، ترتدي ملابس الفلاحة، تأكل الطعام الريفي، وتشرب من مياه “الطلمبة.
جمعت معظم سكان القرية من النساء والشباب, وقد ارتكز اهتمامها على الشباب والأطفال والفتيات، إلى أن وصل عدد الملتحقين بالمدرسة سنوياً 100 وتزداد الأعداد أثناء الإجازات الصيفية، ليصل إلى 500، ما عدا العاملين من سكان القرية بالفعل في المهنة من دون الحاجة إلى تعلم. من خلال مشروعها تمكنت إيفلين من تحويل القرية إلى معارض صغيرة للفخار. ففي كل بيت ورشة ومعرض صغير بشكل يواكب المعارض الدولية.
أصبحت إيفلين صاحبة الفضل العظيم فى تنمية قرية تونس ووضعها على خريطة صناعة الخزف العالمية والسياحة الداخلية لقرية تونس.
كما انها ساهمت في انتعاش حركة السياحة للقرية وكانت عامل جذب للزائرين للمنطقة، كما ساهمت في تعليم عدد كبير من الفتيات والسيدات صناعة الفخار والسجاد اليدوي.
عاشت حياة فلاحي مصر البسطاء وعاشت في القرية رغم إمكانياتها الضئيلة منذ 50 عاماً تاركة بلادها الغارقة في الرفاهية، فقد كانت تعيش على مياه الطلمبات الحبشية التي تستخرج المياه من باطن الأرض وتضئ منزلها بموقد الكيروسين وقت كانت القرية غارقة في الظلام ولم تدخلها الكهرباء بعد.
تخرجا ايفيلين من كلية الفنون التطبيقية جاءت إلى مصر في أوائل الستينيات مع والدها الذي كان يعمل في مصر وتزوجت الشاعر سيد حجاب وحضرت لقرية تونس فانبهرت بالحياة البدائية بها، وقررت الإقامة فيها حتى بعد انفصالها عن زوجها كما أوصت بأن تدفن في حديقة منزلها بعد وفاتها.
المثير أن الفنانة الراحلة أصيبت مثلها مثل غالبية المصريين الذين يعيشون في القرى بالبلهارسيا وكذلك أولادها وتم علاجهم منها لكن كان أكثر ما يؤلمها هو عدم منحها الجنسية المصرية، مما كان يضطرها لتجديد إقامتها سنويا الأمر الذي دفع أهل القرية وعددا كبيرا من المواطنين للتقدم بطلب للمحافظ ومدير الأمن لحل مشكلتها وتوصيل طلبها لوزير الداخلية، والذي بدوره استجاب وقرر منحها إقامة طويلة لحين إنهاء إجراءات الجنسية, التى لم تحصل عليها حتى وفاتها بالأمس.
كانت ايفيلين حريصة دائما على إقامة عدد من المعارض المحلية للفخار من منتجات أهل القرية ومعارض دولية، إلى أن أصبحت فرنسا أولى الدول التي اهتمت بمعروضات القرية، كما جرى تكريم العشرات من أهل القرية في المعارض الدولية والمحلية على يد المسؤولين في مصر وخارجها. كذلك ساعدت أهل القرية في بيع المنتجات بأسعار جيدة. ودفع التطور الذي أدخلته ايفيلين إلى مهنة صناعة الفخار في قرية تونس، العديد من المستثمرين إلى إقامة فنادق سياحية يؤثر دخلها على القرية اقتصادياً.
تقول الفنانة راوية محمد، أشهر صانعة للخزف في قرية تونس: “تعلمت صناعة الخزف في سن العاشرة في مدرسة إيفلين، وكان الاختلاف بيني وبين الآخرين هي منافستي لهم. إذ كنت أول فتاة تدخل المهنة، وتتعلم صناعة الخزف. وقد ساندتني السيدة إيفلين لأنني كنت تلميذتها الأولى فأخذت شهرة أكثر من أي شخص في القرية”.
يقول عبد الرحمن، صاحب بازار في القرية :”الجميع في القرية تعلموا الخزف من مدرسة مدام إيفلين وأنا أحدهم. وهي حوّلتنا إلى مبدعين”. ويضيف: “لذلك أصبحت قرية تونس بازاراً مفتوحاً أمام الجميع، ويقام فيها العشرات من المهرجانات الخاصة بالفن والإبداع”.
أطرف ما قالته إيفيلين وبلهجة مصرية إنها تعشق الفول والفلافل وتستمع لفيروز وأم كلثوم وتشجع الزمالك وفريق المقاصة، وهو النادي التي ينتمي لمحافظة الفيوم.
ماتت أيفليين وهي لم تحصل على الجنسية المصرية، رغم مطالبتها بها منذ زمن طويل، ورغم إقامتها الدائمة في مصر منذ اكثر من 50 عامًا، حيث تعيش بموجب إقامة مؤقتة تُجدّد بصفة دورية كل عام، وعن ذلك قالت: “زمان لما كنت متزوجة من الشاعر المصري سيد حجاب كان سهل أحصل على الجنسية، لكنني لم أكن مشغولة بهذا الأمر، والآن أصبح الأمر صعبًا للغاية، خاصة بعد زواجي من سويسري”.