إيقاعات الصمت في رواية الياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم»
«أنا ابن حكاية خرساء، وأريد للحكاية أن تنطق على يدي»
لم يكن تهجير الفلسطينيين من أرضهم والاستيلاء عليها هي الجريمة الأفظع التي ارتكبها الإسرائيليون، فهناك جريمة أخرى ارتكبت بحق آخر من تبقى من سكان مدينة اللد، حين تمّ تحويلهم إلى أولاد غيتوات صغيرة بعد محو أسماء بلادهم.
حصل هذا عام 1948 بعد الطرد الكبير حين بنى الجيش الإسرائيلي سياجاً حول الحي الذي أصبح اسمه الغيتو. علماً بأن ما جرى في اللد يمكن تعميمه على جميع المدن الفلسطينية، فكل من بقي من سكان الرملة ويافا وحيفا وعكا أقام في غيتوات مغلقة فترة سنة كاملة انحفر فيها الغيتو ليصبح علامة شعب كامل قبل أن يقرر الجيش الإسرائيلي إزالة الأسلاك. ليس هذا فحسب، فهناك جريمة أكبر جاءت بعدها، وكانت محض اهتمام هذه الرواية المهمة «أولاد الغيتو: اسمي آدم» وهي جريمة فرض الصمت على شعب كامل مهزوم بقوة لغة الضحية اليهودية التي سادت العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية إثر المحرقة النازية. كان على الفلسطينيين أو أولاد الغيتو في اللد أن يموتوا ويحرقوا ويشردوا بصمت، كما الخروف يُساق إلى الذبح من دون أن يفتح فمه، في وقت جندت فيه الحكايات والأفلام السينمائية لتروي عذابات اليهود وإحراقهم واضطهادهم، كما في فيلم كلود لانزمان «شواه».
ومن هنا تتساءل الرواية: «هل نترك كتابة التاريخ للصهاينة وحدهم؟». يكفي أنه في وقت هوت فيه هذه المدينة «اللد» وأصبحت أشلاء مقطعة، كانت مصادر توثيق سقوطها إسرائيلية حصراً، ولا وجود لمصدر عسكري فلسطيني واحد قام بتوثيق المعركة، لذلك تسأل الرواية: من قال إن التاريخ الذي كتب عن فلسطين حقيقي، وليس حفلة تزوير شاملة قام بها المنتصرون؟ العالم كله يعرف حكايات غيتو وارسو، لكنه لا يعرف حكايات غيتو اللد التي يعرفها الراوي البطل «آدم» ويعرف بالمثل أن اليهودي الذي كان ضحية في يوم من الأيام، جعل من الفلسطيني ضحية الضحية منذ أن أقفل مدينته ومنع من بقي فيها من التنقل للعمل إلا بإذن من الحاكم العسكري، إمعاناً في إذلال الناس وإفقارهم وتجويعهم، ومن ثم الاستسلام لمصير جديد يقفون معه عاجزين عن مقاومة مصادرة أراضيهم. لذلك فإن «آدم» كثيراً ما حاول أن يشرح للإسرائيليين بأن لا حق للضحية أن تتصرف كجلاديها: «أن تكون ضحية لا يعطيك الحق في التضحية بالآخرين، بل يحملك مسؤولية مضاعفة عنهم». الرواية عموماً تبدأ بلعبة إيهامية تزعم أن لقاء قديماً تمّ بين صاحب المقدمة التي تتصدر الرواية – وهو أستاذ جامعي مقيم في نيويورك- مع دفاتر جامعية عادية مسطرة وصلته عن طريق إحدى طالباته، بل يمكن للقارئ أن يفترض أن الروائي الياس خوري هو صاحب هذه المقدمة بالإحالة إلى رغبة تملكته وامتنع عنها كي ينشر هذه الدفاتر فيحقق حلمه في جزء ثان من «باب الشمس». يسترسل الكاتب أكثر في هذه اللعبة حين يعد القارئ بأنه سيخوض في الصفحات المقبلة تجربة قراءة مخطوط كامل لم يضف إليه أي كلمة، وأنه اكتفى بوضع عناوين داخلية له. نعرف عن هذا المخطوط أيضاً أنه نجا من حرق كان صاحبه قد هيّأه له، ليغدو من بعد ذلك نصاً منشوراً في دار الآداب في بيروت.
حين تصير النهاية استعارة للبداية يصبح للاسم «آدم»ما يؤهله ليكون واحداً من مفردات قاموس أضداد العرب. «وهو ما يظهر جلياً في رواية يحمل فيها البطل الراوي اسماً منسوباً إلى آدم عليه السلام: «هو العلامة الأولى التي أشارت إلى علاقة الإنسان بموته». إذ لا شيء يدوم سوى العلاقة بأديم الأرض. من هنا يأتي هذا الاسم منسجماً وحكاية ابتدت – كما آدم الأول – بسقوط حوّله إلى كائن يموت ويعي أن الموت سر الحياة. «يُحكى أن أحدهم وهو مأمون الأعمى كان قد وجده مرمياً تحت شجرة زيتون في حضن أمه التي فارقت الحياة، وفي اللد أعطي للممرضة منال التي جعلته ابناً لها. ليكون آدم كما الإنسان الأول والنبي الأول، ولد بلا أم، وكان عليه، كما تقول الحكاية، أن يلد أمه وامرأته من ضلوعه». يكبر آدم ويصبح شاباً يدرس الأدب العبري في جامعة حيفا، ومن ثم يعمل صحافياً يكتب عن الموسيقى الشرقية في يافا. ينتقل إلى تل أبيب، ومن بعدها يهاجر إلى نيويورك وينصرف إلى العمل في المطعم. اخترع لنفسه ذاكرة جديدة، جعلت منه مواطناً في دولة إسرائيل ليتسحاق دانون وزوجته المريضة القادمين من غيتو وارسو. ما يجعل منه ذاك المتنكر لهويته بسبب شعوره بالعار من نزوح اللاجئين، إلى أن تأتيه لحظة يلتقي معها العربي النائم في داخله بالمواطن الإسرائيلي، وينقلب في ذهنه السؤال إلى نقيضه إذ كيف يُطرد شعب كامل ويُعفى المجرم من أي مسؤولية أخلاقية؟ حينئذ تقفز إلى ذهن آدم رغبة تحثه على جمع نتف حكايات تعينه على رسم صورة ولو جزئية عن سقوط يعيده إلى أصله العربي.
عبر أكثر من إشارة.
كتابة الأخرين
في العمل نلمس انزياحاً متكرراً عن ثوابت سردية معتادة. لعلّ أبرزها ما يمكن ملاحظته من رفض متكرر للحدود الأجناسية التي يفرضها التقليد. وهو ما يردده البطل «آدم» ذاته المعلن عن نجاته من ورطة كتابة الرواية: «لن أكتب رواية. هذه ليست رواية». ليكون النص برمته قد خلع عن نفسه قوانين الجنس الأدبي بتأثير من مجموعة تحولات ثقافية إيديولوجية منتزعة من نسيج معقد للتجربة الإنسانية. بطبيعة الحال فإن مرونة في الحدود الأجناسية لا تلغي وعياً بأن ما نقرؤه هو رواية بما تتيحه – وفقاً لباختين- من إمكانية إدخال جميع أنواع الأجناس فيها، بما في ذلك تلك غير المندرجة في الأدب، كما فعل الياس خوري هنا حين عمد إلى إدخال أعمال وليد الخالدي وعارف العارف وإدوارد سعيد وغيرهم، بما يعد رافداً حركياً يغني الرواية ويمنحها فرصة التجدد بعيداً عن قوانين وملامح ثابتة. ومن هنا تحضر في الرواية معطيات تاريخية جنباً إلى جنب مع معطيات أدبية روائية، أو حتى شعرية في إطار كتابة غير حدودية تسمح بالتعامل مع كتابة الآخرين بما في ذلك نصوص أدبية عبرية يتناولها الكاتب بالنقد والتحليل. لنكون في نهاية الأمر قبالة جنس أدبي «غير متأكد من وجوده أصلاً». لكن هذا لا يتعارض وحتمية وجود اشتراطات شكلية كما يقول الراوي البطل نفسه: «حين يكون النص بلا شكل، فإنه لن يدخل في أي خانة أدبية». فأيما حديث عن صدق أدبي يقتضي بالضرورة إحالة إلى جماليات الشكل، لأن أحداً منا لا يمكن أن ينكر أن الأدب هو موضوع جمالي، لكن هذا بطبيعة الحال لا يلغي ضرورة التخلي عن استراتيجية الفصل بين الأدب والقيمة الإنسانية.
عوداً إلى مفردة الصمت التي يتواتر حضورها في الرواية باعثاً فيها خيطاً جمالياً ما إن تنكشف أسراره حتى يدرك القارئ أنه يقف قبالة نسيج فني محكم ومرسوم بعناية. وهنا يحضر السؤال التالي: هل كان الموت والمنفى هما وجه الصمت الذي تسلل فعلاً إلى كلمات الأدب الفلسطيني كما يرد في الرواية؟ آدم يقول:»إن ميزة أدب النكبة الفلسطينية هو أنه صنع من صمت الضحية فواصل تعيد بناء الصورة الشعرية». كما في «المتشائل» لإميل حبيبي حين صمتت المرأة الطنطورية ولم ترو لزوجها حكاية المذبحة التي ذهب ضحيتها العشرات من رجال القرية الفلسطينية الساحلية معلنة «أن لغة الصمت هي لغة الفلسطينيين الجديدة». وكما في «رجال في الشمس» حين صمت الرجال ولم يدقوا جدران الصهريج. وهنا نقول: إن تكراراً لكلمة ( الصمت) بإيقاعات متنوعة يحيلنا إلى التساؤل إن كانت هذه المفردة قد حملت مدلولاً واحداً طيلة السرد؟ أم إن تبدلاً في معناها وقع ليحقق انسجاماً ممكناً مع ما تطرحه كريستيفا حول منطق العلامة الانتقائي حين تعطى لكل علامة أكثر من معنى، ليظل السؤال قائماً حول خضوع هذه المفردة لمبدأ التحول اللانهائي؟
حياة الغيتو
يلاحظ قارئ الرواية أن مخطوط آدم واظب على طرح ترسيمة الفلسطيني الصامت الذي لم يكتب عن النكبة إلا شذرات، قبالة ما فعله إسرائيلي أكمل الحكاية ونشرها من منظوره. وهو ما تضعه الرواية في إطار ثنائية جلاد يمتلك لغة الكلام وضحية لا لغة لها إلا صمت يتشكل «كوشوشات أو همهمات تكون الكلمات فيها كسراً من الأحرف، والتعبير علامات ترسمها الأيدي، أو العيون التي فقدت بريقها». لذلك ظلّ آدم يذكر «منال» أو أمه التي تبنته بكثير من الصمت، وهو ما قابله بصمت آخر في علاقة معها بدا فيها أخرس وعاجزاً عن التعبير عن مشاعره. لكنّ هذا لم يلغ أن للصمت صوتاً وإيقاعات مختلفة: «إيقاعات المعنى في فواصل الصمت» أو لكأن الضحايا وبشكل لا واع أخذت قراراً بأن لا جدوى من الكلام، فحين صحا أهل اللد على سكون مخيف لفّ مدينتهم التي أفرغت من سكانها «عشّشّ خوف الناس في أصوات الصمت التي احتلت ليالي الغيتو ونهاراته الطويلة.. لا أستطيع أن أصف حياة الغيتو بغير عبارة همس الصمت حتى بكاء الأطفال تحول إلى أنين خافت». كل شيء تم بصمت بما في ذلك عملية رفع الجثث، وهو صمت يصفه آدم بأنه نبيل لدرجة أنه فكّر حين كسر مراد صمته وحكى ما حدث في تلك الأيام المأساوية في الغيتو بأنه ما كان عليه أن يكتب ما استمع إليه، ولربما «يجب على المأساة أن تبقى ملفوفة بالصمت، لأن أي كلام عن تفاصيلها يشوه صمتها النبيل». «كان مراد على حق في صمته. صمت مراد يشبه صمت وضاح اليمن». ولكن هل كان مراد فعلاً محقاً في صمته؟
قبل المضي في الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى سياق داخلي هو بمثابة مظهر دينامي يتجلى في تفاعل الرواية مع نصوص مختلفة موزعة داخل النص بأساليب متنوعة لتقول الصمت ذاته. وهو ما تقرّ به الرواية حين يرد على لسان آدم أن «كل كتابة هي شكل من أشكال إعادة الكتابة»، بل إن ما يطلق عليه اسم سرقات أدبية قد يعادل الإبداع أحياناً – إن لم يتفوق عليه – حين يقوم الأديب بتوظيف خيال الآخرين من أجل خدمة خياله. ومن هنا تحضر رواية «رجال في الشمس» مع صرخة السائق لماذا؟ التي تحلق بين فضاء خرس الفلسطينيين وصمم العالم عن سماع صراخهم. وبالمثل يحضر يزهار الإسرائيلي في رواية تعترف بالجريمة الإسرائيلية حين وصفت عملية طرد الفلسطينيين من قريتهم وهدم بيوتهم، وهنا يبرز آدم محللاً وناقداً بل ومعالجاً واحدة من ثوابت الأدب الإسرائيلي وهي ترسيمة الفلسطيني الأخرس التي يربطها آدم بمشهد توراتي يجعل من الفلسطينيين «العميان والعرجان والعجزة والأطفال».
قبل «رجال في الشمس»وسؤال لماذا الذي جاء من خارج الخزان، يأتي آدم بحكاية الشاعر وضاح اليمن الذي دفن في صندوقه صامتاً بعد أن أمر الخليفة بهذا إثر شكوك راودته بوجود علاقة حب تربط الشاعر بزوجة الخليفة. هنا أيضاً كما في السابق يأتي سؤال لماذا ملحاً رافضاً الاكتفاء بالإجابة عنه من خلال راو يأتي من الخارج منهياً الحكاية على لسان الملك كي لا يعلم القارئ عن مصير الشاعر العاشق سوى الموت، بما يترتب عن هذا من إهمال لتجربة الضحية الهائلة المخزونة في عتمة الصندوق في الداخل. وهو ما يرفضه آدم حين ترك الفسحة واسعة لمناقشة بلاغة الصمت والموت عبر حوارات جادّة غايتها استكشاف معناه السياسي والأخلاقي. لذلك نجده مصراً على معاودة إيقاظ السرد من وجهة نظر الضحية وليس من الخارج، كما حصل أيضا في»رجال في الشمس». هنا نقول: إن الروائي لم يأت بحكاية وضاح اليمن إلا ليؤكد ضرورة كتابة التاريخ من منظور مخالف، وهو ما يفعله الأدب أو ما تقوم به حكاية خيالية تتفوق على الخبر حين تنقل التجربة الإنسانية، ويكون بإمكانها قلب المعادلة لتكون الحكاية هي تاريخ المهزومين الذي لا يجرؤ المؤرخون على كتابته. من هذا المنطلق كان لا بد من قراءة أخرى من الداخل تلغي قراءة المنتصر وتطرح قراءة القتيل المنهزم الذي صمت وخضع للموت في إطار التفاني ونكران الذات وحماية الحبيبة، أو لعله صمت اليائس بعد اندثار حبه.
نخلص من هذا أن صمتاً نبيلاً أو حتى التواري وراء الاستعارة الرمزية لحكاية وضاح اليمن، كان لا بد من كسره وذلك من خلال حكاية آدم الذي عاش في الداخل الفلسطيني وأعلن من خلال مخطوطه: «أنا ابن حكاية خرساء، وأريد للحكاية أن تنطق على يدي». «أنا لست وضاح اليمن، ولن أموت في الصندوق». «أكشف الآن أنني عشت طوال حياتي في صندوق الخوف، وعليّ كي أخرج من الصندوق أن أكسره». ومن هنا تأتي حكاية أولاد الغيتو من داخل الصندوق لتخرج آدم من صمته وتحكي حقيقة الحكاية كما عاشها عبر ذاكرة «عارية وصادمة ومتناقضة ومتوحشة». لذلك كانت ذاكرة مؤلمة توازي الموت ذلاً. وعليه فإن نبلاً كان الصمت قد حمله في واحدة من معانيه يغدو أكثر اتساعاً حين تكسره رواية أراها إضافة جديدة حقيقية لتاريخ الياس خوري الروائي.
رزان إبراهيم, القدس العربي