المجلةبنك المعلومات

رأس مالنا الاجتماعي

حتى وقت قريب كانت النظريات الاقتصادية الغربية التي تضع معايير تقدم وتخلف المجتمعات البشرية تتجاهل مجموعة القيم والأخلاق الحاكمة للسياق الاجتماعي الذي تجري فيه عملية التنمية الاقتصادية، وكانت التنمية لها معايير مادية بحتة مثل متوسط الدخل الفردي، واستدامة الزيادة السنوية في الناتج القومي الإجمالي، إضافة إلى قدرة الدولة على توسيع إنتاجها بمعدلات أسرع من معدل النمو السكاني.

غير أنه مع إضفاء البعد الإنساني على عملية التنمية، بدأ يظهر تنامي الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والثقافية للتنمية الاقتصادية، خاصة أن هذه الأبعاد خلقت مؤسسات من رحم المجتمع المدني ساعدت شرائح مجتمعية عديدة لم تستطع الدولة خاصة في العالم الثالث مساعدتها، لا سيما مع تنفيذ برامج التكيف الهيكلي.

وفي هذا الإطار، ظهر مفهوم “رأس المال الاجتماعي” كساعد مهم في عملية تنمية المجتمعات، ويمكن تعريفه بأنه مجموعة القيم والأخلاق الاجتماعية التي تسهل عمليات التفاعل الاقتصادي والسياسي والتي تشكل البنية الأساسية للعلاقات الاقتصادية والسياسية، وتتجسد تلك القيم والأخلاق في هياكل وبنى اجتماعية تدعم أعضاءها وتدعم مصالحهم وتعضد تماسكهم.

وبالتالي فإن رأس المال الاجتماعي يسهل من تبادل العلاقات والسلع، ويقوي الثقة في عمليات ومؤسسات التبادل الاقتصادي ويزيد من كفاءتها وسرعتها، كما أنه يخلق علاقة قوية بين الدولة والمجتمع تسمح بخلق قنوات مؤسسية لمناقشة الأهداف والسياسات التنموية، وتلك الرؤية يمكن أن نلحظها بوضوح في كل من كوريا الجنوبية والهند1.

الإسلام.. هو الوعاء

واستنادا لهذا المفهوم فإن الدين الإسلامي -الذي هو وعاء رئيسي للقيم والأخلاق في المنطقتين العربية والإسلامية- يلعب دورا كبيرا في تشكيل رأس المال الاجتماعي، فالإسلام كقوة اجتماعية وسياسية استطاع أن يمد الشباب العربي المتعلم، المحبط في نفس الوقت، بالحماية الاجتماعية والأمل، وذلك في الوقت الذي لم تنجح فيه تجارب التحديث العلمانية في إشباع الحاجات الأساسية للإنسان العربي والمسلم، فالفئات التي تعرضت للتهميش وجدت في الإسلام فرصة لإعادة دمجها في البناء الاجتماعي والعمل على توطيد أركانها، وتوفير الخدمات الأساسية لها من مسكن وصحة وتعليم وغيرها، وأصبحت المساجد مراكز خدمية تنموية على درجة عالية من النشاط والهمة في خدمة الإسلام والمسلمين في كافة مجالات الحياة.

وتأتي تلك الخدمات التي يتم تقديمها للأفراد عن طريق المتطوعين الذين يدفعهم خدمة الدين والمسلمين، ومن الدلائل على ذلك قول الحق تبارك وتعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” صدق الله العظيم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم” صدق الرسول الكريم.

وقد استطاع الإسلام من خلال التجارب العملية العديدة على المستويين المحلي والإقليمي أن يوطد مفهوم رأس المال الاجتماعي على أساس القيم والأخلاقيات التي ينادي بها.

ولعل التجربة الماليزية  والاندونيسية في آسيا، والتجارب العديدة في دول الإسلامي التي لا يكفي المقام هنا لحصرها في مستواها القومي أو المحلي لخير دليل على نظرة الإسلام إلى رأس المال الاجتماعي وأهميته في التنمية والتحديث.

تجارب فاشلة وناجحة

ولبلورة مفهوم رأس المال الاجتماعي يمكن رصد بعض تطبيقاته في الواقع، خاصة أن هناك تلازما شديدا بين نجاح أو فشل التجارب التنموية في البلدان الإسلامية من ناحية، وتوافر أو انعدام رأس المال الاجتماعي من ناحية أخرى.

ففي مصر على سبيل المثال لعب رأس المال الاجتماعي دورا هامّا في التنمية، وتشير إحدى الدراسات في هذا المجال إلى تجربتين أولهما في منطقة مساكن إسكو بشبرا الخيمة شمال مصر. وركزت الدراسة على ثلاث جمعيات في ثلاثة مساجد في المنطقة، وكلها تابعة للجمعية الشرعية الرئيسية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية 2، وهي: مسجد قباء، ومسجد البكري، ومسجد النصر والتي تقوم بدور فعّال في تنمية المنطقة ومساعدة فقرائها وأيتامها من خلال تكاتف أعضاء الجمعية في العمل على إمداد الفقراء والمحتاجين بالمال اللازم عن طريق الزكاة والهبات وغيرها، بالإضافة إلى العمل مجانا كمتطوعين أو بأجر رمزي للغاية.

 

رأس مالنا الاجتماعي
رأس مالنا الاجتماعي

ورصدت الدراسة3 أهم الإنجازات التي تمت في مجال رأس المال الاجتماعي من خلال التطرق لإنجازات الجمعية في كل مسجد على حدة خلال خمس سنوات في الفترة من 1996- 2001، ففي مسجد قباء تقوم الجمعية برعاية حوالي (30) أسرة فقيرة بمساعدة لا تقل عن 25 – 50 جنيها شهريّا (الدولار = 6.20)، ناهيك عن الخدمات التعليمية والعلاجية المقدمة لكل من الفقراء واليتامى بالمنطقة والتي تصل إلى 2500 جنيه شهريّا كحد أدنى إجمالي لمساعدتهم، كما يساعد المسجد أيضا في زواج الفتيات اليتيمات بمساعدة تتراوح بين 500 – 2400 جنيه للفتاة الواحدة، كما يقوم المسجد بتقديم مساعدات عينية للأيتام في المناسبات الإسلامية كالأعياد وشهر رمضان.

وفي مسجد البكري وجدت الدراسة أنه تم تزويج (25 فتاة) يتيمة، وتم الإنفاق والتكفل بمصاريف تعليم 5 طلاب جامعيين وستة عشر طالبا حاصلين على شهادات متوسطة، كما قامت بكفالة نحو 189 طفلا، والإنفاق على تعليم 60 طفلا، ومساعدة 50 مسلما فقيرا في المنطقة، كما تم توظيف نحو 16 شابّا.

أما في مسجد النصر فقد قام المسجد بدور فعّال في تقديم الخدمات لأهالي المنطقة، حيث قام المسجد بتزويج (25) فتاة، وتعليم (10) طلاب، وعلاج 25 حالة مزمنة، كما تم توظيف (25) حالة من الحالات التي تحتاج إلى وظائف.

وقد توصلت الدراسة إلى عدد من النتائج معظمها إيجابية على مستوى عدد من المتغيرات شملت: درجة الثقة في أداء الجمعيات التابعة للجمعية، درجة الاتصال بالمترددين، كفاءة الخدمة، العمل على بث روح التعاون وتقوية الصلات الاجتماعية بين أعضاء الجمعية، والقدرة على بث قيم تولد الحركة الجماعية.

وفي منطقة أخرى في مصر تم دراسة حالة منطقة منشية ناصر بالعاصمة القاهرة. حيث تمثل حالة من حالات فريدة من حالات التواجد الفعال لتكاتف رأس المال الاجتماعي، ومن الجمعيات الفاعلة في تنمية هذه المنطقة هي جمعية “نهوض وتنمية المرأة” التي ساهمت بفاعلية في تنمية وتطوير المنطقة، حيث ساهمت في العمل على إقراض 8000 شاب بمبلغ إجمالي قدره 3.200.000 جنيه حتى عام 2002، وذلك ضمن برنامج القروض المقدم من الجمعية لأهالي المنطقة، وقد تم توجيه تلك القروض في منتجات جلدية 15%، ثم تلا ذلك مجال الدواجن والطيور 14%، ثم الخضر والفاكهة 11%، وتلا ذلك مجال الخياطة بنسبة 9%.

ومن هنا نجد أن أداء الحالتين المشار إليهما في تنمية وتطوير رأس المال الاجتماعي وفي ارتباطها بالجمعيات الأهلية واضح للغاية، خصوصا إذا ما علمنا أن ذلك الأداء إنما ينبع من وعي اجتماعي أساسه الدين والقيم الاجتماعية المتمثلة في مساعدة الفقراء والمحتاجين في كافة مجالات التعاون. (للمزيد حول تطبيقات رأس المال الاجتماعي في دول أخرى انظر:  جمعيات تخدم الفلسطينيين، زكاة غربية للانتفاضة، إغاثة العربان للهفان، استثمار “أموالنا الدينية”.. …)

عراقيل محلية وعالمية

غير أن تطبيقات رأس المال الاجتماعي التي أضحت منتشرة في دول العالم وخاصة المنطقة العربية تواجه عدة عراقيل، منها: الحملة العالمية على الجمعيات الخيرية، لا سيما وأنه تم ربط بعض هذه الجمعيات بتمويل الإرهاب.

كما استجابت بعض الحكومات العربية والإسلامية لهذه الحملة بإنكار الدور التنموي للجمعيات والمؤسسات الدينية في العالمين العربي والإسلامي، وطاردت تلك المؤسسات الخيرية، بالإضافة إلى ذلك فقد تحولت بعض هذه الجمعيات إلى عمليات ارتزاق لدى نخب مثقفة قادت هذه الجمعيات من أجل مصالحها الخاصة وليس مصالح المجتمع.

ومن ضمن العراقيل أيضا قلة الوعي في المجتمعات العربية والإسلامية بأهمية العمل الجماعي وكذلك التطوعي؛ بسبب تقوقع الأفراد على أنفسهم وضعف مستواهم الاقتصادي، مما يجعله يرى في التطوع مرهقا اقتصاديّا له.

بل إن الثقافة التغريبية في هذه المجتمعات العربية والإسلامية أضرت كثيرا برأس المال الاجتماعي، حينما قامت بتمييع بعض القيم الاجتماعية والدينية، مثل قيم التكافل والتضحية من أجل الآخرين، وإغاثة الملهوف، وغيرها من القيم المشكلة للبيئة المجتمعية.

إن الاهتمام بالمكون القيمي والأخلاقي والديني لهو السبيل لتطوير رأسمالنا الاجتماعي الذي أصبح ساعدا مهمّا من سواعد التنمية.

عمر راشد
باحث مصري في العلوم السياسية
نقلا عن إسلام أون لاين

زر الذهاب إلى الأعلى