المجلةبنك المعلومات

ميتشينكوف وإرليخ: رجلان كشفا خصائص جيشنا السري

كانَ الشابُّ محطَّ الأنظارِ؛ ليسَ بسببِ لباسِهِ الرسميِّ الذي يُوحِي بكونِهِ على وَشْكِ الزواجِ، لكنْ بسببِ حملهِ لفتاةٍ شاحبةِ اللونِ ترتدي فستانًا أبيضَ اللونِ يعتليهِ تاجٌ من ورود. فأما الشابُّ فهوَ “إيليا ميتشينكوف”، وأما الفتاة فتُدعى “لودميلا فيودورفيتش”.

كانا في طريقهما إلى كنيسةٍ بمدينةِ “سان بطرسبرج” الروسيةِ لإعلانِ زواجِهما، وكانتْ “لودميلا” تُعاني منَ السُّلِّ الشديدِ. وطيلةَ خمسِ سنواتٍ، بذلَ الطبيبُ “ميتشينكوف” كلَّ ما في وُسعِهِ لإنقاذِ زوجتِهِ، إلا أنَّها تُوفيتْ في بداياتِ ربيعِ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وثلاثةٍ وسبعين.

وعلى عكسِ كلِّ القصصِ الحالِمة؛ لمْ تشكِّلْ وفاةُ الزوجةِ دافعًا للبحثِ عنْ علاجٍ للسُّلِّ، إذْ عانى الطبيبُ منْ آثارِ الخَسارةِ لسنواتٍ، وحاولَ الانتحارَ مراتٍ عديدةً بجرعاتٍ زائدةٍ منَ الأفيون.. ولكنْ لحسنِ حظهِ -وحظِّ العالمِ- تمَّ إنقاذُه.

وبعدَ عامينِ، قابلَ فتاةً أخرى أعطتْهُ أملًا في الحياةِ، تزوَّجها، غيرَ أنَّها سَرعانَ ما أصيبتْ بحمى التيفوئيد. وعلى الرَّغمِ منْ أنَّها لمْ تمُتْ؛ فإنَّ حالتَها المتأخرةَ أدخلتْهُ في نَوبةِ اكتئاب. لمْ يقررْ في تلكِ المرةِ قتلَ نفسِهِ، بلْ حاولَ إجراءَ مجموعةٍ منَ التجاربِ اليائسةِ لمعرفةِ ما إذا كانَ ذلكَ المرضُ ينتقلُ عبرَ الدَّم. أجرى “ميتشينكوف” تلكَ التجاربِ على نفسِهِ، فلمْ تُكسبْهُ معرفةً جديدةً قادتْهُ للحصولِ على جائزةِ نوبل، بلْ كادتْ أنْ تقتلَه.

يعلمُ القاصي والداني الآنَ ما يعنيهِ مصطلحُ الجهازِ المناعي. بفضلِ ذلكَ الجهازِ، نَبقى على قيدِ الحياةِ. إذْ يُشكلُ خطَّ الدِّفاعِ اللازمِ لمواجهةِ الميكروبات والفيروسات وغيرِها منَ العواملِ المُمْرِضة.

غيرَ أنَّ تلكَ المعرفةَ حديثةٌ نوعًا ما. فخلالَ النصفِ الثانِي منَ القرنِ التاسعَ عشَر، اتضحَ للعلماءِ أنَّ العديدَ منَ الأمراضِ سببُها هجماتُ الكائناتِ الدَّقيقةِ، كما أقرَّ معظمُهُم بوجودِ جيشٍ داخلَ أجسادِنا يُساعدُها على صدِّ تلكَ الهَجَمات.

لكنْ، لمْ يعرِفِ الباحثونَ على وجهِ الدِّقَّةِ الأسلحةَ التي يستخدمُها ذلكَ الجيشُ إلا بعدَ إسهاماتِ الروسيِّ “إيليا ميتشنيكوف” والألمانيِّ “بول إرليخ”، اللذينِ حازا جائزةَ نوبل الطب عامَ ألفٍ وتِسعِمِئَةً وثمانيةٍ، بعدَ أنْ كشفا خصائصَ جَيشِنا السِّرِّي.

يعلمُ الجميعُ أنَّ الهدفَ الأسمى للعلومِ الطبيةِ هوَ محاولةُ وقايةِ البشرِ منَ الأمراضِ، وتوفرُ العلاجَ إذا لزِمَ الأمرُ، عبرَ استخدامِ الأدويةِ القادرةِ على محاربةِ المُمْرضاتِ، أو إعطاءِ الجسمِ القوةَ اللازمةَ لمقاومةِ هجومِها.

فيما يتعلقُ بالنُّقطةِ الأخيرةِ، فإنَّ إمكانيةَ الحصولِ على حمايةٍ ضدَّ أمراضٍ معينةٍ معروفةٍ منذُ زمنٍ طويل، إذْ لُوحظَ أنَّ الكائناتِ الحيةِ التي مرَّتْ بمرضٍ مُعدٍ ستحظى في كثيرٍ منَ الحالاتِ بالحمايةِ منَ التَّعرضِ للمرضِ نفسِهِ مرةً أخرى. وقتها نقولُ إنَّ الكائنَ الحيَّ اكتسبَ مناعةً ضدَّ هذا المرض.

لكنْ، هناكَ فرقٌ كبيرٌ بينَ “الملاحظةِ” والمعرفةِ الحقيقيةِ المبنيةِ على الدَّليلِ. هذا هوَ ما فعلَهُ كلٌّ منْ “ميتشينكوف” و”إرليخ”.. فقدْ قدَّما “الدليل”.

وُلِد “ميتشينكوف” عام ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وخمسةٍ وأربعينَ، في قريةٍ بالقربِ منْ مدينةِ “خاركوف” الروسية. كانَ والدُهُ ضابِطًا في الحرسِ الإمبراطوريِّ، ويملكُ العديدَ منَ الأراضي في سهولِ أوكرانيا. في سنواتِ عمرِهِ الأولى، أظهرَ شغفًا بالتاريخِ الطبيعيِّ وعلومِ النباتِ والجيولوجيا. التحقَ بجامعةِ المدينةِ وأنهى دراستَهُ في عامَينِ فقطْ بدلًا منْ أربعةِ أعوام.

بعدَ تخرُّجِهِ، عزمَ على دراسةِ الحيواناتِ البحريةِ، في كلٍّ منْ ألمانيا وإيطاليا. اكتشفَ في بدايةِ مشوارِهِ العلميِّ آلياتِ الهضمِ في نوعٍ منَ الديدانِ المفلطحةِ. وهوَ الاكتشافُ الذي كانَ لهُ تأثيرٌ على اكتشافاتِه اللاحقة.

بعدَ ذلكَ، قررَ “ميتشينكوف” دراسةَ الأجنةِ في الحيواناتِ. ليُلاحظَ وجودَ مجموعةٍ منَ البلاعِمِ تقومُ بالدفاعِ عنِ الحيوانِ حالَ وجودِ التهاباتٍ في خلاياه.

كانَ ذلكَ الاكتشافُ إبَّانَ فترةِ أعيادِ الميلادِ. وكانَ “ميتشينكوف” قدْ أعدَّ في وقتٍ سابقٍ شجرةَ الميلاد. نظرَ الرَّجلُ إلى الشجرةِ، وقررَ استخدامَ بضعِ أشواكٍ منها لعملِ التهابٍ في خلايا نوعٍ منَ الأسماكِ. وفي صباحِ اليومِ التالي، وجدَ أنَّ الأشواكَ التي وضعَها بالأمسِ محاطةٌ بالخلايا المتحركةِ. عرفَ “ميتشينكوف” على الفورِ ما يعنيهِ ذلكَ الأمر!

فوجودُ تلكَ الخلايا يعني أنَّهُ حينَ يحدثُ الالتهابُ في خلايا الحيواناتِ، تهرُبُ الكريَّاتُ البيضُ منَ الأوعيةِ الدموية، وتتوجهُ إلى مكانِ الالتهابِ وتحاولُ مهاجمةَ مُسبِّبِ الالتهابِ و”هضمَه”.

كانَ لذلكَ الاكتشافِ أثرٌ مذهل. إذْ تخلَّى “ميتشينكوف” عنْ فلسفتِهِ التشاؤميةِ، وعزمَ على إيجادِ أدلةٍ إضافيةٍ على فرَضيتِه.

وبالفعلِ، وجدَ الرجلُ العديدَ منَ الأدلةِ في أسماكِ المياهِ العذبةِ. وعرَفَ أنَّ عُصياتِ الجمرةِ الخبيثةِ التي تُهاجِمُ القشرياتِ يُصبحُ تأثيرُها أقلَّ ضراوةً حالَ مهاجمةِ الحيوانِ ذاتِهِ مرةً أخرى، ليخرجَ باستنتاجٍ مفادُهُ أنَّ الجهازَ المناعيَّ “يتعلمُ” التعامُلَ معَ الكائناتِ المُمْرِضَة.

طرحَ اكتشافُ “ميتشينكوف” سلسلةً لا نهائيةً منَ الأسئلةِ. كيفَ تتشكلُ تلكَ الأجسامُ؟ وما هي طبيعتُها؟ وكيفَ تتفاعلُ معَ البكتيريا والفطرياتِ؟ وكيفَ يتطورُ الجهازُ المناعيُّ للجسمِ؟ هنا؛ جاءَ دورُ شريكِهِ في الجائزةِ.. الألمانيِّ “بول إرليخ”.

وُلدَ “إرليخ” عامَ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وأربعةٍ وخمسينَ في مدينةِ “شتريلن” البولنديةِ والتابعةِ آنذاك للإمبراطوريةِ الألمانية. حصلَ على شهادةِ الدكتوراةِ منْ جامعةِ “لايبزيج”. كانتْ أطروحتُهُ تدورُ حولَ نظريةِ استخدامِ الصبغاتِ في تلطيخِ الأنسجةِ الحيوانيةِ للكشفِ عنِ الأمراض.

كانَ “إرليخ” رجلًا بشوشًا، يحبُّ الحياةَ، ويدخِّنُ ما يعادلُ خمسًا وعشرينَ سيجارةً يوميًّا. وهوَ الأمرُ الذي أسهَمَ في تطوُّرِ إصابتِهِ بالسُّل.

ورغمَ مرضِهِ في بداياتِ حياتِهِ، لمْ يدَّخرْ جُهدًا في سبيلِ تحقيقِ هدفِهِ.. اكتشافِ التفاعلاتِ الكيميائيةِ التي تَحدثُ بينَ الخلايا والكائناتِ المُمْرِضة.

كانتْ أولُ إسهاماتِ “إرليخ” هيَ ملاحظةَ أنَّ بعضَ الخلايا تمتصُّ الأصباغَ المختلفةَ بصورةٍ أسرعُ منَ الأخرى. بعدَ ذلكَ بوقتٍ قصيرٍ أصيبَ بعدوى السُّلِّ في مختبرِهِ. ذهبَ لمدةِ عامينِ إلى جنوبِ أوروبا ومصرَ معَ زوجتِهِ هيدويج بينكوس للتعافي. وبعدَ عودتِهِ إلى برلين، بدأَ إرليخ العملَ في مختبرٍ خاصٍّ صغيرٍ تمَّ تمويلُهُ بواسطةِ صِهرِهِ، وبعدَ ذلكَ تولى منصبًا غيرَ مدفوعِ الأجرِ في معهدِ الأمراضِ المُعديةِ، الذي بناهُ العالِمُ الشَّهيرُ الحاصلُ على نوبل، روبرت كوخ.

كانَ أولُ اكتشافٍ رئيسيٍّ يأتي من ذلكَ المعهدِ هوَ مصلٌ علاجيٌّ لمكافحةِ الخُناق. قامَ “إرليخ” بمعاونةِ “فون بيرينج” -العالِم الذي اكتشفَ ذلكَ المصلَ- في صناعتِهِ، غيرَ أنهُ قررَ الانفصالَ عنهُ وإكمالَ عملِهِ على جهازِ المناعةِ بشكلٍ فردي.

ومنْ داخلِ مخبزٍ مهجورٍ حوَّلَهُ “إرليخ” إلى مختبر. نشرَ نظريتَهُ الثوريةَ المعروفةَ باسمِ “السلسلة الجانبية”. والتي وصفَ فيها؛ بشكلٍ دقيقٍ؛ الطريقةَ التي يعملُ بها الجهازُ المناعيُّ. وشكلَ الخلايا المناعيةِ؛ كما كانَ أولَ مَنِ اكتشفَ أنَّ تلكَ الخلايا يُمكنُ أنْ تتحدَ معًا لقتلِ الميكروباتِ أو حتى الخلايا الورميةِ السرطانية.

سَخِرَ العديدُ منَ العلماءِ المعاصرينَ منْ هذا الاقتراحِ، وكانَ على إرليخ الانتظارُ عدةَ سنواتٍ قبلَ منحِهِ جائزةَ نوبل لهذا العمل. وعلى الرَّغمِ منَ الجائزةِ، لمْ تُصبحِ النظريةُ حَجَرَ الزاويةِ في علمِ المناعةِ إلا بعدَ ستينَ عامًا تقريبًا.

يعتقدُ العديدُ منَ العلماءِ المعاصرينَ أنَّ نظريةَ “إرليخ” ببساطةٍ كانتْ متقدمةً جدًّا في وقتِها، لدرجةِ أنها ظلتْ عصيةً على فهمِ علماءِ جيلِه.

ويبدو أنَّ السخريةَ منْ جائزةِ نوبل وإنكارَها لمْ يُزعجْ “إرليخ” على الإطلاق. إذْ واصلَ بحثَهُ ووجَّهَ انتباهَهُ في نهايةِ المطافِ إلى مساعٍ أخرى.

ففي عامِ ألفٍ وثَمانِمِئَةٍ وتسعةٍ وتسعينَ، عُرضَ عليهِ منصبُ مديرِ المعهدِ الملكيِّ البروسي للعلاجِ التجريبيِّ في فرانكفورت. وفرتْ لهُ هذهِ الفرصةُ المواردَ لإجراءِ أبحاثٍ أكثرَ تقدمًا. وسمحتْ لهُ سُمعتُهُ بالتعاونِ معَ فريقٍ متعددِ التخصصاتِ منَ العلماءِ. وهوَ الأمرُ الذي مكَّنهُ في النِّهايةِ منِ ابتكارِ علاجٍ لمرضِ الزُّهريِّ القاتل.

بعدَ أنِ اندلعتِ الحربُ العالميةُ الأولى، لاحظَ المحيطونَ بـ”إرليخ” متابعتَهُ المحمومةَ لتلكَ الحربِ. واشمئزازَهُ منْ عملياتِ القتلِ، وخلالَ أيامٍ، هاجمتْهُ نوبةٌ قلبيةٌ، تركتْ أثرًا في قلبِ الرجُل. وبعدَ أقلَّ منْ عامٍ، توقَّفَ خَفَقانُهُ، وكأنهُ يعلنُ أنَّ الرجلَ الذي أسهَمَ في كشفِ أسرارِ جيشِنا النبيلِ -جهازِنا المناعيِّ الحامي لأجسادِنا- لمْ يستطعْ تحمُّلَ أخبارِ القتلِ التي ترتكبُها جيوشٌ أخرى، لا تعرفُ عن النُّبل شيئًا.

المصدر

زر الذهاب إلى الأعلى