في صباح يوم غائم، هطلت الأمطار بغزارة على بلدة قصية في شمال سويسرا، كان الطريق زلقًا، والسيارات تسير ببطء مُمل، ومن بعيد، ارتفع صوت دراجة نارية يستقلها شاب يُدعى “ديوريكا ريزانوفيتش”. كان الشاب في طريقه لزيارة صديق في بلدة قريبة من بلدته الأم، إلا أنه لم يصل إلى وجهته أبدًا.
ففي أثناء قيامه بانعطاف خطير، انزلقت عجلات الدراجة النارية، ليسقط من عليها ويرتطم بسيارة أخرى مُسرعة، لحسن الحظ، لم يتضرر دماغه، إلا أن القدَر لم يمنع إصابة قدمه اليسرى. حضرت سيارة الإسعاف بعد دقائق معدودة، فقد خلالها الشاب جزءًا ليس بقليل من دمائه، وحين نُقل إلى مستشفى قريب، قرر الأطباء بتر قدميه حتى الركبة.
وعلى مدار سنوات تلت تلك الحادثة، تمكن “ريزانوفيتش” من تركيب عدة أطراف اصطناعية، تُعينه على المشي، إلا أن مشكلةً واجهته بضراوة –كما تواجه غيره من أصحاب الأطراف الاصطناعية- ألا وهي ضرورة التركيز في أثناء المشي؛ فتلك الساق يُمكن أن تُسبب السقوط كنتيجة مباشرة لعدم الإحساس بوجودها، وهو الأمر الذي تعرَّض له “ريزانوفيتش” عددًا من المرات.
ففي الوقت الذي فيه تُعَد الأطراف الاصطناعية أكثر تطورًا مما كانت عليه في القرن العشرين، لا يزال عيبها الرئيسي أنها ليست جزءًا من جسم الإنسان، وبالتالي، لا يُمكن أن يشعر مبتورو الأطراف بها، لذا يتوجب عليهم على الدوام مراقبة وضعية الساق، والتركيز عليها؛ حتى لا يقعوا أرضًا في أثناء المشي.
وعلى الرغم من أفضلية تركيب طرف اصطناعي على البقاء دونه، يتخلى الكثيرون من مبتوري الأطراف عن تلك الأجهزة؛ نتيجة زيادة عبئها المعرفي على الدماغ، وضعف حركتهم مع استخدامها، وتصوُّرهم عنها كـ”كائن خارجي” لا يمُتُّ لأجسادهم بصِلة؛ إذ يفضِّل بعضهم استخدام العكاكيز على الأطراف الاصطناعية.
والآن، نجح الباحثون في تلافي ذلك العيب، بعد أن تمكنوا من تصميم ساق اصطناعية ثورية، يُمكن الإحساس بها، دون الحاجة إلى مراقبتها على الدوام. فوفق دراسة نُشرت نتائجها مؤخرًا في دورية “ساينس ترانسيشنال ميديسن”، نجح الباحثون في زراعة أربعة أقطاب كهربائية في العصب الظنبوبي الموجود بالفخذ، لإيصال إشارات كهربائية من الساق الاصطناعية وإليها، وهو ما يعني توصيل الساق بالجهاز العصبي الحسي الموجود عند مبتوري الأطراف، كي تعمل بطريقة شبه طبيعية، تُماثل إلى حدٍّ كبير الطريقة التي تعمل بها السيقان البشرية.
Table of Contents
كيف يمشي البشر
لم يتضح تمامًا كيف يُنجز البشر المعجزة الروتينية التي يُطلق عليها “المشي” –ناهيك بالجري- إذ إن المشي البشري مُعقد بشكل استثنائي. لكن نتائج إحدى الدراسات العلمية السابقة التي نُشرت في دورية “البيولوجيا التجريبية” حددت الخطوط العريضة للتفاعل بين الكاحل والركبة والعضلات والأوتار والأعصاب، التي قد تُسهم في فهم الكيفية التي يتحرك بها البشر، والرئيسيات عامة.
تقول تلك الدراسة إن هناك مرحلتين من الحركة، في المرحلة الأولى يعطي الدماغ الأوامر للساق عبر مجموعة من الأعصاب المنتشرة في سائر أنحاء الجسم، تبدأ الساق في تلك المرحلة بتخفيف عبء دعم كتلة الجسم، إذ إن الساق التي تتحرك تتخفف من وزن الجسم الذي تحمله الساق الساكنة، تُسمى تلك المرحلة بـ”الدفع”.
ثم تأتي المرحلة الثانية، المُسماة بـ”الإطلاق”، وفيها تقوم الركبة بإطلاق سريع للطاقة المُخزنة في أوتار الكاحل، لتوليد دفعة قوية، تنطلق عبر عضلة الساق، التي تقوم بتضخيمها، تمهيدًا لتحريك الساق للأمام.
حين تؤدي حادثةٌ ما إلى قطع ساق بشرية، تنقطع معها كل الصلات العصبية والعضلية، وبطبيعة الحال لا يُمكن تعويض تلك الصلات بالطرف الاصطناعي مهما بلغ تقدُّمه، فالأطراف الاصطناعية عبارة عن كومة من المعادن والمفاصل المعدنية التي لا يُمكن الشعور بها على الإطلاق، إذ إنها لا تستطيع صناعة هذا التوافق العصبي العضلي على الإطلاق. لكن الباحثين في تلك الدراسة تمكنوا من تطوير ساق اصطناعية يُمكن أن تتوافق على المستويين –العضلي والعصبي- مع الجسم البشري.
التوافق العضلي العصبي
صمم الباحثون ساقًا معدنية ذات نهاية مطاطية، وضع العلماء ثمانية مجسات مُتصلة إلكترونيًّا بأربعة أقطاب كهربائية مزروعة في العصب الظنبوبي، تقوم المجسات الثمانية الموجودة في باطن القدم الاصطناعية بقياسات مُتعددة تتعلق بالحركة، تشمل تلك القياسات “وزن الجسم، وانحدار السطح، وقيمة الضغط، وزاويا المشي” وتقوم بإرسال تلك المعلومات إلى الأقطاب الكهربائية المزروعة في عصب الفخذ، الذي يقوم بدوره بتوصيلها إلى الجهاز العصبي المركزي، وبالتالي يستطيع الشخص المشي بسهولة ويُسر، ودون الحاجة إلى مراقبة وضعية الساق الاصطناعية.
ويقول الباحث الرئيسي للدراسة، ستانيسا راسبوبوفيتش، الذي يعمل في قسم العلوم الصحية والتكنولوجيا بمعهد الروبوتات والأنظمة الذكية في زيورخ: إن ذلك التصميم “طور مشاعر استعادة الساق من أجل مبتوري الأطراف ذوي الإعاقة الشديدة”، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن تلك الساق ساعدتهم على تجاوز العقبات وتسلق السلالم بشكل أسرع، “وهما مهمتان في غاية الصعوبة بالنسبة لمبتوري الأطراف”، على حد قوله.
ويُشير “راسبوبوفيتش” إلى أن تلك الساق الإلكترونية “مُتكاملة مع العصب المتبقي في الفخذ”، وهو الأمر الذي يُساعد أدمغة مبتوري الأطراف على اعتبار تلك الساق “امتدادًا للفخذ الطبيعية”، وهو أمر يصفه الباحث بـ”المذهل”؛ إذ سيؤدي إلى “زيادة ثقة المستخدمين، وانتشار واسع لتلك التقنية في المستقبل”.
محاولات سابقة
في عام 2014، نجح فريق بحثي من المعهد ذاته بالتعاون مع المعهد الفيدرالي السويسري بلوزان، فيابتكاريد اصطناعية، يُمكنها إعطاء إحساس اللمس لمبتوري الذراع. قام الفريق بتصميم ذراع يحوي أجهزة استشعارٍ متصلةً بنهايات الأعصاب الموجودة في الجزء المتبقي من الذراع المبتورة وبمنطقة أخرى في الكتف. استطاع المتطوع الذي قام بتركيب تلك اليد الاصطناعية الإحساس بالحرارة، كما تمكَّن من السيطرة على يده بشكل كامل، وميَّز –وهو معصوب العينين- الأشياء، إذ وصف بدقة الأشياء المستديرة، واللينة، والساخنة والباردة.
لبى العلماء بتلك الطريقة “حاجة سريرية كبيرة”، ألا وهي تحسين فاعلية اليد الاصطناعية وجودتها وواقعيتها؛ إذ إن الإحساس باللمس إحدى أهم الحواس التي يُمكن أن تجنِّب البشر إصابات متعددة وخطيرة.
إحصائيات صادمة
عالميًّا، تحدث حالة بتر واحدة كل 30 ثانية، وهذا يعني زيادةً سنويةً في عدد مبتوري الأطراف بنحو مليون شخص تقريبًا، ويعاني نحو 30% من هؤلاء الأشخاص من الاكتئاب المرضي والقلق، تبلغ تكاليف الرعاية الصحية لهم مدى الحياة نحو 509.275 دولارًا، مُقارنة بـ360.200 دولارًا للأشخاص الذين لا يُعانون من فقد الأطراف. وتحدث 55% من حالات البتر كنتيجة مُباشرة للإصابة بمرض السكري، كما أن نصف الأفراد الذين لديهم حالة بتر بسبب أمراض الأوعية الدموية يموتون في غضون 5 سنوات، وهو معدل كبير للوفيات من جَرَّاء المرض، أكبر حتى من معدل الوفيات في حالات سرطان الثدي وسرطان القولون وسرطان البروستاتا.
ويقول “راسبوبوفيتش” إن تلك الإحصائيات دلالة على وجود حاجة مُلحة إلى تصميم أطراف اصطناعية يُمكن الاعتماد عليها، إذ يُشير في تصريحاته لـ”للعلم” إلى أن استطلاع الرأي الذي أجراه الفريق العلمي قبل الشروع في بدء تصميم الرجل الاصطناعية وضَّح أن أصحاب المصلحة من مبتوري الأطراف يُعانون بشدة من الأطراف الاصطناعية الموجودة في الأسواق، “لذا وجهنا جهودنا من أجل معالجة ذلك الأمر”.
الخطوة الأولى
بدأت تلك الدراسة السريرية قبل عامين، ولكنها بطبيعة الحال كانت مُجرد رأس الجبل الجليدي؛ إذ امتدت الأبحاث على مدار سنوات طويلة سابقة لتطوير الأقطاب الكهربائية واختبارها على الحيوانات وإعداد الأوراق الرسمية التي قُدمت للهيئات التنظيمية للحصول على التصاريح اللازمة لاختبار الجهاز على البشر.
بعد أن خطط الباحثون للدراسة، شرعوا في اختيار 3 متطوعين، وقاموا بزراعة مجموعة من الأقطاب الكهربائية المجهرية في العصب المتبقي في الفخذ. كي تتمكن الساق الاصطناعية من “التواصل مع المخ”، على حد تعبير”راسبوبوفيتش”، الذي يقول: “بمجرد اختبار الساق أحسسنا بأننا نُشاهد فيلمًا خياليًّا”؛ فبعد أن عَصَب الباحثون أعين المشاركين، طلبوا منهم المشي على سجادة اختبار فيها مجموعة من البروزات، فقام الثلاثة بالتعرُّف على تلك البروزات “بمنتهى السهولة”.
بعدها طلب الباحثون منهم صعود السلم، فنفذوا الأمر بسهولة ويُسر، “كان ذلك الأمر بمنزلة العثور على الكأس المقدسة للأطراف الاصطناعية بالنسبة لي”، يقول “راسبوبوفيتش”.
التكلفة المالية للطرف الثوري
يعتمد الطرف المُصمم حديثًا على مجموعة من التقنيات الجديدة، ويستلزم إجراء جراحة لتوصيل الأقطاب بالأعصاب، ويؤدي الطرف إلى الحفاظ على صحة المبتورة أطرافهم عن طريق تقليل ألم الأطراف الوهمية وزيادة قدرتها على الحركة، وهو أمرٌ من شأنه مساعدة المستخدمين وتوفير المال للأنظمة الصحية الوطنية.
إلا أن سعر تركيب الطرف الاصطناعي لا يُمكن تحديده الآن، على حد قول المؤلف الرئيسي للدراسة، الذي يُشير إلى وجود مجموعة من “الشركاء التقنيين” في كلٍّ من إيطاليا وألمانيا، مؤكدًا أن السعر يُمكن تحديده بعد نحو 3 أشهر من الآن، سيعمل فيها الباحثون على توفير بيانات أكثر دقة، واستخلاص استنتاجات أخرى تُساعد في عمليات التقييم والتصنيع والتسعير.
سد الفجوة
يرى الباحث في قسم الهندسة الطبية الحيوية بجامعة كيس ويسترن ريزيرف بأوهايو “داستن تايلر” –وهو باحث غير مشارك في الدراسة- أن آلية عمل الطرف الجديد المعتمدة على التحفيز العصبي من خلال الأقطاب الكهربائية المزروعة “ثورية للغاية”، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أنها –على الرغم من كونها قديمة نسبيًّا- تُحسِّن من استعادة الأحاسيس بصورة شبه طبيعية، وهو الأمر الذي يدعم الحواس، ويُحسِّن من الأداء الوظيفي للطرف الاصطناعي، كما يُحسِّن من التجربة النفسية والاجتماعية لمبتوري الأطراف.
ويرى “تايلر” أن العضو الجديد “يسد فجوةً كبيرةً في منظومة إعادة تأهيل المعاقين” كما يُمكن أن يُسهِم مستقبلًا في تطوير “جيل جديد من الأطراف الاصطناعية التي يُمكن أن تُمكِّن مَن يحتاجها من أداء الوظائف الشاقة التي تعتمد على اليد أو القدم بصورة كاملة”.
يُعد ذلك العضو أول طرف اصطناعي في العالم مزود بردود فعل حسية لمبتوري الساقين فوق الركبة. ويقول “تايلر” إن تصنيعه سيمثل “ثورة في عالم الأطراف الاصطناعية”.
“تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بساقي منذ سنوات”، يقول “ريزانوفيتش”، الذي زوده الباحثون بالساق الجديدة، مشيرًا إلى أن الأمر “مُشوِّق ومثير”؛ فـ”للمرة الأولى منذ بتر ساقي أشعر بالراحة في أثناء المشي، والثقة لدرجة استعدادي للجري معصوب العينين في طريق وعر غير ممهد، دون الخوف من فقدان قدمي الاصطناعية”.