1: يحتل معنى (الإحصاء) مكانة مهمة في القرآن الكريم، ليس لقيمة الإحصاء في حدِّ ذاته، بل لآية شريفة، تلك هي قوله تعالى: (… وأحصى كل شيء عددا)، فهذا المقطع من آية كريمة هو مقطع كوني، وجودي، معرفي، فكل شي معدود، بما في ذلك الوجدانيات والمجردات والروحانيات، بما في ذلك الحزن والفرح والغضب، لأن كل هذه (أشياء) بنص القرآن الكريم.
لقد وردت المادة في الكتاب العزيز اربعة عشر مرّة، في أثني عشر سورة مكية، وسورتين مدنيتين وكان مدخول المادة هو (الشيء) تارة على نحو كلي دون تحديد مصداق، و أخرى على نحو ليس كليا من دون تسمية، بل مع تسمية، كما في قوله سبحانه: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، وقوله تعالى: (فطلّقوهن لعدّتهن وأحصوا العدّة)، وقوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد) / المجادلة آية 6 /
نريد أن نستقصي استعمالات الكتاب المجيد لهذه المادّة المهمة (ح، ص، ى) من خلال استعراض الآيات التي جاءت فيها.
يقول صاحب المفردات: (حصا: ا لإحصاء التَّحصيل بالعدد، يقال: أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصا)، وفي مصباح اللغة: (… أحصيت الشيء:عددته)، وفي اللسان: (أكثرهم حصى: أي عددا… واحصى الشي: أحاط به… وفي التنزيل: واحصى كل شيء عددا، الأزهري: أي أحاط علمه سبحانه باستيفاء عدد كل شيء… وفي الحديث: لله تسعة وتسعين إسما من أحصاها دخل الجنة)، وسوف نتطرق إلى ظاهرة تطور الإستعمال با لنسبة لهذه المادة.
2: ا لمعادلة الكبرى في الاستعمال القرآني تتجسَّد بقوله تعالى: (… وأحصى كل شيء عددا)، فكل شي محسوب، محسوب رقميا، هذا هو المستفاد من الكلام الشريف، وكل ما موجود في الكون هو (شيء) في الكتاب العزيز، وهذا الإحصاء عن آخره، أي (أحصى ما كان وما يكون منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة…).
لهذه المعادلة الكبرى تطبيقاتها الواضحة في القرآن العزيز: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، بطبيعة الحال لعجزنا عن ذلك، وإلا كل شي في هذا الكون معدود، مهما تغير وتبدل، ومها كان زمانه ومكانه في عالمنا الدنيوي هذا.
يحاول بعضهم أن يصرف الإحصاء هنا الى الاحاطة والعلم، أي الاحاطة بالاحوال والحالات، والعلم بها، ولكن الإحاطة في بعض الاستعمالات القرآنية تأتي قبل الأحصاء، كما في قوله سبحانه: (وأحاط بما لديهم وأحصى كل شي عددا)، كما إن الإحصاء قد يأتي مقترنا بالعد، نجد ذلك في قوله: (لقد أحصاهم وعدّهم عدّا)، وفي آيات ياتي العد قبل الاحصاء والموضوع واحد، فنحن نقرا في القران المجيد: (وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)، فهل هو استعمال لمرادفات؟ أم إن الإحصاء غير العد في المفهوم والمعجم؟ مهما كان الجواب، فإن هناك علاقة وثيقة بين الفهم والعد، والعد هو أحد معالم الفهم والإحاطة، فأنت إذا علمت عدد الذين يتدربون في المعسكر، تكون قد حصلت على فهمٍ (ما) عن هؤلاء المتواجدين في المعسكر. ولكن إذا كان بالإمكان العلم بكل شيء عددا، فهذا يعني إ ن كل شي يمكن عده، بما في ذلك الحزن والذكاء والغضب، فما يدرينا، لعل هذه الظواهر التي تسمى وجدانية وروحية هي عبارة عن أجسام كما كان يرى بعض علماء الكلام الاسلامي قبل عشرات القرون.
يقول سبحانه: (إن كل من في السموات والارض إلاّ أتى الرّحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدّهم عدّا،وكلهم يأتيه يوم القيامة فردا) / مريم آية 93، 94، 95 /
إنّه تعالى أحصاهم ثم عدهم، ليس على نحو الترتيب الزمني بطبيعة الحال، فهو عالم بكل شي لا على نحو التدريج والتصنيف، بل علمه محيط بحالهم وعددهم، قد يكون (الإحصاء) هنا هو العلم بالحال، فيما (العد) هو العلم بالعدد
هناك تناغم بين (الإحاطة) و (الإحصاء)، الإحاطة هي تعني الاستيعاب من الخارج، فيما الإحصاء هو العد للآخر، فهو (مِن أحصى الشي إذا عدّه كله) كما جاء في مجمع البحرين للطريحي وهو كتاب مهم للغاية، فالاحصاء ليس الإحاطة بالضرورة، رغم تناغمهما وتقاربهما.
3: جاء في القرآن: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين ممِّا فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربًّك أحدا) / الكهف آية 49.
يرى القرطبي إ ن الإحصاء هنا هو العد، فهو يقول [ ومعنى (أحصاها) عدّها واحاط بها ] / 5 ص 793 / وبذلك قد يكون الإحصاء قبل الإحاطة، وفي الزمخشري: (…إلاّ ضبطها وحصرها) / 2 ص 727 / وفي ابن كثير: (ضبطها وحفظها) /3 ص 83 / وفي مجمع البيان: (… عدّها وأثبتها وحواها) / 6 ص 733 /. وفي الطبري: (حفظها).
الإحصاء إذن مادة لغوية ثرية، لا تقتصر على العد فقط، بل هي توضيح وبيان وضبط وحفظ، وربما تطور استعمال الكلمة عبر الزمن، فنحن نقرأ في مقاييس اللغة: [ الحاء والصاد والحرف المعتل ثلاثة أصول… الثاني: أحصيت الشيء إذا أعددته وأطقته، قال الله تعالى: (علم أن لن تحصوه)، وقال تعالى: (أحصاه الله ونسوه) ]. وليس بعيدا أن نرى علاقة واضحة بين الإحصاء والحصى، فقد كان الحصى مادّة عد، ويبدو إنّ المادّة أخذت حيزا كبيرا من التطور، فقط تطور الإستعمال ليتواصل مع (العقل) باعتباره يضبط ويوضح، فـ (يُقال ماله حصاة، أي ماله عقل)، وهكذا تتناسج الاستعمالات لهذه المادّة الغنية، وتخضع لمراحل كبيرة من مراحل المعنى، وهي تشكل محور تجانس وتجاذب مواد متقاربة متداخلة، ولكن بطبيعة الحال لابد أن يكون الأصل بسيطا في البداية ثم تطور، وربما أحدس إنّها بدأت بهذا المعنى المادي المعروف، أي جمع حصاة، الحصى الأرضي، ثم كسبت معنى العد، بسبب إن الحصى كان آلية العد، ثم تطور الاستعمال إلى الفهم والإحاطة، باعتبار إن عدّ الأشياء نوع من الفهم والاحاطة، ثم انتقل الاستعمال ليتواصل مع العقل، لانه جهاز الضبط، أو لأنه صلب كما هو الحصى بل وكما هو العدد أيضا.
يقول تعالى: (يا أيها النبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهن واحصوا العدّة)، ولا أعقد إن الإحصاء هنا يخرج عن دائرة العدد، وهو عدد مرّات الحيض.
4: هذه الأشياء محصيِّة بنص القرآن الكريم،إنّها محصية في (إمام مبين)، فقد قال تعالى: (إنّا نحي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم وكل شيئ أحصيناه في إمام مبين) / يس آية 12 /
إذن كل شي محصي، ومحصي في (إمام مبين)، فهل الإحصاء يعني هنا العد؟ فيكون المعنى إن كل شي معدود في (إمام مبين)، ولكن ماذا يعني (الإمام المبين)؟
يرى مفسر ون إن (الإمام المبين) هو الكتاب المحفوظ، وهو كتاب لا يضل ولا ينسى كما يقولون، ولا يعتريه تغيير ولا تبديل، ولهم كلام طويل عريض في صدد هذا اللوح، ولكن ما هو المانع لو قلنا إنه تعبير رمزي عن علم الله تعالى، فهو قد أحصى كل شي في كل زمن، وفي كل مكان، وفي حال، وفي كل مرحلة من مرا حل الوجود، فهو العالم بعدد كل شي، كل شي، من دون إستثناء، وبلا شرط، وبلا قيد، وعلم الله كامل شامل مبين، وعلمه إمام، فعلمه قدوة في الضبط والصدق وا لحكمة والشمول والكمال والجمال.
يقول تعالى: (وكل شيء أحصيناه كتابا) /
يذهب كثير من المفسّرين إلى أن (كتابا) هنا مصدر لأحصيناه، أو هو بمعنى محفوظا، والكتابة صنو الإحصاء بالقوة والقدرة على الحفظ.
5: الإحصاء في استعمالات الكتاب الكريم نوع علم يقوم على العد والتوضيح والبيان والتثبت والضبط والحكمة، وكل شي في الوجود خاضع للإحصاء، فهو معدود وموضح ومبين في (كتاب مبين)، والكتاب المبين هو علم الله كما يبدو، أو هو اللوح المحفوظ، ولكن نستفيد من كون الأشياء محصيَّة دور الرقم في المعرفة، وإمكان التعامل مع الأشياء بلغة رقمية، بصرف النظر عن مجالات هذا التعامل، وقد أثرى الكتاب المجيد هذه المفردة بحيث جعل منها مدخل لقراءة الكون، وربطها ربطا محكما بفضاء لغوي حي، يتواصل مع العلم أساسا، وتصعّد في استخدامها من العد إلى التثبت إلى التوثيق، فكانت مادة زاخرة بالعطاء والحيوية والإشراق. ولعل تحويل هذه الآيات إلى حافز تربوي وتعليمي وتثقيفي يدفع بحركة الشوق الى معرفة الوجود مسافات كبيرة ومديات عميقة، والحمد لله رب العالمين.
غالب حسن الشابندر
نقلا عن موقع إيلاف