الإسهامات الفكرية لطارق البشري : هذا مقال كتبته عن المستشار طارق البشري قبل 23 عاما ونشر في صحيفة الحياة اللندنية بمناسبة انتھاء ولايته القضائیة واحالته للمعاش.. وبعدها بسنوات سعدت بتعميق معرفتي الشخصية بالحكيم البشري.. وأجريت معه حوارات ونقاشات فكرية مثمرة في منزله بالعجوزة.. وكان يتقبل مني الملاحظات بكل مودة وترحاب وكرم أخلاق رغم الفوارق العمرية والعلمية .. رحم الله أستاذنا وغفر له واسكنه فسيح جناته ونفعتا بتراثه العلمي الغزير وفكره الراشد.
الكاتب: عاطف مظھر – في 26 اغسطس 1998
يُعد المستشار طارق البشري من أعلام الفكر الاسلامي المعاصر، ومن كبار منظريه، فھو صاحب رؤية مجددة ونظريات اصیلة في مجال التاريخ والتشريع والقانون، جعلته يأتي في صدارة المبرزين على الساحة الفكرية والثقافیة العربیة في العقدين الاخیرين.
ووضعت كتابات البشرى في المسألة الاسلامیة المعاصرة قواعد منھجیة وأطراً موضوعیة، اكسبت الفكر الاصولي الاسلامي ثراء وعمقاً. كما اتسمت أعماله التأريخیة بالريادة والتفرد، نظراً لتقديمھا رؤية كلیة شاملة تقرأ تاريخ الحضارة العربیة من منظور جمعي إسلامي.
وفضلاً عن ذلك اشتهر البشري من خلال موقعه في المؤسسة القضائیة المصرية – كقاض ونائب رئیس مجلس الدولة – بمواقفه الشجاعة والمناصرة لقضايا الحريات وحقوق الانسان، وما زال المجتمع المصري يذكر له احكامه القضائیة العادلة، والتي من اھمھا الحكم بحق المواطن في اللجوء الى قاضیه الطبیعي. ورفض اللجوء الى المحاكم العسكرية، والذي يعتبره البعض اھم واشجع حكم قانوني في التاريخ القضائي المصري.
وحول الجوانب المتعددة في شخصیة البشري مفكراً وقاضیاً ومؤرخاً وفقیھاً مشرعاً عقدت في القاھرة اخیرا ندوة لمناسبة انتھاء ولايته القضائیة، حضرتھا نخبة من العلماء والمفكرين والكتاب.
لم تكن الندوة مناسبة لتكريم البشرى والاحتفاء به بقدر ما كانت مناسبة لتقويم اسھاماته الفكرية المتعددة، ولذلك نُوقشت خلالھا أبحاث تمیزت بالعمق والتحلیل الموضوعي، الى جانب كلمات التكريم والاشادة، التي اجملھا الشیخ القرضاوي بالقول: “إن طارق البشري في تنوع اسھاماته وتعدد مجالات بحثه، يُعد امتداداً للقضاة والعلماء الموسوعیین الذين عرفوا في الحضارة الاسلامیة، كابن رشد وابن خلدون وغیرھما”.
وناقشت الندوة بحثاً لمھدي الدجاني عنوانه “لمحة عامة الى فكر المستشار طارق البشري” اورد فیه بعض ملامح ومضامین افكار البشرى الرئیسیة، من خلال تحلیل كتاباته ومؤلفاته المنشورة، ومن ابرز ھذه الملامح رؤية البشرى لطبیعة عمل دعوات الاصلاح المعاصرة – ولا سیما الاسلامیة منھا. فھو يرى ضرورة ان تتوجه اساساً الى الجماعة ككل، ولا تتوجه الى السلطة اولاً، وذلك لأن مواجھة السلطة غالباً ما تنتج صداماً يعطل جھد الدعوات، ويجب ان يكون منطلق التوجه الى الجماعة ككل ھو قابلیتھا الحقیقیة للاصلاح وعمق دورھا المؤثر، ويجب ألا يكون لمجرد إبراز النفس في موقع تركته السلطة، كما ان التركیز على الانتماء ودعم الشريعة كمرجعیة، اھم من التركیز على تفصیلات المواد القانونیة المخالفة للشريعة.
ويرى البشري كذلك – كما يشیر الدجاني – أن أية مقارنة بین نظم اسلامیة ماضیة ونظم غیر اسلامیة حديثة، يجب ان تتم في ضوء النظر الى الخريطة الكلیة للبناء الشامل في كل من الحالتین، لا ان تتم بمجرد مقارنة نظام جزئي ھنا بنظام جزئي ھناك.
ويرى البشري ان المقاربة التاريخیة لتطور حال الامة يجب ان تتناول التطور التاريخي لھا، وكذلك التطور التاريخي للقوى الخارجیة، لتدرك عناصر التمیز بین طبیعة كل منھما. فتاريخ الامة له تقسیماته العامة المستقلة، وان ما يحدث من الحاق تاريخ الامة بالتاريخ الاوروبي، ومن استخدام ادوات التحلیل الغربیة في كتابة تاريخ الامة الاسلامیة، من شأنه ان يشوه ھذا التاريخ.
وقدم الدكتور محمد سلیم العوا ورقة عنوانھا “طارق البشري فقیھا: لمحات من منھجه في التفسیر اوضح فیھا بعض آثار البشرى في المجال الفقھي، التي جمع عبرھا بین فقه الشريعة وفقه القانون الوضعي، واستفاد على افضل نحو ممكن من قواعد اصول الفقه الاسلامي وطرق الاستنباط فیه، ومن قواعد الجمع بین النصوص جمعاً يؤدي الى إعمالھا بلا اھمال، والى نفي شبھة التعارض عنھا، والى ترجیح العدالة التي تدل عليها روحها وفحواها، على الشكل الذي يصونه احترام نصوصها وألفاظها.
وأكد العوا أن المادة القانونیة عند طارق البشري، لیست جمعاً بسیطا اعتباطیاً لاحكام متعددة، ولكنھا إعمال عوضي متفاعل لھذه الاحكام، وھي في تركیبھا كتركیب الاعضاء في جسد واحد له بنیان متكامل يشد بعضه بعضاً.
فیندر عند تفسیر اي قانون الا توجد فیه عبارات متعارضة ينفي بعضھا بعضاً، نفیا كلیا او جزئیاً، ولكن جمع عبارات القانون في نسق واحد يعني تفاعل ھذه الاحكام المتنافیة تفاعلاً ينشئ مركباً جديداً يكتسب فیه كل عضو من الكل مفھومه الحق وسماته الصحیحة.
وقدم الدكتور سیف عبدالفتاح ورقة تحت عنوان “المسألة المنھاجیة في فكر البشري تناول خلالھا الاسھامات الكبرى للبشري في المسألة المنھاجیة، والتي من اھمھا قدرته على تحديد النسب والعلاقات والادوار والوظائف لدوائر التعامل التي تحیط بالباحث المسلم بالاساس.
فقد أولى البشري اھتماماً رصیاً بقضیة المنھج الذي يعد بالنسبة له رؤية متكاملة تستند إلى اطار المرجع والتأسیس، وتشتنق منه مناھج النظر، بما تعبر عنه من قدرة البحث في اصول النظر لموضوع بعینه او قضیة بذاتھا.. فمناھج النظر ولدت لديه ملكة في التعامل مع مراجع التأسیس القرآن والسنة الصحیحة، والتراث الممتد وبخاصة التراث الفقھي والتاريخي، فضلا عن الواقع المعاش ومناھج التعامل معه، والتراث الانساني عموماً وامكانات الإفادة منه.
وأوضحت الورقة ان البشري تحرك دائماً صوب اجندة بحثیة تتمثل قواعد النموذج المقاصدي، وتتجه صوب حفظ كیان الامة واصول بقائھا وشروط استمرارھا، وسنن ترقیتھا وعمرانھا، ضمن الاھتمام بمناھج التفكیر والتأثیر والتغییر، فالامة وفق عناصر اختصاصها وتمايزھا تحمل ذلك وتحفظه، بالحفاظ على دنیھا وشريعتھا، وعلى اصول مرجعیتھا وسنن فاعلیتھا، وحفظ نفوس أفرادھا وكیانات مجتمعاتھا، وحفظ نسلھا الذي يشكل اصول مادتھا العمرانیة وتنمیتھا البشرية، فالبشر في اجندة البشري أھم عناصر المعادلة الحضارية، ثم ترد عناصر حفظ العقل الفردي والجماعي، فیخاطب كل عناصر الرشد على مستوى الفرد والجماعة لبناء الأمة على اسس فكرية وحضارية وثقافیة، وبنیان عقلي سوي وفعال، ثم ترد في النھاية عناصر الحفظ، كرمز لأصول العمران المادي بكل تجلیاته وتكويناته، والتي تعتبر في النھاية من اھم محصلات تفاعل عناصر الحفظ الأخرى وتكاملھا.