الإبداع ظاهرة طبيعية ارتبطت بالإنسان منذ وجد على سطح كوكب الأرض، مع نهايات القرن الماضى أدت إبداعات مختلفة لطفرة فى البناء والتطوير والتحديث شملت تغييراً فى مختلف مجالات حياة البشر، هذه الإبداعات تتسارع وتتزايد لتفرض نفسها على عالم جديد اقتصاده يتجه نحو قواعد شتى من المعرفة التى لن تعرف حدوداً، مما سيوجد حلولاً إبداعية لكثير من المشكلات فى شتى مجالات الحياة محققة أمن ورخاء البشرية، ولاشك أن ذلك سيتطلب تطويراً وتطبيقاً للأسس والأساليب والمنهجيات التى تعمل على تنمية التفكير الإبداعى.
الحل الابتكارى للمشكلات المصرية
من أهم هذه المنهجيات نظرية عرفت باسم تريز TRIZ نشأت فى الاتحاد السوفيتى سابقاً ثم عرفت فى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول أوروبا وآسيا فى العقد الأخير من القرن العشرين، سرعان ما أثبتت هذه النظرية شمولية أفكارها ومفاهيمها وقابليتها للتطبيق فى جميع مجالات الحياة التى تبرز فيها الحاجة لإبداع إنسانى قادر على إيجاد حلول عملية فى جميع مجالات النشاط الإنسانى.
ونظراً إلى عالمية وشمول هذه النظرية والمدى الواسع لاستخدامها بما يتطلب دراستها فى جميع مراحل التعليم بمستوياتها المتدرجة وكذلك التدريب على تطبيقها لكل من له علاقة بالنشاط الإنسانى البشرى ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى لإيجاد حلول لمشكلات تنوء بها هذه الأمة.
الحل الابتكارى للمشكلات المصرية
والسؤال الآن هل لنا أن نستفيد من هذه النظرية فى معالجة وحل مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وهل لنا أن نستطيع إدارة هذه النظرية وتطويعها للاستفادة منها بأقصى درجة ممكنة، أعتقد أن هذا يمكن أن يكون متاحاً، علينا أن ندخل هذه النظرية فى نظمنا التربوية والتعليمية ومؤسساتنا المختلفة والتدريب على تطبيقها للوصول لمنظور شامل يهدف إلى مساعدة الفرد على النمو المتوازن، وتحرير طاقاته الإبداعية لمواجهة الحياة بمختلف أنماطها ومصادرها للوصول إلى حلول غير مألوفة لمشكلات الفرد والمجتمع التى تزيد وتنتشر فى عالم أصبح التغيير سمته الرئيسية.
وقد يتساءل البعض هل ممكن أن نكون جميعاً مبدعين، فيجيب على هذا السؤال علماء النفس الحديث الذين يرون أن الإبداع أصبح مهارة يمكن تعلمها وتطويرها والتدريب عليها وهناك برامج لذلك تستخدم بنجاح فى أكثر من ثلاثين دولة فى العالم، بل إن الاعتقاد بأن الإبداع والتفكير موروث وبالتالى لايمكن تغييره بل إن تطويره أصبح ضعيفاً أمام نماذج تثبت عكس ذلك بالتدريب والدراسة والتجريب ونحن شعب ذكى محب للدراسة والتغيير والتفكير فلماذا لا !
نظرية تريز TRIZ نشأت فى الاتحاد السوفيتى سابقاً فى منتصف القرن العشرين كنظرية لإيجاد حلول هندسية وتقنية بطرق إبداعية وعرفت باسم « نظرية الحل الابتكارى للمشكلات» ثم انتقلت لتستخدم لحل مشكلات فى مختلف جوانب الأنشطة الإنسانية.
ومن أهم ما يميز هذه النظرية قدرتها على التخلص من العوائق النفسية التى تحصر اهتمام كل فئة من الناس بمجال عملها فقط، إذ إن هذه النظرية جمعت مبادئ «استراتيجيات» وطرائق حل ناجحة من كل مجالات النشاط الإنسانى وصاغتها على شكل مجموعة من الأدوات التى يمكن توظيفها فى مختلف هذه المجالات وهذا ما سنتطرق إليه بالتفصيل فى مقالات قادمة بإذن الله. صاحب هذه النظرية الأول هو العالم الروسى هنرى التشلر Henry Altshuller الذى ولد فى روسيا عام (١٩٢٦) وتوفى فى طشقند عام (١٩٩٨) وهو مهندس نابه تمكن من تقديم أول اختراعاته عندما كان فى سن الرابعة عشرة من عمره.
وتمكن فى فترة لاحقة على حصوله على درجة الماجستير فى الهندسة الميكانيكية من كتابة ١٤ كتاباً تشتمل على مضامين ومفاهيم مختلفة لهذه النظرية، وعدد كبير من البحوث فى مجال الابتكارات ويرجع تاريخ كتابته للنظرية إلى الحرب العالمية الثانية حيث كان يعمل مستشاراً فى سلاح البحرية الروسية ومهمته الرئيسية توثيق الابتكارات «الاختراعات»، وبسبب شغفه بالعلم والهندسة والابتكارات وجد التشلر فى هذا العمل فرصة للإجابة عن سؤال ظل يراوده عن الكيفية التى تجعل الناس قادرين على الإبداع والابتكار.
بحث عن الكيفية التى استخدمت للوصول إلى ابتكار فى مئات الآلاف من وثائق براءات الاختراعات وفى عام ١٩٤٦ بالتحديد توصل إلى نتيجة واضحة وهى أنه يوجد مبادئ «أستراتيجيات» وطرق مشتركة ليست عشوائية تؤدى إلى الابتكارات، لاسيما فى مجال الهندسة والتكنولوجيا، ففطن إلى أن الحل المؤدى إلى ابتكار إنما هو حل لتناقضات إذا ما تم حلها نصل إلى حل مبدع للمشكلة وبالتالى إلى ابتكار، أمكنه تسجيل هذه المبادئ «الاستراتيجيات» والمفاهيم ودراستها وهى (٤٠) «أربعون» أستراتيجية مختلفة سنقوم بشرحها تباعاً فى مقالات قادمة بإذن الله.
وبالرغم من عدم ترجمة هذه النظرية «حيث كتبت باللغة بالروسية» طيلة سنوات انغلاق الاتحاد السوفيتى سابقاً إلا أنه منذ انفتاح السوفيت على العالم فى الثمانينيات من القرن الماضى أمكن ترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والكورية واليابانية والإسبانية والصينية وأصبح لها مؤلفات ومراجع بجميع هذه اللغات، وأصبح للنظرية أنصار ومجلات وآلاف من البحوث للتطبيق فى جميع مناحى الحياة.
ومنذ الثمانينيات تم تطوير هذه النظرية بطرق فاعلة وبحوث جادة لتفيد فى مجالات عديدة، حيث إن هذه النظرية لها قدرة على تحليل العمليات ومايترتب عليها من نتائج وتحديد المكونات التى تدخل فى تركيب هذه العمليات والمصادر الرئيسية لبنائها للوصول إلى أفضل استخدام لهذه المصادر بأفضل طريقة وأقل تكلفة وفى فترة زمنية تتلاءم وحجم العمل المطلوب.
وقبل التعرض لنظرية تريز TRIZ لأدوات هذه النظرية ومبادئها «استراتيجياتها»، علينا أن نعرف الطريق إلى ذلك واستراتيجيات التحول فى المدى القريب والبعيد للوصول إلى مصاف الدول المبدعة الخلاقة.
هذا التحول يلقى بمسؤوليات على الأفراد والأسرة والمجتمع والدولة بحيث يتحول تبنينا للإبداع والابتكار وانتشارهما إلى إيديولوجيا أى قيمة ومعتقد نعتقد فى جدواه وننحاز له ونعتبره المنظور والوسيلة الوحيدة والضرورة الملحة للانتقال إلى عالم اقتصاد قواعد المعرفة بكل رحابته لتحقيق الأمن والرخاء فى عالم لن يعترف إلا بهذا الاقتصاد، كما يجب أن يصبح تبنينا للإبداع توجها كامنا على مستوى الأفراد، الأسرة والمجتمع والدولة فى منظومة واحدة متداخلة ومتكاملة.
نولد جميعاً بقدرات خلاقة وطاقات دفاقة، علينا أن نحسن تطويرها وتنميتها لتصبح مهارات إبداعية مولدة للمعرفة والابتكار، بإصرار وإرادة على جميع المستويات، ولنا أن نطلع على سيرة علماء كثيرين تمكنوا من ذلك وأدى إصرارهم على النجاح الوصول إلى مئات الابتكارات رغم معوقات شتى ينوء بها أى إنسان، مثال ذلك العالم إديسون مخترع المصباح الكهربائى، ولنا أن نطلع على ما فعلته دول ومجتمعات من تغيير وأصبحت مبدعة خلاقة بعد تخلف وانحدار.
يجب أن نعيد تقييم المهارات والقدرات التى نحتاجها أكثر من غيرها لتحقيق الإشباع والنجاح والسعادة على المستوى الشخصى والذى يأتى بأعلى مردود من هذه القدرات والمهارات، معظمنا يحصلون على شهادات عليا دون أن يدركوا قدراتهم الإبداعية، فهذه القدرات يمكن تقييمها ومعرفة الطريق لتنميتها بأساليب يعرفها علماء النفس والتربية والاجتماع، وأصبحت متداولة ومعروفة.
عدم تحقيق ذلك يعتبر أكبر إهدار لمواردنا فالقدرات التى نحن فى أمس الحاجة إليها تذهب هباءً منثوراً على الرغم من التوسع الهائل فى التعلم والاستثمار فى الموارد البشرية، يجب تخريج أشخاص قادرين على التكييف مع التغيير والمساهمة فيه، يتمتعون بالمرونة والإبداع، أشخاص يعرفون مواطن قوتهم ومواهبهم وأصقلوها لتصبح مهارة متجددة تنمو قادرة على حل مشاكل المجتمع والإسهام فى تطوره .
لقد تجاوز الذكاء البشرى حدود الدراسات الأكاديمية والانشغال المفرط فى تعزيز هذه القدرات الأكاديمية دون غيرها من أنماط القدرات الإبداعية، فهناك أنواع أخرى من الذكاء المتغير المتنوع المؤدى إلى إبداعات تكنولوجية تغير الواقع، يجب أن تتغير سياسات التعليم بمستوياته لتلعب دوراً أساسياً فى تطوير القدرات الإبداعية ونشر ثقافة الابتكار، يجب ألا تتغلب النزعة الأكاديمية البحتة فى التعليم، بل يجب أن نسمح بأنماط لتفكير إبداعى يحول النظريات إلى تطبيق والمعرفة إلى ممارسة.
يجب تشكيل بيئة ثقافية لنمو الإبداع وازدهاره دون إحباط للأفكار أو تجاهلها، مع عدم الاكتفاء بإطلاق سراح الابداع فى بيئة مناسبة من الحوار، بل تجب إدارته لتحقيق أقصى استفادة من تدفق للأفكار بين مبدعين يتمتعون بقدرات متباينة خلاقة ويتحلون بروح الفريق للتكامل والوصول إلى نتائج وإنجازات جماعية، علينا أن ننتصر فى حرب المواهب بتطوير آليات فعالة للاستقطاب والاستبقاء والتشجيع والمساندة للأشخاص الذين يتمتعون بقدرات إبداعية ننظر فيهم ولانكتفى بالنظر إليهم.
على وسائل إعلامنا ومجتمعنا بمؤسساته المختلفة العمل على إزالة الاعتقادات الخاطئة التى تعرقل الإبداع، وتعريف الناس بقدراتهم الإبداعية وكيفية قياسها وتنميتها والتنقيب عنها واكتشافها ونشر ثقافة تقدير ومساندة الإبداع والمبدعين.
كل منا يعرف الكثيرعن نفسه، صفاته واسمه ومولده وعلاقاته وقد يكون ملماً بكل ما درس وجرب، ولكن كم منا يعرف قدراته الإبداعية وذكاءاته المختلفة للوقوف على أنسب الطرق لتنميتها، كم منا قام بهذه القياسات للذكاء والقدرات الابتكارية لتنميتها، ليواكب متطلبات القرن الواحد والعشرين، الذى ستتحول فيه الصناعات والمهن التقليدية إلى صناعات معرفية ومهن ووظائف معرفية ومنتجات معرفية لن تعرف حدوداً.
فلنبدأ ثورة المعرفة، ليكن فى كل مكتبة من مكتبات الأسرة وكل مدرسة وكل مركز شباب ومركز ثقافى ركن لتعلم الإبداع والابتكار، ليكن فى كل مصنع إدارة للإبداع والابتكار، لتتبن الجامعات الإبداع ويتقدم أساتذتها المبدعون مسيرته التنويرية، ليكتب مفكرونا فى الإبداع يشرحون سيرة العلماء العرب والأجانب المبدعين على مر التاريخ وليأتوا بتجارب دول أصبح الإبداع أيديولوجيتها التى يتحيزون لها أمثال اليابان وألمانيا والولايات المتحدة وكيف تحولوا لأمم مبدعة، أن يكتب كل متخصص مصرى ودارس وعالم وباحث عن تجاربه الإبداعية، لننشئ الجوائز لكل من يبدع فى أى مجال ونحتفل بمبدعينا فى فضائياتنا وليشرحوا لعامة الشعب تجاربهم ليستعيدوا الثقة بمصر.
لتكن هناك مراكز للإبداع فى كل جامعة وكلية، ونعكف على دراسته بكل عمق وجدية، وليدرس فى مرحلة الليسانس والبكالوريوس والدراسات العليا بدرجاتها فنحن فى أحوج ما يمكن لهذه الكوادر، ليكن للإنجار الإبداعى جوائز وتكريم على مستوى الفصل الدراسى، الجامعات، المصانع، النقابات المهنية، الهيئات بل القرية والمصنع، للفلاح والعامل المبتكر.. وللحديث بقية.
د. أحمد الحماقي
نقلا عن جريدة المصري اليوم