ذكاء الاصطناعي : تشير التقديرات إلى أن القيمة السوقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي ستبلغ حوالي 36.1 مليار دولار في غضون السنوات الخمس القادمة، في ظل الحاجة المتزايدة إلى اختراع أجهزة حاسوب يمكنها تشغيل مختلِف برامج الذكاء الاصطناعي التي تتطور يومًا بعد يوم، والتعامل مع تطبيقات الرعاية الصحية الأساسية، بدايةً من نظم الرعاية الصحية داخل المستشفيات، وانتهاءً بمراقبة نمط حياة المرضى عقب خروجهم من المستشفيات، من خلال خلق منصات تربط هواتفهم الذكية بالفريق الطبي المعالج؛ لمتابعة خطط العلاج.
لكن عجلة “الذكاء الاصطناعي” -التي لا تتوقف عن الدوران في المجال الطبي- ما زالت تصطدم بثالوث مرعب يتمثل في (الحاجة إلى تقنيات تصوير طبية مكلفة، مثل التصوير الفلوري والأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي، وأطباء يمتلكون الخبرة والكفاءة اللازمة للتعامل مع هذه التقنيات، وتطوير برامج يمكنها تحليل آلاف البيانات الخاصة بالمرضى)، ويزداد الأمر صعوبةً في أمراض بعينها مثل السرطان، ومن هنا تأتي أهمية الدراسة التي نشرتها دورية “نيتشر كومينيكيشنز” (Nature Communications).
الطبيب الخفي
الدراسة أجراها فريق بحثي ياباني تابع لمركز “ريكن”، واستهدفت استخدام “الذكاء الاصطناعي” في استكشاف مظاهر عودة ظهور سرطان البروستاتا وتحليل تلك المظاهر وتشخيصها بدقة؛ إذ يحتاج تشخيص الأمراض المعقدة –مثل السرطان- إلى جنود مجهولين قد لا يراهم المريض. وعلى رأسهم يأتي “الطبيب الخفي” في عالم الطب، وهو طبيب الباثولوجي أو علم الأمراض.
يعتمد أطباء الباثولوجي في التشخيص على العديد من التقنيات المعملية، التي تبدأ بالميكروسكوب لتحديد وتشخيص أنواع الخلايا (الباثولوجيا الخلوية)، والأنسجة (الباثولوجيا الجراحية)، وتمتد لتضم اختبارات الدم وسوائل الجسم المختلفة (الباثولوجيا الإكلينيكية)، وتتعقد لتضم أيضًا تقنيات البيولوجيا الجزيئة المختلفة المستخدمة في التشخيص (الباثولوجيا الجزيئية). ولا يكتفي طبيب الباثولوجي بالتشخيص، بل يعمل على دراسة أسباب المرض، وكيفية حدوثه.
وعلى الرغم من عدم معرفة الكثيرين بوظيفة هذا “الطبيب الخفي”، يمكنننا القول بأن توثيق الأمراض وتوصيفها بدأ لدى الفراعنة وظهر في بعض بردياتهم، وبعد ذلك بسنوات إجراء الطبيبين اليونانيين “هيروفيلوس” و”إراسيستراتوس” لأول عملية تشريح في التاريخ، ليمر بعدها هذا العلم بالعديد من المراحل.
لكن الولادة الحقيقية لعلم الباثولوجي التشريحي بمفهومه الحديث حدثت في القرن التاسع عشر على يد العالِم الألماني رودولف فيرشو، الذي أسهمت أبحاثه في تغييرات جذرية في معرفتنا وفهمنا لتطور الأمراض. ومنذ ذلك الحين، تطور العلم على نحوٍ كبير، خاصةً مع ظهور تقنيات البيولوجيا الجزيئية وتطورها خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين.
تقول سحر طلعت -أستاذ الباثولوجي بكلية الطب بجامعة القاهرة، وغير المشاركة في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “إن طبيب الباثولوجي يقوم بمسؤولية حيوية في الفريق الطبي، خاصةً في تشخيص السرطان، لكن اكتساب المهارات اللازمة لذلك يحتاج إلى سنوات من التعليم والتدريب في المراكز العلمية المؤهلة لفعل ذلك. وعلى الرغم من ظهور العديد من التقنيات التي تساعد في التشخيص، يظل رأي الطبيب المبني على خبرته هو الأهم في تفسير ما يراه تحت الميكروسكوب”.
لكن يبدو أن الغد قد يحمل لنا المزيد. فتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي قد يتيح طفرةً في التقنيات التي يعتمد عليها أطباء الباثولوجي. إذ نجحت التقنية التي استخدمها الباحثون في مركز “ريكن لمشروع الذكاء المتقدم” باليابان في التعرُّف على بعض العلامات في صور أنسجة مرضى سرطان البروستاتا، التي ارتبطت بتطور مرض السرطان ولم يجرِ ملاحظتها من قبل الأطباء، وهو ما قد يعني دقةً أكبر في تقييم احتمالات عودة المرض بالمقارنة بتشخيص الأطباء.
آلية التعليم
تشير الدراسة إلى أن “هناك نوعين رئيسيين من وظائف تعلُّم الآلة التي تستخدم في برامج الذكاء الاصطناعي. النوع الأول هو “التعليم المشرَف عليه”، وهو يتم من خلال وضع مُدخَلات ومخرجات ومعادلات تتعلم بها الآلة كيف تم إنتاج هذه المُخرَجات من المُدخَلات المستخدمة، ويهدف هذا النوع إلى تمكين الذكاء الاصطناعي من توقُّع المُخرَجات إذا جرى استخدام مُدخَلات مشابهة لتلك التي تعلَّمها من قبل. في المقابل يعتمد “التعليم غير المشرَف عليه” على سماح المبرمج للبرنامج بالعمل بنفسه من أجل اكتشاف المعلومات.
يقول يويشيرو ياماموتو -قائد فريق المعلوماتية في علم الأمراض بمركز “ريكن لمشروع الذكاء المتقدم”، والمتخصص في مجال الذكاء الاصطناعي، والباحث الأول في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “إن الأطباء يعتمدون عادةً على استخدام “التعليم المشرَف عليه”؛ إذ يعلم الطبيب برامج الذكاء الاصطناعي كيفية عمل التشخيص، لكن هذه الطريقة لا تخلو من العيوب؛ لأن الذكاء الاصطناعي (في هذه الحالة) لن يكتسب معرفةً أكثر مما يعلمه الطبيب الذي برمجه”.
يضيف “ياماموتو”: من أجل تجنُّب هذه المشكلة، أجرينا تجربة “التعليم غير المشرَف عليه”، إذ أدخلنا للذكاء الاصطناعي ملايين الصور دون إدخال أي معلومات طبية، ثم عملنا على تقييم قدرة الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بعودة المرض. لكن المشكلة أن الذكاء الاصطناعي يتعامل فقط مع الأرقام، لذا ابتكرنا طريقةً لتحويل الأرقام التي ينتجها الذكاء الاصطناعي إلى صور عالية الدقة يمكن لأطباء الباثولوجي فهمها؛ من أجل تقييم قدرة الذكاء الاصطناعي على الوصول إلى نتائج دقيقة.
باستخدام هذا النهج، تمكن الباحثون من ابتكار تقنية جديدة للذكاء الاصطناعي تتعرف على معايير معينة للخلايا السرطانية متعارَف عليها لدى الأطباء، ويمكنها كذلك التعرف على معايير ترتبط بتطور المرض لم تكن معروفةً من قبل.
يقول “ياماموتو”: عملنا على تقييم هذه المعايير من خلال مقارنتها بالمعايير التي يستخدمها الأطباء في التشخيص في ثلاثة مستشفيات جامعية، ووجدنا أن استخدام الطريقتين معًا (تقييمات الأطباء وتقييمات الذكاء الاصطناعي) يؤدي إلى نتائج أكثر دقةً في توقع عودة سرطان البروستاتا.
ويُعد التنبؤ باحتمالات عودة مرض مثل “سرطان البروستاتا” أمرًا على قدر كبير من الأهمية، خاصةً أنه قد لا ينجم عنه ظهور أعراض أو علامات في مراحله المبكرة، لكنه يسفر في مراحله المتطورة عن علامات وأعراض مثل “وجود مشكلات في التبول، وضعف قوة التدفق في مجرى البول، ووجود دم في السائل المنوي، وعدم الشعور بالراحة في منطقة الحوض، وألم العظام، وضعف الانتصاب”.
ترى “طلعت” أن “هذا البحث يمكن أن يمثل نقلةً نوعيةً في الوسائل التي يمكن أن تساعد طبيب الباثولوجي على التشخيص بشكل أكثر دقة، خاصةً في الأماكن التي قد يندر فيها وجود أطباء الباثولوجي، وهم عملة نادرة للغاية في بعض الدول”، مضيفةً: “من أجل التنبؤ بنتيجة المرض في سرطان البروستاتا، نعتمد في الوقت الحالي على مقياس جليسون، إذ نعمل على جمع مجموعة من النقاط معًا من خلال الفحص الميكروسكوبي لعيِّنة البروستاتا. وكلما ارتفع هذا المجموع، كان المرض أكثر عنفًا، وكان التنبؤ بنتيجته سيئًا. ويحتاج التقييم إلى طبيب باثولوجي يتمتع بخبرة جيدة في المجال”.
تطبيقات متنوعة
لا يقتصر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الطب على علم “الباثولوجي”؛ إذ هناك العديد من التطبيقات في مجال تشخيص السرطان، وغيره من المجالات. وأحد هذه التطبيقات في مجال الأشعة ظهر في دراسة أعدها فريق بحث هندي، نجح في استخدام لوغاريتمات التعلُّم العميق من أجل التعرُّف على التغيرات التي يمكن ملاحظتها في الأشعة المقطعية على الرأس، وهي التغيرات التي قد تحدث نتيجة صدمات الرأس أو الجلطات المخية، وتحتاج إلى تدخل عاجل، وقد تفتح هذه التقنية الباب لاستخدام هذه اللوغارتيمات في الطوارئ، خاصةً في حالة نقص الأطباء، من أجل فرز المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية عاجلة وتمييزهم.
يوضح “ياماموتو” أن “هناك مرحلتين في تقنيات تعلُّم الآلة: المرحلة الأولى هي التدريب، وهي المرحلة التي نحتاج فيها إلى جهاز كمبيوتر بإمكانيات ضخمة للغاية. ومن حسن الحظ أن لدينا (سوبر كمبيوتر) استخدمناه في هذه المرحلة. وبعدها تأتي مرحلة الاختبار، وفي هذه المرحلة يمكن استخدام حاسب محمول له إمكانيات جيدة”، مشددًا على عدم تأكُّده من قدرة الدول النامية على تحمُّل التكلفة المالية لمثل هذا الأمر، الذي يتطلب من كل دولة صناعة النموذج الخاص بها بناءً على البيانات الخاصة بمرضاها، وفق وصفه.
تقول “طلعت”: لا أعتقد أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي يعني الاستغناء عن دور الطبيب، سواء كان متخصصًا في الأشعة أو الباثولوجي؛ إذ تحتاج هذه التقنيات إلى العديد من الاختبارات لتقييم دقتها وكفاءتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن تكلفة استخدام هذه التقنيات في الوقت الحالي مرتفعة للغاية ولا يمكن استخدامها على نطاق واسع، خاصةً في الدول النامية.
يتفق” ياماموتو” مع “طلعت” في هذه النقطة، مضيفًا أن “استخدام المميزات التي تعرفت عليها تقنيات الذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب مع المعايير التي يتعرف عليها أطباء الباثولوجي حققت نتائج أكثر دقةً، مقارنةً باستخدام إحدى الطريقتين بمفردها، لذا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يزيد قدرات البشر من أجل الوصول إلى تشخيص وعلاج أكثر دقةً في المستقبل”.
المصدر: scientificamerican