مازال “الصرع” واحدا من الأمراض التي تحير الأطباء في العالم حتى هذه اللحظة، على الرغم من أنه مرض قديم عبر التاريخ، وكان يعاني منه الملوك والنبلاء حتى أطلقوا عليه قديما “مرض العظماء”. ففي نحو 70% من حالات الإصابة لا يعرف الأطباء سببا لزيادة النشاط الكهربائي في المخ عن معدله الطبيعي، وهو النشاط الزائد الذي يؤدي إلى حدوث نوبات الصرع، ويمكن شفاء 50% من الأطفال المصابين بهذا المرض، إذا ما تم علاجهم قبل بلوغ مرحلة المراهقة.
والصرع هو حالة عصبية تتسبب في خلل وقتي في النشاط الكهربائي الطبيعي للمخ، وينشأ نتيجة انطلاق شحنات كهربائية شاذة متقطعة لها تأثير كهربائي أقوى من تأثير الشحنات الطبيعية، ونتيجة لهذا الخلل يتأثر وعى الإنسان وحركة جسمه وأحاسيسه لبرهة قصيرة من الزمن، وهذه التغيرات الفيزيائية تسمى “تشنجات صرعية” ويسمى الصرع أحيانا “بالاضطراب التشنجي”، وقد تحدث نوبات من النشاط الكهربائي غير الطبيعي في منطقة محددة من المخ وتسمى النوبة حينئذ بـ”النوبة الصرعية الجزئية” وهي تصيب 70% من الحالات، أما إذا كان الاختلال الكهربائي في جميع خلايا المخ فيسمى بـ”النوبة الصرعية العامة” أو الكبرى، ويصيب هذا النوع 30% من الحالات، ويؤثر الصرع على جميع الأعمار.
أما أعراض المرض فهي -بصفة عامة- عبارة عن فقدان تام للوعي قد يصاحبه السقوط على الأرض مع تشنج واختلال وتصلب عضلي عام، ويصحب ذلك غزارة في الإفرازات اللعابية، وغيبوبة واسترخاء عضلي وقد يحدث معه تبول لاإرادي، وغالبا ما يكون هناك “غثيان أو قيء” وارتباك عند اليقظة، ولا يحتفظ المصاب بالصرع بأي ذكرى عن النوبة والتي تتراوح مدتها ما بين 3 أو 4 دقائق وأحيانا تظل 20 دقيقة قبل الرجوع إلى الحالة الطبيعية للمريض.
القائد المقدوني الشهير الاسكندر الأكبر واحد من أشهر المصابين بالصرع عبر التاريخ، وكان من أذكى وأعظم القادة الحربيين على مر العصور، ولد القائد في العاصمة المقدونية القديمة “بيلا” في 20 يوليو 356 قبل الميلاد، وهو ابن الملك فيليب الثاني من زوجته الرابعة “أوليمبياس”، تتلمذ على يد الفيلسوف اليوناني “أرسطو” واعتبره معلمه الخاص الذي درّبه تدريبا شاملا على فن الخطابة والأدب، تعلم الاسكندر الأكبر فنون الحرب، وكان يصاحب أباه في غزواته منذ بلغ السادسة عشرة من عمره، وأخذ مكان أبيه فيليب الثاني بعد اغتياله عام 336 ق. م، وكان عمره وقتذاك عشرين عاما، بعدها رفع رصيد انتصاراته شيئا فشيئا في سبيل توحيد حضارتي الشرق والغرب، وبالفعل نجح في ذلك حتى أنه لم يخسر معركة قط خلال إحدى عشرة سنة من القتال ضد قوات تفوقه عدداً، ما جعله من الشخصيات الكبرى التي لها بالغ الأثر في مجريات أحداث التاريخ.
كان الاسكندر مصابا بالصرع وكان يعرف وقتها باسم “المرض المقدس” بسبب الاعتقاد بأن أعراضه كانت ناجمة عن أرواح شريرة تسكن جسم المصاب، أو أن الإصابة بالصرع كانت تعبيرا عن “غضب إلهي” -كما كانوا يزعمون- لذلك كانوا يرون أنه لا يمكن علاجه إلا بتقديم القربان لهم، وتوفي الاسكندر بعد ذلك إثر إصابته بالملاريا وحمى التيفود في 10 يونيو 323 قبل الميلاد.
قائد آخر لمع اسمه كأحد أعظم العسكريين في التاريخ وهو القائد القرطاجي الشهير هانيبال، الذي اكتسح شمال إفريقيا واسبانيا وفرنسا وسويسرا وإيطاليا، واشتهر بخططه الحربية المبتكرة، حينما قاد جيشه عبر جبال الألب في معركة ضد روما تعتبر من أبرز الأعمال البطولية في التاريخ العسكري القديم، ولد القائد هانيبال -يلفظ اسمه “حنا بعل” ومعناها “عبد الله” ومن اسمه اشتق العرب اسم “هاني”- بقرطاج عام 246ق.م, وتتلمذ على يد والده هميلقار برقه الذي رافقه في سن المراهقة إلى اسبانيا أثناء الحرب القرطاجية الأولى على الامبراطورية الرومانية.
بدأ هانيبال زحفه على روما سنة 218 قبل الميلاد, وحاصرها 15 عاما وتمكن من التغلب على الرومان في معركتين واحتل شمالي إيطاليا، وكادت روما أن تسقط لولا أن قامت ضد هانيبال ثورة في قرطاج في القرن الأول قبل الميلاد، عاش القائد هانيبال 60 عاما انتهت نهاية تراجيدية قاسية، بعدما تناول السم إثر سعي روما لأسره بعد حربه الطويلة ضدها في العام 183 ق. م، وقال كلمته الأخيرة الشهيرة “ها أنا أريح روما من قلقها وأنا رجل مسن, وسأرحل عن هذا العالم الفاني”.
يوليوس قيصر أحد أكثر الرجال نفوذا في التاريخ كان أيضا من المصابين بمرض الصرع، وقيصر كان سياسيا ورجل دولة داهية، وخطيبا بارعا وقائدا محنكا، وكانت لانتصاراته العسكرية الفضل في أن تصبح روما مركزاً لامبراطورية واسعة، تمكن قيصر من هزيمة أعدائه عام 49 قبل الميلاد، في حرب أهلية ليصبح ديكتاتور الشعب الروماني، وقد تزعم الخصوم في تلك الحرب الضروس القائد العسكري بومبى الذي فر إلى مصر، حيث قتل هناك بأمر من الرومان.
وفى الإسكندرية قابل قيصر الملكة كليوباترا، وأصبح حليفاً لها، ثم ما لبث أن أنجب منها ابنه بطلميوس الخامس عشر الملقب “بقيصرون”، وعاد قيصر إلى روما قبل أن يولد قيصرون، وأصبحت كليوباترا حاكمة لمصر، وفيما بعد انضمت كليوبترا وقيصرون إلى قيصر في روما حيث أسكنهما فى قصر على نهر التيبر، وفي 15 مارس 44 ق.م اغتيل قيصر على يد بعض أعداءه القدامى وآخرين طالما اعتبرهم من أصدقائه.
الملك ألفريد الأكبر الذي مهد للوحدة الإنجليزية، والذي تصدى لهجمات قبائل “الفايكينج” المتتابعة على شمال أوروبا، كان مصابا بالصرع ورغم ذلك لم ينقذ بريطانيا من الإبادة سوى عبقريته، ولد الفريد الأكبر في 26 أكتوبر عام 849، وأراد الملك الأنجلوسكسوني الذي تولى حكم البلاد عام 871م أن تكون بريطانيا مملكة غنية بالمعرفة، فاهتم بالتعليم فأنشأ المدارس وجعل التعليم إلزاميا، كما اهتم الملك بإصلاح الهيكل الإداري، وانتقل بالمملكة البريطانية نقلة كبيرة، وتوفي عام 899م.
وكان ملك أراجون وقشتالة شارل الخامس (1500-1558) واحدا من مصابي الصرع، ولد شارل الخامس عام 1500، وهو ابن فيليب الأول وخوانا ملكة قشتالة، جداه من ناحية الأب هما الإمبراطور ماكسيمليان الأول وماري دوقة بورغونيا، هزم القوات الفرنسية وأسر الملك فرنسوا الأول في معركة بافيا عام 1525، وأعلن الحرب على “البروتستانتية” ثم عقد مع أتباعها صلح “أوكسبورج” عام 1555، في عهده كانت الإمبراطورية الأسبانية مترامية الأطراف، فتم تقسيم ملكه بين ولديه فرديناند الأول وفيليب الثاني، وتنازل عن العرش عام 1556 واعتزل في أحد الأديرة الإسبانية.
وكان الملك شارل الخامس يعاني من أمراض عديدة أولها الصرع، كما كان يعاني من مرض مزمن في فكه السفلي لازمه طوال حياته، وأثر ذلك على صحته كثيرا، إضافة إلى إصابته “بالنقرس” وذلك طبقا لما شخصه الأطباء آنذاك.
لويس الثالث عشر والذي تولى حكم فرنسا عام 1610م وعمره أقل من 9 أعوام، كان يعاني بشدة من مرض الصرع، والملك لويس تولى مقاليد الحكم عقب اغتيال والده هنري الرابع، وقد عينت والدته الإيطالية الأصل ماري دي مديتشي وصية على العرش، وفي عهده عمت الاضطرابات أرجاء فرنسا إذ تقربت ماري بمساعدة وزيرها المارشال كونسيني من إسبانيا الكاثوليكية، واضطر لويس الثالث عشر لقتل الوزير كونيسيني في سبيل الحيلولة دون غضب البروتستانت، ووضع حد لعودة تلك الاضطرابات، وبالفعل نجح في استعادة السيطرة على معظم المدن البروتستانتية المحصنة، وحكم قبضته على مقاليد السلطة في البلاد، وكان يقول للمحيطين به إنه نجح في “التعايش مع الصرع”.
وعانى بطرس الأكبر القائد العسكري والقيصر الأكثر تأثيراً في تاريخ روسيا الحديثة عانى من الصرع طوال حياته، لكنه انتشل بلاده في بداية القرن الـ18 من حالة التخلّف والركود ليرتقي بها إلى مستوى أهم القوى العظمى في العالم، حيث مزج في سياسته ما بين الأفكار الغربية والتقليد الروسي، فتمكّن بذلك من النهوض ببلاده وخلق جيش قوي وقوات بحرية يعتد بها.
ولد بطرس الأكبر في موسكو في يونيو عام 1672، وكان ابنا للقيصر الروسي ألكسيس وزوجته الثانية ناتاليا، بعد وفاة والده اعتلى العرش وهو لم يزل في السابعة عشرة من عمره، وذلك بعد صراع سياسي وعسكري مع أخوته وأخواته غير الأشقاء.
وعمد بطرس الأكبر إلى زيادة عديد جيشه، فكان أن فرض نظاماً خاصاً للتجنيد الإجباري، يُلزم كل عشرين أسرة بتجنيد شاب لخدمة العلم الروسي، فارتفع بذلك عديدة إلى ربع مليون جندي، طوال حياته سعى القيصر الروسي لبناء روسيا القوية وقد نجح في مسعاه، إذ استمرت بلاده في تصدر زعامة الدول الأوروبية لمدة قرنين بعد وفاته.
وكان القيصر الروسي بافل الأول أول من اتبع “الماسونية” في زيها الأرستقراطي أيضا من مصابي الصرع، ولد بافل في الأول من أكتوبر عام 1754، وتولت رعايته والدته الإمبراطورة إليزابيث، وكان منذ صباه يتمتع بذكاء حاد وبعد نظر، وحكم روسيا في الفترة بين 1796 إلى 1801، وعمل على التوغل جنوبا وكانت إستراتيجيته الأساسية تتمثل في الوصول إلى “المياه الدافئة”، كما استمد السياسيون الإصلاحيون الروس القدماء والجدد روح الإصلاح من القيصر بافل الأول، الذي كان يكن لروسيا حبا جما، وإعزازا بالروسية على نحو فريد، ويذكر المؤرخون أن الإمبراطور الروسي كان يعاني من نوبات الصرع بشدة، كما أصيب بمرض التيفود عام 1771.
ذكرت كتب التاريخ أن نابليون بونابرت عانى من الإصابة بمرض الصرع طوال حياته، وبونابرت هو إمبراطور فرنسا وصاحب الانتصارات المتعددة، الذي وصفه البعض بأنه “أعظم عبقرية عسكرية عرفها التاريخ”, ولد القائد العسكري المحنك في 15 أغسطس 1769 في جزيرة كورسيكا التي كانت فرنسا قد استولت عليها قبل ولادته بخمسة عشر شهراً, وتلقى تعليمه وتدريبه العسكري في فرنسا, ومنذ شبابه كان هدف بونابرت الأول أن يصبح ذو سطوة عسكرية كبيرة في فرنسا، فتخرج وهو في السادسة عشرة من عمره عام 1785 برتبة ملازم ثان في الجيش الفرنسي, وفي سنة 1796 أصبح قائداً للجيش الفرنسي في ايطاليا، وتوالت نجاحاته حتى جلس على العرش الإمبراطوري.
وعرف عن بونابرت أنه كان غريب الأطوار، وعاشق للنساء، وفاشل في حياته الزوجية وذو ذكاء نادر، كما عرف عنه أنه لم يكن يشرع في رسم أي خطة حربية إلا وهو يمص أقراص “السوس”, كما كان خطه في الكتابة رديئاً جداً, حتى أن البعض ظن أن رسائله رموز أو “خرائط حربية”!
وكانت معركة واترلو عام 1815 آخر معارك القائد نابليون بونابرت حيث لقي فيها هزيمة نكراء وضعت حداً لطموحاته السياسية، بعدها تنازل عن منصبه ونفي إلى جزيرة إلبا قبالة ساحل ايطاليا، ثم عاد بعد ذلك محاولا تشكيل جيش لإعادة مجد الإمبراطورية من جديد إلا أنه فشل مجددا، ونفي إلى جزيرة سانت هيلينا حيث مثواه الأخير في 5 مايو عام 1821.
ومن مشاهير المصابين بالصرع تيودور روزفلت الرئيس الأمريكي الخامس والعشرين، ورغم أنه أصغر رئيس تولى حكم الولايات المتحدة حيث أصبح رئيسا وعمره 42 عاما، إلا أنه من أبرز من شغل هذا المنصب، فكان معروفا بنشاطه ومهارته، وخلال حياته اعتبر مؤلفا، مشرعا، جنديا، صيادا، دبلوماسيا، محافظا على البيئة، من المتحمسين للقوة البحرية، صانع سلام ومصلح اقتصادي، حيث حصل على جائزة “نوبل” للسلام على دوره في الوساطة لإنهاء الحرب الروسية اليابانية عام 1905، وقيل أن الرئيس الراحل كان يعاني من أعراض الإصابة بمرض الصرع، بالإضافة إلى ضعف البصر، وكان يعاني أيضا من الربو.
أحمد جندي