في بلاد الرافدين التي ضم تاريخها الكثير من الإنجازات التي أذهلت البشرية، هناك مهن وحرف ارتبطت بذاك التاريخ وأصبحت من التراث الشعبي المعبر عن عمق وأصالة هذا الشعب. من هذه المهن والحرف صناعة الأسرة أو المنتجات السعفية أو (أبو السراير) كما يطلق عليها.
كانت صناعة الأسرة محدودة بأنواع معينة من المنتجات كالأسرة والأرائك والأقفاص لنقل الفواكه والخضار)، والمظلات المعروفة بـ(العمارية) لتجنب أشعة الشمس، ثم توسعت لتشمل صناعة الأثاث والمعارض وواجهات الديكورات للحدائق والمتنزهات نتيجة تطويرها من قبل الأجيال الجديدة التي واكبت التقدم.
وظهرت بشكل جلي في تسعينيات القرن الماضي بسبب ظروف الحصار التي مر بها العراق والتي تطلبت إنتاج منتجات حسب الحاجة إيماناً بالمثل الشعبي المعروف (الحاجة أم الاختراع) وذلك لغلاء الأثاث المصنع فهناك صناعات الكرسي المعروف (الدائري) و(القنفة) الأريكة وأنواع الأثاث (تخم الجلوس) مثل التخم المصري والملكي والرئاسي والبغدادي ومنتجات أخرى كمعارض الأجهزة الكهربائية والمكتبات وواجهات الديكورات.
الحرفي محمد عبد الله يقول: إن تاريخ هذه الحرفة قديم، وأنا في هذه المهنة منذ أكثر من 40 سنة توارثتها عن أبي، وهي تختص بالمناطق الوسطى من العراق وتحديداً بغداد وديالى والحلة وكربلاء، أما في المحافظات الجنوبية فلا وجود لهذه المهنة بسبب ضعف تكوين السعف وقلة مقاومته في العمل جراء ملوحة الأرض.
المادة الأساسية في صناعة هذه المنتجات إذن هي السعف والأكثر دقة هو الجريد ولا تدخل أية مادة أخرى في هذه المهنة، وصار لها تجار وتجارتهم هي قطع السعف من النخيل بالتركيب والتخلص من الشوائب (الخوص) الذي له مجال صناعات أخرى وجمع الجريد في أكوام ورزمه وبيعه لأصحاب الحرفة حسب الظروف المناخية ومواسم التكريب وجني التمور وتنظيف النخيل، وهذا يتم بداية الصيف أي موسم (التلقيح) يكون سعر السعف مناسباً (بحدود 50 ألف دينار لكل ألف جريدة) أما في موسم قطف المحصول (التمور) فان المزارع يحرص على إنتاجه من التلف أو السقوط بسبب صعود عامل التنظيف (المكرب) على النخلة، فترتفع أسعار الجريد وتصل إلى 85 ألف دينار لكل ألف جريدة، حيث يعاني أصحاب هذه المهنة من صعوبة العثور على السعف لفقدانه من المزارع والبساتين.
سألنا المواطن عباس صبحي حبانه صاحب محل لصناعة الأقفاص عن هذه المهنة فقال: هناك صنفان من المشتغلين في هذه المهنة، صنف يشتغل على الأسرة وصناعة الأثاث، وصنف آخر يمتهن صناعة الأقفاص فقط لتعبئة الفواكه والخضر وهم قدماء في هذه الحرفة يتوارثونها إبان عن جد ولا يعملون في صناعة المنتجات الأخرى.
وأضاف حبانه، نعتمد على سعف النخيل الأخضر واليابس بعد تنظيفه من الخوص، فقفص (المخضر) له قياسات تحدد بـ(6) عيون عرضاً تساوي 35سم و(8) يكون طولاً تساوي 50سم لحمل 17 كغم من العنب أو البرتقال أو التمر أو غيرها من الفواكه والخضر.
نقوم بالتقطيع (التطبير) حسب القياس (الكدر) والقياس الثابت لدينا هو ما ذكرته سابقاً نحدده بقطعتين من الخشب وآلات عملنا بسيطة هي الساطور والسكين والسمبة والمثقف وأدوات خشبية هي (المدكة) المطرقة والفراشة (المعلم) وهي عبارة عن مسمار محمول على خشبة، وبعد ذلك يتم تركيب القفص.
وقال الحاج كريم سالم يعمل في المهنة : إننا نعمل في هذه المهنة منذ زمن بعيد وأنا أخذتها عن والدي الذي أخذها عن جدي، ولا يمكن أيجاد عوامل أو مسميات أخرى لتطوير هذه الصناعة، ففي عملنا لا تدخل مواد أخرى غير الجريد ومستلزمات وآلات العمل هي نفسها منذ القدم ولم تستحدث آلات كهربائية لصناعة الأسرة.
ويعتقد الحاج كريم أن هذه المهنة سوف تنقرض بمرور الوقت بسبب الجهد العضلي الكبير الذي يبذل فيها أولا: وانعدام التقدير وفقدان روح المثابرة والإقبال عند الناس على الفن القديم، وثانياً بسبب عدم الجودة والنوعية عند بعض الحرفيين الذين أساءوا لهذه الحرفة بوصفها تراثاً شعبياً، إضافة إلى مزاحمة الصناعات البلاستيكية.
وفي الوقت الحاضر وجدت صناعة الأسرة إقبالا شديداً من قبل المواطنين بسبب رخص أثمانها ومقاومتها الكبيرة للظروف الجوية والمناخية كالأمطار والرطوبة والجو الحار، وكذلك اقتناع الكثير من الناس لهذه المنتجات لجمالية صنعها وارتباطها الشائع بالتراث الشعبي العراقي، وهذا ما لاحظناه في التسعينيات من إقبال السائحين العرب والأجانب لاقتناء وشراء هذه المنتجات لعدم وجودها في بلدانهم.
وحدثتنا الحاجة أم علي عن فوائد الخوص لمن لا يعملون في صناعة الأسرة بالقول: نحن نقوم بصناعة (الحصران) والزنبيل والمكانس ومطابق الخبز من الخوص فنقوم بتخريط الخوص و(تفلسيه) تقشيره، وتقسيم الخوصة إلى قسمين متصلين من الاسفل ثم يترك حتى يجف ثم نقوم بتنقيعه بالماء بحدود نصف ساعة لكي يتم العمل به بسهولة، وبالنسبة للحصير فالبداية (البدوة) تتكون من 12 خوصة تتم فيها المساقاة بين الخوص أي يتداخل ويتشابك الخوص مع بعضه حتى يتم تجهيزه على شكل شرق (شركة) عرض الساف الواحد بحدود 15سم وبمختلف المقاسات وحسب الرغبة من (20) سافاً أو أكثر أو اقل فالحصير بقياس 2×3م يتمر إنتاجه بيه 2-3 أيام، ثم تتم الخياطة بين ساف وآخر للقياس المراد، اما مطابق الخبز فتتم على شكل خرازة أي تتم وضع قصب ناعم وخوص ناعم والعمل به بنفس الطريق نفسها ولكن مع وجود القصب ليعطيه صلابة وعدم ليه بسهولة.
كمال سعدون