عرف الإنسان صناعة الفخار منذ العصور البدائية.. حيث شكل منه احتياجاته من الأواني والقدور والجرار والمسارج وغيرها من الأدوات الضرورية التي مثلت عصب الحياة اليومية حتى وقت قريب.
وفي العصر الإسلامي شهدت صناعة الفخار تطوراً ملحوظاً، سواء في تقنيات الصناعة ذاتها أو في ابتكار أشكال جديدة من المنتجات الفخارية وزخرفتها بطرق متنوعة.
واستخدمت القوالب الفخارية وقوالب الجص ذات الزخارف المحفورة في تشكيل زخارف بارزة على أبدان “الفلل” باستخدام أسلوب الضغط أو الصب وكانت تطلى أحياناً بطلاء زجاجي وخزفي .
انقسمت الصناعات الفخارية في ذلك العصر إلى نوعين، نوع يتم صناعته لطبقة الأعيان والمقتدرين وكان يتم إنتاجه بخامات منتقاه على أيدي أشهر الصناع، ونوع شعبي يتم إنتاجه بالمواد المحلية مع مراعاة الاقتصاد في نفقات الصناعة التي تفي بالغرض، وهو النوع الأكثر شيوعاً بين الناس.
ومن أشهر المدن الإسلامية القديمة في صناعة الفخار، مدينة الفسطاط العاصمة القديمة لمصر الإسلامية، وكان إنتاجها من الفخار امتداداً للفخار المصري الشهير والمعروف منذ عصر الفراعنة .
وأنتجت الفسطاط في العصرين الطولوني والفاطمي مختلف أنواع الفخار المعروفة في ذلك الوقت، غير أنها اشتهرت بصناعة الفخار الخزفي ذي البريق المعدني، والفخار ذي الزخارف المحفورة في طينة “الأنية” تحت الطلاء ذي اللون الواحد، وتميزت طينة الفسطاط بالنعومة والهشاشة والميل إلى اللون الأحمر.
وفي العصر المملوكي أصبحت القاهرة مركزاً مهماً لأنواع إنتاج الفخار الشعبي، المتميز بالبساطة وقلة التكلفة وحسن الذوق ودقة الصنع وتأتي “المسارج الخشبية” على رأس تلك التحف الفخارية في ذلك الوقت، وكانت ذات أشكال متعددة وزخارف متنوعة ، فكان منها البيضاوي والمستيل على أربعة أرجل قصيرة، وكان منها على شكل أبريق صغير ،وما يشبه الكلجة (حاملة الزير) وبعضها شكله على هيئة حيوان صغير.
وكانت المسارج تصنع بجدارين، الخارجي منها على شكل شبكة ذات زخارف هندسية مفرغة ، والداخلية لحفظ الزيت ، وكان منها فخار مطلي بالمينا المتعددة الألوان، وقد وجد على بعض هذه المسارج أسماء الصناع، مثل المعلم “أحمد جمعة”.
ومن الأواني الشائعة في فخار القاهرة الشعبي “قلل الفخار” وقد تفنن الفخرانيون في ابتكار أشكال عديدة لهذه القلل وفي زخرفتها بأساليب مختلفة ومتنوعة كما أسلفنا ، وبرع الخزف في الأشكال الخاصة بشبابيك القلل وتزيينها بالكتابات الكوفية والنسخية والعبارات الدينية وأبيات الشعر والأقوال المأثورة، كما وصل إلينا أسماع بعض صناع القلل ومنهم “قاسم” ومصري، وسعد وعابد ويوسف القلال”.
وصنعت من الفخار أيضاً “أختام مستديرة مزخرفة” كان يطبع بها الكعك في الأعياد والمواسم ، وكان عليها رسوم هندسية وبنانية وآدمية وطيور وحيوانات وكتابات خطية محفورة .
كما صنعت أنواع مختلفة من لعب الأطفال من الفخار غير المطلي، منها تماثيل مجوفة لطيور وحيوانات، وأشكال آدمية مختلفة الأحجام فضلاً عن الصفارات والشخاليل والتي مازالت توجه في الريف حتى الآن.
وقد ظهر في ذلك الوقت نوع متقدم من الفخار المطلي بالمينا المتعددة الألوان، وطينة هذا الفخار حمراء أو سوداء اللون تغطيها بطانة بيضاء ترسم فوقها الزخارف بارزة بالميناء الملونة. وكان أشهر صناع هذا النوع يدعى “شرف الأبواني” ويرجع نسبة إلى بلده بصعيد مصر اشتهرت بصناعة الأواني الفخارية، وبعد زيادة الإقبال على منتجاته انتقل إلى الفسطاط ، حيث عثر على العديد من منتجاته وحفظت بالمتحف الإسلامي.
أما عملية صناعة الفخار ذاتها تتم عبر مراحل صناعية متعاقبة، تبدأ بعجن الطين ثم تشكيل الإناء على الشكل المطلوب، ثم التجفيف والحرق ليخرج المنتج في شكله النهائي.
والطين هو أول المقومات الأساسية في صناعة الفخار، وهو تحليل لسلكيات الألمنيوم وصخور الصوان التي تشكل ثلاثة أرباع مساحة القشرة الأرضية ، وهذه الصخور بركانية الأصل .
وللطين ثلاثة عناصر ، منها عناصر رئيسية وهي السليكا والألومنيوم والماء المتحدين طبيعياً، وعناصر متممة منها أكسيد الحديد وكربونات الجير المتحولان إلى أملاح قابلة للذوبان في الماء ثم عناصر دخيلة وهي المواد التي لا تذوب في الماء كالسليكا المستقلة والحبيبات الخشنة من كربونات الجير وهي مواد ضارة لصناعة الفخار.
والطينات أنواع، فمنها الطمي الذي يتراكم في قاع الأنهار والبحيرات، والطينات الزراعية، والطينة الجيرية، والطينة القلوية التي يطلق عليها اسم “الصلصال” وهي بدورها تنقسم إلى ثلاثة أنواع طفلي، ورملي، وحصوي.
وكانت عملية عجن الطين تتم بعد تكسير الخامات الأولية وطحنها إلى حبيبات صغيرة ، ثم تخلط هذه الخامات بنسب محددة لتكوين قوام متجانس تعطي الفخار خصائصه المطلوبة.
وقد تعددت طرق تشكيل الفخار، فمنها طريقة التشكيل اليدوي، وهي طريقة بدائية ذات أساليب متعددة، وهي لا تزال تتبع حتى الآن في بعض المناطق الريفية لإنتاج الأشكال الغير أسطوانية، حيث تصنع القطعة الفخارية من عدة أجزاء ثم تجمع وتلصق بواسطة “الخدش” ثم تلمس سطح القطعة بيد مبللة بالماء.
ومنها طريقة “الدولاب” لتشكيل الأواني، والدولاب هو الأداة التي تستعمل في تشكيل القطع الأسطوانية والمحورية ذات القطر الكبير بمختلف أنواعها، وهو عبارة عن قرص مستدير يدار أفقياً ومثبت على محور في الوسط ينتهي بقرص آخر قطره ثلاثة أضعاف القرص العلوي , وكان يدار بجلوس الخزاف على كرسي ويستند بقدمه الأيسر على مسند خاص مثبت في نهاية هيكل الدولاب ثم يضرب بمشط قدمه الأيمن القرص السفلي إلى الأمام فيتحرك القرص العلوي ويدور ليبدأ تشكيل قطعة الطين إلى أناء، وكان الدولاب الإسلامي يمتاز عن الدولاب الروماني بميل قرصته.
ومن طرق تشكيل الفخار أيضاً طريقة “الصب” وكانت تستعمل في تشكيل التماثيل وصنع الأواني الرقيقة، ويلزم أن تكون عجينتها سائلة.
أما عملية التجفيف فكانت تتم في مكان رطب معتدل الحرارة حيث توضع الأواني بعد تشكيلها على أرفف وتترك فترة معينة كافية لتجفيف جميع أجزاءها، تجنباً لحدوث تشقق أو التواء في المنتج.
وعقب ذلك تنقل القطعة إلى مكان آخر لتعريضها للشمس والهواء، وترص القطع منكسة على فوهتها، وبعد فترة تصبح القطع مهيأة لتسويقها والتحول من طينة جافة إلى فخار بعد عملية الحرق.
ومرحلة الحرق هي آخر مرحلة في صناعة الفخار، والهدف منها إخراج الماء المتحد كيميائياً مع الطين وتكوين مادة قوية متماسكة.
ولكل طين درجة حرارة معينة، وقبل العصر الإسلامي كان الفخار يحرق في “قمائن” ذات حريق غير مباشر تعزل قدور الفخار عن الوقود، وكانت الأفران مربعة الشكل وذات لهب عمودي بسيط.
أما الفرن الإسلامي فكان من النوع المستدير ذي اللهب المنفرد التصاعدي، وكان يبنى بالطوب الأحمر، واتبعت فيه طريقة الرص المفتوح للقطع الفخارية، ويوجد في المتحف الإسلامي بالقاهرة مجموعة من أدوات الرص الفخارية المصنوعة من نفس طينة الأواني. ويتكون الفرن عادة من ثلاثة أجزاء رئيسية هي بيت النار وغرف الرص والمدخنة .
وقد أمدتنا المصادر التاريخية بمعلومات وافية عن أماكن وجود الفخار وتكوينها الصناعي، وكانت الفاخورة تقام على مساحة تبلغ نحو 20 فداناً وتتكون من مساحة واسعة لخلط الطين، وبئر للمياه، وثلاث حفر كبيرة ومسطولات، وتنور بقباب ثلاث.