الفن الهندي قدم د. ثروت عكاشة في موسوعة تاريخ الفن “العين تسمع والأذن ترى” التي صدر منها ثمانية وعشرون جزءاً، استعرض خلالها الحضارات الإنسانية المتعاقبة بادئاً بفن سكان الكهوف في العصر الحجري القديم مختتماً بفنون القرن الثامن عشر.
وكتاب (الفن الهندي) الفائز بجائزة الشيخ “زايد” في فرع الفنون لعام 2007 م ، هو الجزء الأول من سلسلة “فنون الشرق الأقصى” الهند والصين واليابان، والجزء الثلاثون من موسوعة تاريخ الفن، يستعرض من خلاله الباحث عقائد الهند الدينية وأربابها ويطوف بآثارها، متناولا فنون النحت والعمارة الهندية عبر عهود الأسر الحاكمة المتعاقبة، ويقف على العمارة المغولية في الهند خاصة مقام تاج محل، مختتماً الدراسة بفنون الدراما والرقص والموسيقى والأدب الهندية، مسجلا بالرسوم واللوحات المصورة نماذج مختارة لأهم أثار العمارة والنحت والتصوير والموسيقي في الكتاب الذي يقع في “441” صفحة من القطع الكبير.
Table of Contents
عقائد الفن الهندي
بدأ الباحث بنبذة تاريخية عن نشأة الفن الهندي مستعرضا معتقداته الدينية على مر العصور وما صنعته من ملامح وطقوس وأناشيد كانت بمثابة المفتاح السحري لهذا الفن الهندي الذي استلهم موضوعاته منها مجتمعه، كما يظهر في مباني ” الستويه” التي شيدت قبل قرون من الميلاد في مملكة “ماجواه” بوادي نهر جانجه، فيما ازدهرت فنون الهند في مطلع القرن الأول الميلادي بانتشار المدارس الفنية مع تطور العقيدتين “الهندوكية والبوذية”، كما اتخذ الهنود من الطبيعة والأرواح آلهة، وظهر دور رجال الدين فظهرت طبقة “البراهمانية” من جماع الكتب المقدسة في العقيدة الهندوكية.
وقدم الباحث تفسيرا لبعض المصطلحات الخاصة بالعقائد الفن الهندي فعرف “الهندوكية” بأنها نظام متكامل للحياة، وهي رأي معقد ظاهره تعدد الآلهة وباطنه التوحيد، و”اليوجا” تطلق على الحياة الصوفية التي يراد بها تخليص الإنسان من أوهام العالم الحسي وهي أحد نظم الفلسفة الهندية التي تقوم على نظرية فسيولوجية، أما “الجيينية” فهي أحد العقائد الهندية التي تهدف إلى العلو بالإنسان إلى مراتب الكمال، و” البوذية” بنيت على مبدأ ضبط النفس من خلال التخلص من الشهوات وإتباع التعاليم والعقائد السليمة، ولا توجد طقوس وشعائر لها فهي نظرية خلقية، والنصوص البوذية تسجل قصص من حياة بوذا ومواعظه.
وأدب الفن الهندي يشمل عدد من الملاحم الأسطورية التي تروي تاريخ الفن الهندي كما في ملحمة الهند الكبرى “مهابهارت” للشاعر “فياس” التي تكون من مائة آلف بيت تدور حول الأشعار الدينية والحرب القبلية، بينما تضم ملحمة “رامانيه” 48000 بيت في سبع أجزاء تروي فيها مغامرات الصياد، وتقدم ملحمة ” البهجوت بورانه” أناشيد في العقيدة الفشنوية، أما ملحمة ” الجيتاجو فينده” فتقدم أغاني الإله ” كويشنه” الذي يمثل محور المجمع الإلهي الهندوكي .
سمات الفن الهندي
كانت اللغات والأختام والعملات بمثابة سمات دالة على الفن الهندي حيث كانت اللغة السنسكريتية هي اللغة الرئيسية في الهند القديمة ومن فنونها الكتابة المحسنة التي كانت تلصق نهاية الكلمة بالكلمة التي تليها، وكانت منتشرة في الشمال، فيما كانت اللغة ” الدرافيدية” منتشرة في الجنوب، ومن اللهجات السنسكريتية ” الهندو” و”الأوردو” ، وكان من سمات الفن الهندي أنه يصور الزعيم والرسول والموسيقي والشاعر والفنان والفارس كما تميز أيضا بعناصره الجذابة من فكاهة وهزل وبطولة وترويع وجنس، وبنظرة لعدد من لوحات بوذا وتعاليمه التي تنقلها المعابد المنتشرة يشير الباحث إلى التشابه بين الفن الهندي والفن الأوروبي في العصور الوسطى .
النحت والعمارة
ترتبط فنون النحت والعمارة الهندية المركبة بالمعتقدات الدينية في الفن الهندي ؛ حيث يعبر مبنى “الستويه” في كلكتا عن العقيدة البوذية وهو رمز ومبنى جنائزي، وكذلك قاعة “الكاتييه” التي تعد مصلى للعقيدة البوذية، كما تميزت العمارة الهندية باستخدام الطوب والحجر والأسقف الكروية والقبوات الاسطوانية والأعمدة الملتصقة بالجدران كما في المعابد الكهفية بمدينة بومباي.
وتتناول الدراسة تطور فنون العمارة والنحت عبر الأسرات الحاكمة منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن الثامن عشر الميلادي، حيث كان فجر النهضة الفن الهندي في أسرة ” موريه” فبدأ النحت على الحجر؛ وعثر على أقدم المنجزات المنحوتة في المعابد البوذية، فيما شجعت أسرة ” سونجه” إنشاء السقائف المرتكزة على صفوف الأعمدة لتمثل نهضة فنون المعمار والتصوير، بينما جمعت أسرة ” كوشان” بين الفن المحلي والتأثيرات اليونانية، وكانت ذروة الأمجاد الفنية في “ستويه سانش” قمة الآثار المعمارية التي قدمتها الهند البوذية للبشرية في أسرة “جوتيه”.
وتشاهد الإبهار في المداخل المكشوفة للمعابد في أسرة “فاكاتاكه” حيث يظهر الذوق الرفيع في كهوف “اجانته” من تناغم في التصوير وتناسب بين الشخوص والأشكال واستخدام ألوان الطيف، وكانت أول منجزات العمارة المحفورة في الصخر في منطقة كيرله الحالية لأسرة “يالا” التي استخدمت الطين المحروق في تشييد المنشأت المعمارية وزينتها بمنحوتات حجرية، ومن أبرز المعابد الصخرية معبد الإله ” شيفه ” في ” كالاجومالاي” الذي أطلق عليه معبد المثّال، وهو من أجمل التماثيل الصرحية التي شيدت في أسرة ” بانديه” التي تميزت بفن التصوير والمخطوطات على سعفات النخل والنحت على الخشب.
ومن أعظم أعمال مثّالي الفن الهندي في أسرة “تشانديله” ، وتشاهد تحفة عالمية فريدة في معابد ” خاجوراو” فترى روعة معبد “كاتدرائية مهاديف” الذي يمثل ارتقاء لمستوى المعمار والنحت المركب ، حيث يذخر جدرانه بالمنحوتات الموكبية التي تضم الخيل والأفيال والمحاربين والصيادين والبهلونات وبعض المشاهد من التمثيليات الجنسية الصريحة .
وتركت أسرة ” جانجه” معبد مدينة كونارك تكريما لـ “سوريه ” إلهة الشمس عند الهنود، فيما يوجد لأسرة ” كاكاتيه” منحوتة مستلة من أحد السقوف تمثل ” سارسقني” ربة المعرفة وراعية الفنون والآداب لديهم وهي ترقص فوق ظهر طائر البجع.
وانتشرت أفاريز النحت البارزة الممتدة فوق الجدران في أسرة “فيجايه نجر” لتمثل مواكب الجند والفرسان والفيلة والراقصات وبلغ التصوير ذروته كما في معبد ” بدراوبادي” في هامبي، ومن أسرة ” ناياك ” يرجع التمثال العاجي الرهيف للملك تيروماله وعقيلته المحفوظ بمتحف سيريرانجام، ولوحة راتي إله الحب وزوجته كامي وهي تمتطي ظهر أوزة، والإله شيفه وهو يرقص.
مدارس التصوير الفن الهندي
استلهم فنانو التصوير الجداري في الفن الهندي فنونهم من قصص بوذا وسيرته التي تكشف عادات الهند وأعرافها، وتميز التصوير بخطوطه العريضة المعبرة وتناغم ألوانه وإضفاء العاطفة الحادة عليه، فاهتموا بتصوير الحب الحافز على تواصل الجنس البشري وتكاثره.
ومن مدارس التصوير كانت مدرسة في الفن الهندي “يالا” التي تميزت بالبساطة والتناسق وتغليب النزعة الطبيعية، والمدرسة في الفن الهندي ” الجيينية” التي عرضت النصوص المقدسة فتميزت بألوانها الزاهية ورسم الشخصيات ذوات العيون الجاحظة ، بينما تأثرت مدرسة “الراجه ماله” بالفن المغولي في تناول المشاهد الخاصة بالقصر والبلاط وعمل البورتيريهات، بينما ظهر الأسلوب الزخرفي في المدرسة “الراجستانية” التي دارت رسومها حول أساطير الإله “كريشنه” والفروسية ومفاتن النساء .
ومن الأساطير الهندوكية الرامزة إلى الصراع بين الخير و الشر، تشاهد صور الإله سبته وأسرته فوق قمة جبل كابلاشة حيث يعيش من مدرسة في الفن الهندي “ياهاري”، وتشاهد كريشنه يخطف ملابس حالبات البقر أثناء استحمامهن في النهر من مدرسة في الفن الهندي “باشوهلي” التي تميزت رسوماتها بالحدة المقرونة بالبساطة واستخدام الرمز في الألوان ، فميا اهتمت مدرسة “كانجراه” بتصوير الموضوعات الجنسية المرتبطة بأساطير كريشنه، ويظهر تأثير الفن المغولي في بورتيريهات الأسرة المالكة كما في مدرسة “ماروار” .
الإسهام الإسلامي المغولي
استعرض الباحث في دراسته الإسهام الإسلامي المغولي في الحضارة الهندية ، الذي بدأ في عهد ظهير الدين محمد بابر 1501م الذي أسس إمبراطورية المغول على إطلال سلطنة دهلي ناقلا فنون الحضارة الإسلامية إلى هناك فتميز التصوير في حقبته بالحكايات التي تمجد أبطال الإسلام والقصائد الرومانسية والتاريخية للسلاطنة ، وفي عهد “همايون” الذي يعد الراعي الأول للتصوير المغولي في الهند ومن أبرز المخطوطات كانت مخطوطة “حمزة نامه” التي تشيد بمأثر سيدنا حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي تعد الرمز الفني المعبر عن الفتح الإسلامي المغولي للهند وتتكون من 1400 صورة .
وجمع الفن في عهد “جلال الدين أكبر” بين تقاليد الفن الهندي القديمة ومناهج الإسلام ليحقق تطور فني ومعماري ، بينما اهتم ابنه “جهانجير” بالبورتيرهات الشخصية وركز الفنانون في عصره على الكيف والعمق في التصوير، فيما تميز عهد “شاه جهان خورم” بالتكليف في رسم التفاصيل البسيطة، كما أظهر فن التصوير ثراء البلاط الملكي.
تاج محل تحفة العمارة المغولية
وفي إطلالة على العمارة المغولية نذهب مع الباحث إلى الأضرحة التي كانت من السمات المميزة لهذه الحقبة مثل ضريح”إسماعيل الساماني” في بخاري، ويلاحظ التأثر بالعمارة الفارسية القديمة في مأذنة منار قطب والقلعة الحمراء “لال كيله” التي شيدها شان جهان في دلهي، ويعد مسجد الجمعة بدلهي ومقام تاج محل بآجرا نموذجين مثاليين للمباني الراقية رفيعة المستوى .
ويعتبر مقام تاج محل الخلف الشرعي لضريح همايون وترجع قصة بناءه إلى أن الإمبراطور ” شاه جهان” عندما توفيت زوجته ومحبوبته “ممتاز محل” وهي تضع مولودها الرابع عشر، حزن عليها حزنا شديدا، فقرر أن يبني لها مقام يخلد ذكراها، فجمع عمالقة المهندسين والفنانين في البلاد لعمل تصميم مكتمل لا يعيبه شئ، حتى أنه لإتمام هذا البناء الضخم استخدم 20 ألف عامل يوميا طوال عام 1643م.
ووضع تحفة معمارية للبشرية أصبحت من عجائب الدنيا السبع، لتأثيرها الساحر والأخاذ لمن يزروها؛ حيث توج مبنى الضريح بقبة ضخمة بصلية الشكل مكسوة بالمرمر الأبيض تعلوها خوذة زخرفية ينبسق منها عمود من النحاس المشغول ينتهي بهلال، ليشكل الحصاد الزخرفي لتاج محل العنصر المثالي المميز لعهد شان جهان في العمارة والتصوير وصياغة الأحجار الكريمة .
الدراما والموسيقى والرقص الهندي
انبثقت الدراما الفن الهندي كغيرها من الفنون من الطقوس والشعائر القديمة، حيث بنيت بصفة عامة على توحد فنون الشعر والرقص والموسيقى في عمل تكوين قائم بذاته ينصب الاهتمام فيه على براعة الأداء أكثر من المضمون، وتستقى الدراما الهندية مادتها من الملاحم الدينية مثل المهابهارت، ويلاحظ اتجاه المسرح السنسكريتي للرمز في أسلوب الأداء والإيماءات الدقيقة للممثلين، والمسرحية السنسكريتية هي عبارة عن قصيدة شعرية تؤدى تمثيليا، كما يعرض الأدب المسرحي “الكرينشوي” قصص كريشنه راعي البقر العربيد ومغامراته مع فتيات الجوبي.
أما الموسيقى فهي فن يرجع تاريخه إلى ثلاث آلاف عام، حيث شاعت في الهند أنواع من الطبول والآلات الطرقية، ولكن ظل الصوت الأدمي أرفع مصادر الموسيقى شأنا، ويعد ” السيتار” أشهر آلات الموسيقى الهندية، والراجه ماله مصطلح يوضح العلاقة بين النغم وتآلفاته في تكوين موسيقى ضمن إطار أحد المقامات، حيث يوجد 36 مقاما موسيقيا هنديا.
ويعتبر الهنود الرقص قربانا يقدمونه للآلهة ، ومن الرقصات الشعبية في الهند الرقصات الحربية التي تبث روح الشجاعة والنصر، ورقصة “جاربه” التي ترقصها النساء ، بينما يرقص الرجال رقصة “داندياراس”، ومن الرقصات الكلاسيكية رقصة ” بهارات نايتام” وهي قصة تعبيرية في أداء راقص ، و”الكوتشيودي” و”الاوديسي” التي أخذت وصفاتها الحسية من منحوتات معابد كوناراك، ورقصة “المانبيوري” بمملكة مانبيور في آسام والتي ترتبط بأساطير كريشنه، و “الكاتاك” المرتبطة بمغامرات كريشنه مع محبوبته رادهه والتي تؤدى بأسلوب التعبير الإيمائي ، و” الكاتاكالي” الرقصة الدرامية المقتبسة من الأساطير الهندوكية في ملحمتي المهابهارت والرامانيه.
الأدب الهندي
يستعيض الشاعر ” كاليداسه” 320م – كأحد رموز الأدب الهندي- عن المبالغات المأثورة بدلالات مختلفة صور فيها البشر والحيوان والشجر والسحب؛ حيث كان لأعماله تأثيراتها على الفنون الأخرى من نحت وتصوير ، بينما يقدم الشاعر “شودراكه” مسرحية “القرية الصغيرة المصنوعة من الصلصال” التي تقوم على الواقعية الاجتماعية وتتناول بالسخرية السلوكيات والأخلاقيات المرتبطة بالمادة، ومن الأدب الهندي القديم ” البانشتنتر” وهي مجموعة قصصية رمزية يرويها أحد الحكماء على لسان الحيوان، أما “التيبيتاكه” أو السلات الثلاث فهي مختارات من أحاديث بوذا ومواعظه.
وينتهي الباحث بنظرة إلى فن شاعر الهند العظيم “رابندرانات طاجور” المولود عام 1861م والذي تكمن عبقرية أعماله في قدرتها على التسلل إلى جوهر النفس الإنسانية إلى أن يحتويها، والمزج بين الحسية الرومانسية والصوفية الروحانية ، كما قال عنه أدباء الغرب، ليستحق أن يحصل على جائزة نوبل في الآداب 1913م عن ديوانه ” جيتا نجالي” الذي تضمن رسائل روحانية من وحي الخيال ، ليكون أول أديب شرقي يحصل على هذه الجائزة، ويكون سببا في نقل الثقافة الهندية إلى اللغات الأخرى.
نبذة عن الكاتب
د. ثروت عكاشة المولود في القاهرة 1921 عمل في حقول العلم والاقتصاد والبحث الفكري والأدبي، وهو خريج الكلية الحربية ،1939 ، وحاصل على دكتوراه في الآداب في جامعة السوربون 1960 وشغل منصب سفير مصر في روما 1957 1958 ووزير للثقافة والإرشاد القومي 1958: 1962 وعمل رئيسا للمجلس الأعلى للفنون والآداب، ووزيرا مرة أخرى للثقافة 1967 : 1970 وقد نال جائزة الدولة التقديرية للفنون 1988م
من أهم أعماله ترجمة الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران وغيرها من الأعمال الخالدة مثل مسخ الكائنات وفن الهوى للشاعر اللاتينى أوفيد، ومولع بفاجنر لبرنارد شو، ومن أعماله في التأليف موسوعة تاريخ الفن العين تسمع والأذن ترى ، وفى مجال التحقيق قدم كتاب المعارف لابن قتيبة، وعن التراث القومي العربي والإسلامي والفرعوني أصدر فن الواسطى من خلال مقامات الحريري، ومعراج نامة أثر إسلامي مصور، وإنسان العصر يتوج رمسيس، وتميزت إصداراته بضمها مجموعات من الصور واللوحات الفنية النفيسة، الملونة وغير الملونة، يتعرف من خلالها القرّاء على ذخائر التراث الإنساني.