المجلةبنك المعلومات

حكاية الجارية تودّد

حكاية الجارية تودّد

 

حكاية الجارية تودّد

 

طيلة قرون عديدة، وفي سياق تجارب حضارية متباعدة متفاعلة، ظلّت حكايات “ألف ليلة وليلة” تنمو وتتشكّل على هامش الثقافة الرسمية العالِمة ورغماً عنها، سلاحُها في ذلك المشافهةُ وقدرةُ الذاكرة الشعبية على اختراق حدود الزمان والمكان. وبعدما دوّن الورّاقون “الليالي” وقيّدوها في الصحائف والأسفار، انتبه العالم -غرباً وشرقاً- إلى تعدّد رواياتها واختلاف صيغها، وآخرها مخطوط مجهول من “حكاية الجارية تودّد” عثر عليه المستعرب الفرنسي فلوريال سانغوستان في مدينة تمبكتو وقام بنقله إلى لغة فولتير.

حكايات للنسيان

بمزيج من اللامبالاة والازدراء ظلّت الثقافة العربيّة الرسمية العالِمة شبه ذاهلة عن حكايات “ألف ليلة وليلة”، فلم تُـبادر إلى تبنّيها والاعتراف بها، ولم تحرص على إدراجها ضمن متونها المكتوبة، بل تعمّدت تركها في مواجهة مصير شفوي منذور للصدفة والمجهول اقتناعا راسخا منها بأنّ “آفة العلم النسيان” وأنّ الحكايات التي تؤثّـث ظلام الليل سيمحوها ضوء النهار.

كان ذلك -بمعنى ما- خطأ قاتلا وقعت فيه الثقافة الرسميّة العالِمة بمحض إرادتها.. وهو خطأ لا نملك اليوم إلا أن نبـتـهـج بحدوثه!

كانت “ألف ليلة وليلة” محظوظة حقّا عندما أُهمِلت وتُـركت على الهامش بعيدا عن أشكال الرعاية القاتلة، فبقاؤها في منطقة الظلّ أتاح لها أن تكتسب مناعة ذاتيّة، وأن تُحافظ على قدر كبير من الحريّة والعفويّة. فأبحرَتْ في عوالم السرد بأدوات فنيّة بسيطة استطاعت بواسطتها أن تبلغ أقاصي الخيال الذي قُـيِّـد في النهاية ضدّ مجهول!

وبقدر تعفّف الثقافة الرسميّة العالِمة عن تبنّي نصوص “ألف ليلة وليلة” وعن الاعتراف بها، لم تتردّد هذه الأخيرة في استدعاء شخصيات رسميّة وتاريخيّة لتأثيث حكاياتها بمن في ذلك شخصيّات بعض الخلفاء. وهذا ما أكسبها، كما يقول المستعرب فلوريال سانغوستان طابعا “علمانيّا” لن تتردّد الثقافة الرسميّة العالمة في التصدّي له بطريقتها الخاصّة. وقد مثّلت “حكاية الجارية تودّد”، وهذا ما يكشف عنه مخطوط تمبكتو بامتياز.

حكايات للاستذكار

تقوم “حكاية الجارية تودّد” على حبكة سرديّة في منتهى البساطة والوضوح، فخلاصة الخبر فيها أنّ تاجراً من أثرى تجّار بغداد لم يرزق بولد. وبعد صبر سنوات عجاف استجاب الله لدعائه فمنحه الابن الذي سيخلفه ويرث ثروته من بعده. ورغم حرص الأب على تربية ولده أفضل تربية، فإنّ هذا الأخير لم يلتزم بالوصايا التي نشأ عليها، فقد بدّد ثروة العائلة في ملذّاته وأهوائه ولم يَـبْـقَ له شيء منها سوى جارية اسمها “تودّد” كانت على قدر فائق من الجمال والعلم ورجاحة العقل. وفي محاولة منها لإنقاذ سيّدها من سوء المآل اقترحت عليه أن يبيعها للخليفة هارون الرشيد مقابل مائة ألف دينار.

بمعايير السرد، كانت كلّ عقدة يظنّ القارئ أنّها تـتّـجه نحو الحلّ عبارة عن رَحِـمٍ تتشكّل فيها عقدة جديدة ضمن مسار تصاعديّ اتّخذ في الأخير طابع التحدّي والرهان. فقد كان على الجارية “تودّد” أن تُـثـبـت للخليفة أنّها تستحقّ فعلا الثمن الذي اشترطه سيّدها. وكان على الخليفة أن يتأكّد من صدق ادّعاءاتها، فطلب من أشهر علماء العصر الحضور في مجالس متتالية من أجل إخضاع الجارية لمناظرات قاسية شملت كلّ مجالات المعرفة العربيّة الإسلاميّة القديمة.. وكلّ ما شكّل تاريخيا وعلى امتداد قرون حصيلة علوم الدين والدنيا، بالإضافة طبعا إلى المعارف المتعلّقة بالموسيقى وكيفيات الضرب على العود وتعيين مواقع النغم والرقص، هذه التي يظنّ الكثيرون أنّ الجواري والإماء لا يُتْـقِـنَّ سواها.

ولعلّ أهمّ ما نبّه إليه المستعرب فلوريال سانغوستان في مقدّمة ترجمته لـ”حكاية الجارية تودّد” أنّ مخطوط تمبكتو قد ضاعف عشر مرّات الصيغة الأصليّة الأولى للحكاية كما وردت في طبعة القاهرة، التي يعتبرها جلّ الدارسين الطبعة القياسيّة المُعتمدة. وليست هذه المضاعفة في نظره بالعمليّة البسيطة أو البريئة التي تهدف، فقط، إلى تضخيم النص أو تفخيمه؛ بل إنّها عمل مقصود هدفه إفراغ الحكاية من روحها الشعبية العامية العفوية وسحبها إلى مجال الثقافة الرسميّة العالِـمة برهاناتها وصراعاتها الخفيّة والمُعلنة، إنّها بعبارة المترجم مسار “أسلمة” ضد مسار “العلمنة”.

وقد تجلّى مسار “الأسلمة” في نصّ الحكاية من خلال شواهد عديدة توقّف المستعرب فلوريال سانغوستان عند أبرزها. ونعني بذلك على وجه الخصوص إحضار الخليفة هارون الرشيد لزعيم المعتزلة إبراهيم بن سيّار النظّام (ت. 221 هـ) وتكليفه بمجادلة الجارية ومحاولة تبكيتها. ولكنّ النظّام -على جلالة قدره ورسوخ قدمه في مجال علمه- بدا عاجزا عديم الحيلة فاسد الرأي، ممّا اضطرّه إلى مغادرة مجلس المناظرة مقرّا بالهزيمة. وليست هذه الحادثة -في دلالاتها العميقة- إلاّ تغليبا لنهج الاتباع على خط الابتداع وشكلا من أشكال إذلال أحد أبرز أعلام الاعتزال. ومع ذلك، فإنّ الثقافة الرسميّة العالِمة لم تحقّق كلّ أهدافها فقد وقعت من حيث لا تدري في “المحظور” عندما اعترفت -رغماً عنها- بأنّ المرأة (حتى لو كانت في مرتبة العبوديّة، فعليّا أو رمزيّا) تظلّ مصدرا للمعرفة، بل إنّ معرفتها بالذات هي طريقها الوحيد إلى الحريّة تماما مثلما هو الشأن مع الجارية تودّد؛ ومع شهرزاد أميرة الحكايات.

عرض: الصحبي العلاني نقلا عن العربي الجديد

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى