المجلةبنك المعلومات

حب في سردينيا… التباس الواقع بالخيال

لا يمكن لأحد أن يقرأ “حب في سردينيا” للإيطالية ميلينا آغوس، ترجمة نبيل المهايني، ولا يتوقف مندهشًا، فالرواية رغم قصرها لا تخلو من نَفَس ملحميّ، فهي تعبر ثلاثة أجيال لنساء إيطاليات، ابتداءً من جيل الحرب العالمية الثانية، بشخصيات مشبعة فنيًا وسردٍ رشيق، وبناء محكم رغم الحيرة والالتباس اللذين بنت عليهما آغوس حيلها معظم الوقت.

تروي فتاة قصّة جدّتها التي قيل إنها مصابة بما يسمى في بلدة كالياري، قلب جزيرة سردينيا الإيطالية، “بجنون الحُبّ”، إذ كانت الجدّة تطارد في شبابها خيال الحبّ متمثلًا في خطّابها، الحقيقيين أو المتوَهَّمين، والذين ظلوا يتناقصون إلى أن توقّفوا تمامًا، بعد أن هربوا واحدًا تلو الآخر إثر ما قيل بأنها أشعار حبٍّ ملتهبة تحمل تلميحات جريئة كانت ترسلها لخطّابها، ما كان يخيفهم ويدفعهم للهرب، ويدفع أمها التي كانت تغضب لحال ابنتها إلى ضربها وتعنيفها، ويُدخِل الجدّة – العانس كما وصفتها الراوية وقتذاك- في نوبات غضب هستيريّة تجعلها تصرخ وتتمرّغ في الأرض وتلحق الأذى بنفسها، حتى عُرف بيت عائلتها بـ”بيت المجنونة”.

ورغم أن الحكاية تدور أثناء سريان الحرب العالمية الثانية وانشغال جموع “العاقلين” بمجرياتها، إلا أن الجدة الموسومة بالجنون في شبابها، كانت غير فاهمة لمجرياتها، وغير مكترثة بالفهم، إذ كانت تنذر نفسها للعثور على الحب، متأرجحة بين رسائل الغرام الملتهبة للحبيب المحتمل، والإحباط والغضب إثر اختفائه.

يحدث في هذه الأثناء أن يحتمي بمنزل العائلة في كالياري رجل أربعيني فقد منزله وعائلته في الحرب، ما يلبث أن يطلب الزواج من “عانس” البيت الموسومة بالجنون من والدها، فتوافق العائلة على طلبه من فورها، معتبرين أن زواج هذا الرجل من ابنتهم ما هو إلا تضحية وردّ جميل يقدّمه للعائلة التي استضافته، في حين تروي بعض النسوة لاحقًا أن الرجل أحبها من أول نظرة، إذ كانت رغم غرابة أطوارها فاتنة الجمال، ويبقى سؤال كهذا مفتوحًا على احتمالاته حتى آخر الحكاية.

بعد فترة طويلة من العلاقة الأخوية، يصل جدّ الراوية وجدّتها إلى صيغة ما في الفراش، تقضي بتحقيق المتعة الجسدية لكليهما، ولكن من دون حب، إذا ما كانا يفرغان من فعل الرغبة بالجسد، حتى يبتعد كل منهما عن الآخر لينام كل منهما في طرف من طرفي السرير، أبعد ما يكونان عن بعضهما.

تروي الحفيدة التي عانت جدّتها إجهاض الأجنة، بسبب إصابتها بحصى في الكلى، قصة سفرها إلى “الحمامات” لغرض العلاج. هناك، تلتقي الجدّة رجلًا شديد الوسامة رغم الساق الخشبية والعكّاز، تصير الراوية/ الحفيدة تسميه “الغريب”. تقع الجدّة من فورها في حبّ الغريب الذي فقد ساقه في الحرب، تكشف له سر دفترها الأحمر الذي تدون فيه أفكارها، وتقرأ عليه القصائد التي نُعِتتْ من أجلها بالجنون، والتي كانت تجعل الخطّاب يفرون. يعزف لها الغريب البيانو ويقرأ معها الصحف. تمضي برفقته أيام حب دافئة، تماما كالتي كانت تبحث عنها.

بعد وفاة الجدة، تعثر الحفيدة أثناء ترميمها منزل جدتها المتوفية بغرض الزواج فيه، على دفتر الجدّة الأحمر ذي القصائد والتدوينات مصحوبًا برسالة بخط يد الغريب مرسلة إلى جدّتها، كتب فيها: “السيّدة العزيزة لقد أطرتني وأحرجتني بعض الشيء تصوراتك عنّي وما كتبته لي. سألتني أن أقيّم روايتك من وجهة نظر أدبية وطلبتِ العفو عن مشاهد الحبّ التي اخترعتها”.

“بالنسبة لي ليس عليك أن تقلقي من شيء، كما أن الحبّ الذي اخترعته بيننا أثار مشاعري، كما أنني، واعذريني على وقاحتي، شعرتُ بالنّدم لأن مثل هذا الحبّ لم يحدث بيننا بالفعل”.

“لكن لنعد إلى روايتك. لا تكفّي عن التخيّل. لستِ مجنونة. لا تصدّقي أبدًا من يقول لك أشياء ظالمة شرّيرة. اكتبي”.

هكذا تنتهي الرواية، وهكذا يظهر أن الأمر الوحيد الذي تمحورت حوله المعاناة لم يكن حقيقيًّا على الأرجح، غير أن مفهوم الحقيقي نفسه يصبح ملتبسًا، فإذا كان “غير الحقيقي” هذا قادر على غمر الإنسان بالسعادة أو الشقاء فإنه وأيا كان لا يعود غير حقيقي، وإن كان حبّا لم تثبته الممارسة الجنسية الساخنة وحسن المعاملة الزوجية، فإنه لن يحدث أبدًا، ما الواقع وما الخيال إذًا؟

هذه الأسئلة وهذا الالتباس، صنعته الكاتبة الإيطالية ميلينا آغوس بذكاء شديد إذ اختارت الحفيدة المقرّبة من جدّتها راوية، وقد سمح ذلك بعرض الأشياء من أكثر من زاوية، كانت تسهم أحيانًا في مزيد من الإيضاح، وأحيانا أخرى في تحقيق الحيرة لدى القارئ وفتح مزيد من الأسئلة، كما سهّل هذا انسحاب تصوّرات الجدّة من المشهد بوفاتها، إذ لم تنته الحكاية بموت بطلتها، لكن حقها في تفسير الأشياء حسبما تراها انتهى وجاء دور الآخرين ليرووا عنها ويفسروا حياتها وتصرفاتها حسبما يرونها هم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى