تمثل “القروض متناهية الصغر” Micro Credit إحدى الوسائل الاقتصادية لمساعدة الفقراء غير القادرين على الحصول على دعم مالي من الجهات المتخصصة كالبنوك (بسبب عدم وجود ضمان)، وذلك للقيام بمشروعات تدر عليهم دخلا يساعد على تحسين أوضاعهم المالية.
ويقوم نظام هذه القروض على منح الفقير قرضا ماليا (دون ضمان مادي)، ولكن بالطريقة التجارية المعهودة، أي أن الفقير عليه أن يرد القرض على أقساط، إضافة إلى رسوم خدمة الدين التي قد تصل إلى 15% وهي تقوم مقام الفائدة، لكن بعض المنظمات العربية والإسلامية تسترد فقط القرض دون رسوم خدمة، وإنما تأخذ مجرد مصاريف إدارية للقرض في حدود لا تتجاوز 2%.
وتستهدف معظم برامج القروض تحسين مستوى الدخل للفقراء، وتخفيف معاناتهم الاجتماعية والصحية والتعليمية، حيث يعتبر نقص رأس المال سببا رئيسيا لعدم القدرة على الإنتاج والحصول على عمل حر يدر دخلا، ومن ثم الدخول في حلقة مفرغة من الفقر.
وفي معظم الدول التي يطبق فيها هذا النظام تستفيد المرأة بصورة خاصة من هذه القروض، ويرجع هذا جزئيا إلى افتراض بعض المنظمات الغربية بأن المرأة قادرة على الاقتراض والوفاء بالدين أكثر من الرجل.
ونظرا لانتشار برامج القروض متناهية الصغر في عدد من دول العالم النامي والمتقدم كحل لمكافحة الفقر، فسيحاول هذا الملف مناقشة سلبيات وإيجابيات هذه البرامج، كما يعرض لنماذج تطبيقية، إلا أنه قبل ذلك سيتم التعريف سريعا بنشأة نظام القروض متناهية الصغر وآليات عملها؟
بدأت فكرة القروض متناهية الصغر مع الدكتور محمد يونس الذي يدرس علم الاقتصاد بجامعة شيتاجونج في بنجلاديش، وقد شعر أن ما يدرسه لا يحل مشاكل الفقراء ولا يعود عليهم بالفائدة، فقرر أن يساعد بنفسه على حل هذه المشاكل، حيث أعطى قرضا لامرأة فقيرة قدره 6 دولارات حتى تستطيع أن تشتري المواد الخام لصنع السلال ثم تبيعها، وفوجئ أن هذه المرأة استغلت القرض وقامت بصناعة وبيع السلال واستطاعت أن ترد المبلغ كاملا؛ وهو ما أوحى له بإمكانية تطبيق البرنامج على مستوى أوسع فقام بتأسيس Grameen Bank (بنك القرية أو بنك الفقراء) عام 1976.
خلال أول عامين للبنك كان القائمون على العمل عددا محدودا من المتطوعين، كما أن المستفيدين لم يتعدوا المائة، وبحلول عام 1987 كان “جرامين بنك” قد افتتح 300 فرع في قرى بنجلاديش وساعد أكثر من 250 ألف مقترض من الفقراء.
ووصل حجم القروض في بنك جرامين إلى ما يقرب من ملياري دولار (حسب تقرير جرامين بنك – ديسمبر 1998) يتم إقراضها لحوالي 2.5 مليون من الفقراء، 96% منهم من النساء، وعدد الفروع داخل بنجلاديش 1137 فرعا تغطي 39045 قرية، كما تقل نسبة عدم السداد عن 2% من إجمالي عدد القروض.
وقد حقق هذا البرنامج انتشارا غير مسبوق، حيث يراه الكثيرون على أنه الحل الأمثل لعلاج مشكلة الفقر، وتم تصديره لمعظم دول العالم الفقيرة؛ فمن الممكن أن تراه في دول جنوب شرق آسيا وفي العديد من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.
ويمكن القول إن الدكتور يونس لم يأت بفكر جديد بقدر ما أتى بأسلوب جديد لفكر قديم؛ ففكرة تنظيم الفقراء في صورة تعاونيات أو مجموعات تقوم بالادخار والسيطرة أكثر على مواردها المالية، ومن ثم منحها قروضا للقيام بمشروعات صغيرة لإدرار الدخل هي فكرة قديمة تم تنفيذها في فترة الستينيات من خلال مشروع كوميللا، وكذلك مشروعات التنمية القروية المتكاملة في بنجلاديش، غير أن المجال لا يسمح بالدخول في تفصيلات هذه المشاريع.
بعد أن قدم بنك جرامين نموذجه في بنجلاديش، قامت منظمات غير حكومية، وكذلك حكومات في دول فقيرة وغنية بتبني هذه النموذج بصورة واسعة، فعلى سبيل المثال بلغ عدد المؤسسات العاملة في هذا المجال داخل بنجلاديش وحدها المئات (بلغ عدد المؤسسات المسجلة في رابطة المؤسسات العاملة في مجال القروض الصغيرة 495 حسب تقرير 1998، وكثير من المنظمات غير الحكومية العاملة في هذه المجال غير مسجلة في هذه الرابطة).
وفي معظم الأحوال فإن برنامج القروض الصغيرة يتم تنفيذه كالتالي:
– تستهدف خدمات الإقراض عادة الفقراء شديدي الفقر أو من هم تحت خط الفقر (والذي يختلف تحديده من دولة إلى أخرى).
– يتم تنظيم الفقراء في مجموعات تتراوح ما بين 10 إلى 20 عضوا، وتعرف المجموعة باسم “جمعية أو منظمة القرية”، وتعطي اسما حسب ما يتفق عليه الأعضاء.
– يتم تكوين هذه المجموعات بمعرفة وإشراف المنظمة غير الحكومية العاملة في هذا المجال في المنطقة، والتي عادة ما تحاول الاحتفاظ بالمشاركين كمستفيدين من مشروعها فقط مع التنبيه عليهم بعدم الاشتراك في أي مجموعات تتبع منظمات أخرى لعدم تداخل الأنشطة. ويرجع الهدف الرئيسي من وراء تنظيم الفقراء في مجموعات إلى استغلال الضغط الاجتماعي الذي تشكله المجموعة على بعضها البعض كبديل عن الضمان المادي، حيث إن كل الأعضاء بحاجة إلى الاقتراض، ولا بد أن يتكاتفوا جميعا للحصول على الفائدة بالضغط على العضو المتعثر وضمان سداد قرضه من مدخراتهم في حالة عدم السداد.
– والشروط الواجب توافرها في الشخص ليصبح عضوا بأحد المجموعات هي:
– لا بد أن يكون عضوا بالمنظمة غير الحكومية المنفذة للبرنامج.
– يجب ألا يكون عضوا بأي من المنظمات الأخرى العاملة في نفس المجال.
– السن ما بين 18 إلى 54 عاما.
– أن يحضر بانتظام اللقاءات الأسبوعية للمجموعة.
– أن يودع مدخرات أسبوعية لدى المنظمة المنفذة للبرنامج.
– وتتم عملية الإقراض بدون الحاجة إلى أي ضمان مادي.
– لكي يحصل المقترض على القرض الأول لا بد أن يودع مدخرات لدى المنظمة لا تقل عن 2% من حجم القرض المقترح، وللحصول على القرض الثاني لا بد أن تصل مدخراته إلى 5% و10% للقرض الثالث و15% للقرض الرابع. ويزيد حجم الحد الأدنى للادخار بنسبة 5% لكل قرض بعد القرض الرابع حتى يصل إلى حد أقصى 50% من قيمة القرض المطلوب.
– تتراوح قيمة القرض ما بين ثلاثين دولارا إلى أقل من مائة دولار في معظم الأحوال، وفي بعض البرامج المتقدمة قد يسمح باعتماد مبالغ أكثر.
– عادة ما يتم تسديد القرض على شكل دفعات أسبوعية وبرسوم خدمة قدرها 15% (ويرى بعض العاملين أن هذا الرسم يشكل فائدة غير معلنة).
– يصاحب برنامج القروض عادة برنامج تدريبي يستهدف تقوية قدرات الأفراد على أن يعملوا في فريق ويتمكنوا من إدارة مجموعتهم بهدف بحث مشكلاتهم وكيفية حلها وكيفية استغلال القروض أمثل استغلال، كما يتم تدريبهم على كيفية حساب المدخرات والأرباح وحفظ سجل المدخرات.
– تقوم المنظمات غير الحكومية بتنظيم برامج تدريبية الهدف، منها تدريب المستفيدين على الحرف اليدوية وبرامج تنمية الدخل (مثل تربية الأغنام والمواشي وزراعة الأسماك، وزراعة الخضراوات بالمنزل وإنتاج الألبان… إلخ) حتى تهيئ الأرضية للمقترضين للاستفادة من القروض المقترضة في مشروعات تدر دخلا عليهم وتزويدهم بالدعم اللوجستي اللازم.
– لا يمنح القرض إلا بعد أن يقدم الشخص طلبا يوضح فيه المشروع الذي يريد تنفيذه مقابل المبلغ المطلوب اقتراضه، ويقوم ممثل المنظمة من خلال المجموعة ببحث جدوى المشروع وإمكانية أن يحقق ربحا لصاحبة، ثم يقوم بتوجيهه قبل إقرار القرض.
ولكن في كثير من الأحوال وحسب مشاهداتي فإن المنظمات العاملة في هذا الحقل تكتفي بتحقق الشروط المطلوبة للقرض من حيث العضوية وحجم المدخرات، ثم تقوم بإعطاء القرض تلقائيا في صورة نقدية مستكفية بقدرة المقترض على السداد. وفي بعض الأحيان يستغل المبلغ المقترض في قضاء حاجة عاجلة دون عمل أي مشاريع مما يكون عبئا على المقترض عند السداد.
رغم الإيجابيات التي تذكر لبرامج القروض متناهية الصغر، حيث نجحت في إخراج البعض من دائرة الفقر وإيقاف تدهور حالات الفقر لدى البعض الآخر، فإن عليها مجموعة من السلبيات.
وتكمن أبرز إيجابيات هذه البرامج فيما يلي:
أ- التقليل من تأثير الأزمات التي يتعرض لها الفقراء:
يساعد برنامج القروض الفقراء على تأمين أنفسهم ضد الأزمات المالية عن طريق امتلاك الأصول، مثل الأثاث المنزلي الذي يمكن التصرف فيه حال حدوث الأزمة. (يحب أن نتخيل حالة الفقر في الدول النامية، خاصة آسيا وأفريقيا، حيث يكون امتلاك قطعة أثاث ميزة كبرى، ناهيك عن امتلاك المنزل الذي هو ثروة في حد ذاته). كما تتيح القروض متناهية الصغر أيضا تعدد مصادر الدخل للفقراء، وهو ما يمكنهم من تفادي حدوث أزمة حال تأثر أحد مصادر الدخل (مثل فقد المزروعات بسبب الفيضان).
والتقليل من أخطار التعرض للأزمات هو أمر حيوي، خصوصا للفقراء الذين يعيشون في القرى؛ حيث إن القليل الذي يمكن أن يكسبوه في الأيام الرغدة يمكن أن يدخر للأيام الصعبة، مثل أيام الأمطار الموسمية والفيضانات والأعاصير ومواسم الجفاف، وهي أخطار تكاد تكون ذات طابع مستمر ومتكرر، وذلك يساعد على كسر حدة ودائرة الفقر.
ب- زيادة الاستهلاك:
وهي تعتبر من التأثيرات الإيجابية للبرنامج، فقد وجد أحد الباحثين في بنجلاديش (Khandker,148) أن لكل مائة تاكا (العملة المستعملة في بنجلاديش) أقرضت لامرأة من المقترضات فقد بلغ إجمالي الإنفاق داخل المنزل قد ازداد 18 تاكا؛ وهو ما يعني أن الفقراء الذين يعيشون على حافة الفقر يستطيعون أن يُحسنوا من إنفاقهم. واستدامة هذه الزيادة في الإنفاق تمكن الأسرة من تبني خطط أطول لتحسين الدخل والحياة للأسرة.
ج- زيادة الدخل:
أدت برامج القروض الصغيرة إلى زيادة الدخل والتقليل من الفقر بسبب قلة الدخل، حيث يميل المقترضون إلى زيادة دخولهم بمرور الوقت. فعندما تنكسر الحلقة المفرغة للفقر ويبدأ الفقراء في تحقيق دخل ثابت يميل العديد منهم إلى الدخول في استثمارات تساعد على زيادة دخولهم.
وحسب تقديرات براك (إحدى كبرى المنظمات العاملة في بنجلاديش بل وفي العالم) فإن أعضاء برنامج براك للقروض الصغيرة يمكنهم أن يتوقعوا تراجع فقرهم بنسبة 15% بعد انقضاء ثلاث سنوات. كما تمكن 21 % من أعضاء برنامج بنك جرامين من إخراج أنفسهم من دائرة الفقر بعد مرور أربع سنوات على انضمامهم للبرنامج (حسب تقديرات بنك جرامين). ورغم تعدد واختلاف تطبيقات برامج القروض الصغيرة فإن النتائج المعلنة ليست غير اعتيادية، ونسبة 5% سنويا كتناقص في معدلات الفقر لأعضاء البرنامج تبدو هي النسبة القصوى للتطبيق المثالي للبرنامج.
د- التجمعات الإنتاجية الصغيرة:
وهي إحدى أهم المميزات التطبيقية لبرنامج القروض الصغيرة، حيث يتم تكوين تجمعات من صناعات حرفية واحدة قريبة من بعضها البعض بحيث يمكن للقرويين أن يتشاركوا في الخبرات والأيدي العاملة؛ وهو ما يمكنهم من إنتاج كميات من نفس المنتج وبأسعار منافسة تشجع التاجر على الشراء وتفتح سوقا للمنتج (غالبا ما تكون الصناعات من الحرف اليدوية التي لا تحتاج إلى تكنولوجيا عالية). ولكن تظل هذه التجمعات الإنتاجية الصغيرة ناجحة حين تكون قريبة من السوق أو الطريق العام ووسائل النقل.
أما سلبيات برنامج القروض فهي كالتالي:
أ- حساب فائدة (أرباح) على القرض:
تعتبر من المشكلات الرئيسية لبرامج القروض الصغيرة؛ حيث إن حساب فائدة أو ربح أو رسوم خدمة عالية تماثل الفائدة على القرض ينطوي على صعوبات متعددة للمشاركين في برنامج القروض، فيجب على المقترض ليس فقط أن يتحمل قسط الدين بل أيضا الفائدة المفروضة عليه، كما أن عليه أن يستثمر جزءا من وقته في أنشطة المجموعة كشرط أساسي للحصول على قرض. إضافة إلى ذلك فإن المرأة في كثير من الأحوال عليها أن تتحمل تسلط مشرف المجموعة (ممثل المنظمة) والذي ليس فردا من العائلة وتشارك في أنشطة المجموعة خارج المنزل.
وقد لا يعود استثمار الفقير للقرض بأي أرباح، وفي هذه الحالة فإن المال المطلوب لسداد القرض لا بد أن يأتي من مصادر أخرى للشخص المقترض، وفي غالب الأحوال يكون على حساب الاستهلاك داخل المنزل (التقليل من الإنفاق على المأكل والملبس والرعاية الصحية والتعليم)، أو من الاقتراض من الآخرين.
ب- استيلاء الرجل على القرض عن طريق المرأة:
وهي مشكلة شائعة حيث يستغل الرجل المرأة في الحصول على قرض مالي (قليل الفائدة نسبيا) قد يستخدم أو لا يستخدم في إفادة الأسرة، وفي كل الأحوال لا تستفيد منه المرأة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بينما تظل مسئولة عن سداد القرض.
كما أن فرص نجاح المشروعات التجارية التي تديرها المرأة تبدو ضئيلة رغم كل الترويج الجاري لها، فعلى سبيل المثال، ففي بتسوانا (إحدى الدول في جنوب القارة الأفريقية) تشغل المرأة 75% من إجمالي عدد المندمجين في المشروعات التجارية الصغيرة، غير أن هذه المشروعات لا تنمو لأسباب مختلفة منها: ضعف القدرة التعليمية للمرأة.
يضاف إلى ذلك أنه بنجاح مشروعات القروض فقد يتم منح عدد أكبر من القروض للمستفيدين الذين بدورهم يدخلون إلى السوق المحلية بغرض تحقيق الربح، ونتيجة لذلك فإن التأثير الإجمالي لزيادة العرض وانخفاض الطلب إضافة إلى المنافسة من خارج السوق المحلية يعني انخفاض الربح في هذا القطاع.
ج- عدم القدرة على الوصول إلى أفقر الفقراء:
إحدى سلبيات برامج القروض الصغيرة هو اهتمامها بقطاع معين من الفقراء وعدم قدرتها على الوصول إلى أفقر الفقراء في المجتمع؛ حيث إنهم يعانون ضآلة الدخل وضعف الصحة والتعليم والذي يضعف قدراتهم على استثمار القرض في مشروعات تدر عائدا معقولا.
وذكرت دراسة أعدت حول “تأثير القروض الصغيرة على الفقر في بنجلاديش” أن الفقراء متوسطي الفقر هم المستفيدون الحقيقيون من برامج القروض الصغيرة أكثر من الفقراء شديدي الفقر. كما أن أفقر الفقراء يحتاج إلى تدريب أكثر ليتمكن من الاستفادة من البرنامج، وهو ما يتطلب حجم إنفاق أكبر من قبل المنظمات غير الحكومية العاملة في برامج القروض الصغيرة؛ وهو ما يرفع تكلفة البرنامج، وحيث إن هذه المنظمات تعمل تحت ضغوط أن تعتمد على نفسها في تسيير برامجها من عائدها المادي فإن الحافز على مساعدة هؤلاء الفقراء غير موجود بالأساس.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور عمران متين مدير إدارة البحث بمؤسسة براك الذي قال للمشاركين في أحد ورش العمل: “إن برامج القروض الصغيرة لم تصمم ولم تستهدف في الأصل للفقراء شديدي الفقر”؛ وهو ما يعني أن قطاعا كبيرا من الفقراء الذين يحتاجون للمساعدة لن يحصلوا عليها وأن برامج القروض الصغيرة غير قادرة على الوصول إليهم بل ولا تستهدفهم في الأساس نظرا لشدة فقرهم.
د- تعميق الاعتماد على الاقتراض:
وهي إحدى السلبيات لبرامج القروض الصغيرة؛ فنسبة الفوائد العالية لسداد الدين وتعدد القروض لنفس المستفيد وقلة عدد من يغادر البرنامج من المستفيدين.. إنما يعكس اعتماد المستفيدين كليا على القروض خلافا لما هو مطلوب، وهو تحقيق الاعتماد على النفس والقدرة على زيادة الدخل بحيث لا يحتاج الفقير إلى الاقتراض مجددا.
وأذكر هنا خبرة شخصية لكاتب المقال، حيث كنت في زيارة لإحدى القرى التي يعتبر معظم سكانها من مستفيدي برنامج منظمة “بروشيكا” للقروض الصغيرة (وهي منظمة كبيرة في بنجلاديش متخصصة فقط في هذا المجال)، ودار الحديث التالي بيني وبين أحد القرويات المستفيدات من البرنامج:
سألتها: كم من الوقت وأنت عضوة في مجموعة بروشيكا للقروض الصغيرة؟ وكنت أتوقع أن تقول شهورا أو عاما أو عامين أو ثلاثة على الأكثر، ولكن لدهشتي فإنها قالت: أنا عضوة في البرنامج منذ خمسة عشر عاما.
سألتها مرة أخرى وخلال كل هذه الأعوام كم مرة اقترضت من البرنامج؟ قالت: لا أستطيع أن أعد فما إن ينتهي قرض حتى أبدأ الآخر، سألتها مرة ثالثة: ورغم كل هذه القروض لم تستطيعي أن تقومي بأي مشروع يدر عليك دخلا ولا تحتاجي إلى الاقتراض؟ قالت: هذا غير ممكن قمنا بمشروعات كثيرة، ولكن دون فائدة، وسنظل نقترض إلى ما لا نهاية.
هـ- الشفافية في المنظمات غير الحكومية:
من مشاهداتي في مجال برامج القروض متناهية الصغر فإن بعض المنظمات غير الحكومية وجدت في هذا البرنامج فرصة رائعة لكسب العيش والتربح بصورة سريعة وبمجهود قليل، إضافة إلى انهمار المساعدات الخارجية على المنظمات العاملة في هذا المجال، حيث تحصل المنظمات على رأس المال المستخدم في الإقراض كمنحة لا ترد من المؤسسات الدولية، في حين أنها تطالب الفقير بدفع الفوائد أو رسوم خدمة الدين.
ونقل لي أحد كبار العاملين في مؤسسة بروشيكا قصة مهمة في هذا المجال، حيث قال لي إنه سأل امرأة عجوزا من قدامى أعضاء البرنامج عن التغيير الذي طرأ على القرية خلال العشرين سنة الماضية بسبب برنامج بروشيكا للقروض الصغيرة، وأجابت المرأة بكل حكمة: “نعم هناك تغييران، الأول هو أنك كنت تأتينا في الماضي مرتديا صندلا قديما، أما الآن فإنك ترتدي حذاء فاخرا، والثاني هو أن مدير مؤسستكم فاروق أحمد كان يأتينا في الماضي سيرا على الأقدام يسأل عن أحوالنا، أما الآن فلا نكاد نرى سيارته الفاخرة وهي تمرق من الطريق العام”. بالمناسبة يمتلك فاروق أحمد مؤسس منظمة بروشيكا واحدة من أفخم السيارات في بنجلاديش، وقد قامت الحكومة مؤخرا بتجميد أرصدة المنظمة وتحري ممتلكاتها؛ نظرا لوجود ادعاءات بمخالفات مالية كبيرة.
قصارى القول أن برامج القروض الصغيرة ليست عصا سحرية تكافح الفقر كما يتصور البعض، بل إن قدرتها تنحصر على وقف تدهور حالة الفقر في معظم الأحوال، والدليل على ذلك أنه بالرغم من العمل الدءوب في بعض الدول خلال عشرين سنة متواصلة لتطبيق برامح القروض الصغيرة، فعلى سيبل المثال في بنجلاديش، تغطي برامج القروض الصغيرة 20% فقط من تعداد السكان (130 مليون نسمة)، وعليه فإن 1% فقط من السكان يمكن أن يتم انتشالهم من الفقر كل عام، فإذا علمنا أن تعداد السكان يزيد بنسبة 1,8% سنويا (أغلبها يرجع إلى الطبقة الفقيرة) يتضح أن الفقر ما زال كما هو لم تتغير نسبته إن لم تكن تتزايد.
غير أن هذه السلبيات تدفع إلى ضرورة إيجاد معالجات واقعية تختلف من دولة إلى أخرى خاصة بالنسبة للمنظمات العربية والإسلامية حتى تستطيع الوصول للهدف المنشود وهو مكافحة الفقر.
د. أحمد طوسون
مدير مكتب بنجلاديش التابع للجنة الإغاثة الإسلامية
نقلا عن إسلام أون لاين