فتح اهتمامه بعالم المذنبات, اهتماماً آخر بطبيعة الأجسام الصغيرة كالكويكبات وسواها، قادته الخبرة المتنوعة في أكثر من مجال داخل علوم الكواكب إلى اهتمام بطبيعة المجموعة الشمسية ككل.. له اهتمامات كبيرة بتقديم العلوم لكافة الجماهير عبر صفحته الشخصية على فيس بوك, يتنقل بين المحافظات المصرية ليقدم محاضراته لفئات عمرية مختلفة، وفي أثناء جائحة كوفيد-19 خصص بعض الوقت لتقديم المحاضرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، اهتم بتقديم جزء من منهج العلوم لطلاب المرحلة الإعدادية في مصر خلال الجائحة، في إبان غلق المدارس.
هو العالم المصري الشاب “محمد رامي المعرّي” الذي يعمل في الوقت الحالي مديرًا لمركز علوم الفضاء والكواكب وأستاذًا مشاركًا في قسم علوم الأرض بجامعة خليفة في أبو ظبي، بالإمارات العربية المتحدة، لكن بداية تخصصه في مجال الفضاء والفلك جاءت قبل قرابة 20 عامًا حينما تخرج في كلية العلوم بجامعة القاهرة في تخصص مزدوج للكيمياء والجيولوجيا، قبل أن يسافر إلى ألمانيا في 2005، ليبدأ أول فصل دراسي في رسالة الماجستير التابعة لبرنامج “إيرازموس”، وفيه يتنقل الطلاب بين عدة دول أوروبية، ثم قضى فصلًا آخر في السويد، ثم فصلين في جامعة تولوز في فرنسا، وبعد حصوله على الماجستير قُبِل كباحث دكتوراة في معهد ماكس-بلانك لعلوم النظام الشمسي في ألمانيا عام 2008.
أنجز “محمد رامي المعري” رسالته للدكتوراة عام 2011، وبعد ذلك انتقل للعمل بقسم الفيزياء في جامعة برن بسويسرا مع أحد أكبر علماء الفضاء، نيكولاس توماس (5 سنوات حتى 2016)، قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في منحة مقدمة من المؤسسة السويسرية القومية للعلوم كباحث زائر في مركز فيزياء الطقس والفضاء بجامعة كولورادو، وفي عام 2018 انتقل للعمل في كلية بيركبيك الجامعية في بريطانيا، وهناك اتيحت له فرصة للنشاط العلمي في دولة الإمارات فالتحق بجامعة أبو ظبي.
موقع “للعلم” المهتم بالعلوم والتقنية والصحة, التقى بالعالِم المصري عبر تطبيق “زوم”، وغاص معه في رحلته مع العلوم وشغفه بها وحرصه على تقديمها ونشرها، كما تناولنا كذلك اهتماماته البحثية، فإلى تفاصيل هذا اللقاء:
هل كان العالم المصري يعرف أهدافه منذ طفولته؟ أو بمعنى آخر هل كان واقعًا في حب علوم الكواكب من سن صغيرة؟ أم أن تلك الأهداف تشكلت في وقت لاحق؟. يجيب العالم المصري: “في الطفولة لا نفكر في المستقبل بدقة، ننشغل فقط بشغفنا وعادةً ما يكون أكثر عموميةً من أهدافنا المستقبلية”.
عندما كان طفلًا أحب العلوم بشكل عام، أحب قراءة القصص والكتب العلمية ومشاهدة الأفلام العلمية أيضًا، والده يعمل طبيبًا بشريًّا، وطالما شجعه على هذا الشغف، يتذكر أنه كان دائمًا ما يجلب له أعداد مجلة “المعرفة” وكانت صاحبة أثر كبير عليّه، إذ أسهمت في زيادة حبه للجيولوجيا (الأحجار والصخور والديناصورات.. الخ)، وبجانب ذلك أحب علوم الفضاء.
احتاج “المعري” إلى الكثير من الوقت حتى يحدد أهدافه بشكل أدق، كان ذلك في المرحلة الثانوية، تعلم في تلك الفترة أن هناك نوعًا من العلوم التي تمزج أكثر من نطاق، فمثلًا هناك جيولوجيا الكواكب، التي تدرس علوم الفضاء والجيولوجيا معًا، قرر أن ذلك هو هدفه، “سأدخل كلية العلوم- قسم الجيولوجيا ومنها إلى علوم الفضاء”، حصل على مجموع 98% في الثانوية العامة، وهو مجموع كان كفيلًا بأن يُدخله كلية الطب أو الهندسة، لكنه اختار كلية العلوم.
نطاقات العمل
أثرت خلفيته في الجيولوجيا على اهتماماته الأولى، فبدأ بكوكب المريخ، كيف كان شكله قبل مليارات السنوات؟ حينما نرصد سطح المريخ نجد أثرًا لبحيرات وأنهار قديمة، بل يحتمل أنه كان هناك محيط يغطي الجانب الشمالي للكوكب، يبدو إذًا أن شيئًا ما حدث على هذا الكوكب تحوّل بسببه إلى ما هو عليه الآن، بل يُعتقد أن المريخ احتوى يومًا ما ظروفًا مناسبة لنشأة الحياة ونموها، لكن مع دراسة المريخ تشوقت لدراسة جوانب أكثر تنوعًا للمجموعة الشمسية، والتي تُعد معمل أبحاث ضخمًا ينبئنا بطبيعة أرضنا التي نسكن عليها، في أبحاث ما بعد الدكتوراة اهتم “المعري” بعلوم المذنبات، كان رئيس المجموعة العلمية التي يعمل بها في جامعة برن مساهمًا أساسيًّا في المهمة “روزيتا” Rosetta، التي تعني بالعربية “رشيد” وتهدف إلى استكشاف المذنب 67/ب تشوري شوريموف-غيرازيمنكو.
يقول المعري “كانت غالبية الفريق المساهم في دراسة هذا المذنب من علماء الفلك والفيزياء؛ لأن كل البيانات التي كنا نحصل عليها عن المذنبات في تلك الفترة من أرصاد تلسكوبية، أما المهمة رشيد فكانت أول مركبة تقترب من المذنب، وهنا ظهرت الحاجة إلى متخصصين في الجيولوجيا يدرسون التقلبات في نشاط سطح المذنب وجسمه مع اقترابه من الشمس، وكانت تلك هي النقطة التي دخلت منها إلى عالم المذنبات في أواخر 2014 وبداية 2015، لأصبح واحدًا من الخبراء القلائل في جيولوجيا المذنبات في العالم”.
فتح اهتمامه بالمذنبات اهتمامًا آخر بطبيعة الأجسام الصغيرة في المجموعة الشمسية مثل الكويكبات وغيرها، وبشكل عام قادته الخبرة المتنوعة في أكثر من نطاق داخل علوم الكواكب إلى اهتمام بطبيعة المجموعة الشمسية ككل، حوّله ذلك من نطاق الباحث إلى نطاق المُستكشف؛ إذ بدأ في البحث خلف الأجرام داخل المجموعة الشمسية، والتي تُدرس لأول مرة، وتصحح نتائج دراستها فهمنا لطبيعة المجموعة الشمسية، قاده ذلك للعمل مع عدة مهمات أمريكية وأوروبية، عمل في نطاقات قراءة البيانات القادمة من مهمات الفضاء وكيفية بناء تلك المهمات من الأساس.
استكشاف الفضاء
يقول المعري “أدرك الجميع أن وجود برنامج فضائي ليس مجرد رفاهية، بطبيعة الحال هو مهم سياسيًّا؛ إذ يمثل تحقيق الإنجازات في علوم الفضاء قوةً سياسيةً ناعمةً للدول الكبرى، لكن الأمر يتخطى ذلك، بكل بساطة لأن كل تطور تكنولوجي يحدث حاليًّا وذي أهمية كبيرة تقريبًا يتعلق بمنجزات علوم الفضاء، من المعاملات البنكية والاتصالات وصناعة الترفيه التلفزيوني والإنترنت وحتى دراسة بيئة الدولة لأجل أغراض التوزيع السكاني والزراعة ودراسة حركة مياه الأنهار وعلوم الأرصاد.. إلخ، كل شيء يتعلق بعلوم الفضاء، ويتطور الأمر ليشمل نطاقات أوسع مثل سياحة الفضاء وتعدين الفضاء، فلعلوم الفضاء مردود اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي يستحق من كل دولة أن تبذل الكثير في سبيله”.
تبسيط العلوم
يهتم الباحث المصري بقضية بتبسيط العلوم وتقديمها للقارئ للمشاهد العربي.. فضلاً عنتقديمه للكثير من المحاضرات للعامة من فئات عمرية متنوعة. يقول المعري “من أكثر الأشياء التي أحبها أن أطلع على صور أو بيانات جديدة عن إحدى المهمات العلمية التي لم تُعلن بعد على الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حينما أقدم تلك الصور في إحدى محاضراتي للطلبة كنت أجد اهتمامًا واسعًا بها، لكونها أخبارًا طازجة عن اكتشاف علمي حديث جدًّا، وبشكل عام وجدت أن الجمهور غير المتخصص يشبه الجمهور المتخصص في تلك النقطة، ينبهرون مثلهم بالضبط، وبشكل خاص الأطفال”.
يضيف “أعتقد أنني كعالِم مسؤول عن تنمية الشغف بالعلوم في سياق تقديمها للناس، أجد في علوم الكواكب فرصةً مناسبةً لذلك، خاصة وأنها قريبة من فهم فئات واسعة من الجمهور، لأنها قائمة على أسس يسهل تبسيطها، وبشكل خاص أهتم بتقديم علوم الكواكب لفئات الأطفال والمراهقين”.
ويؤكد المعرى أنه من الضرورة بمكان “أن نقوم بتسهيل العلم إلى مستوى أعلى من التسفيه وأقل من التخصص، هذا التوازن الذي يحفظ المضمون العلمي هو ما يحمي القارئ من الفهم الخطأ للعلم.
بشكل عام هناك ثلاث نقط أساسية يجب علينا العمل عليها لتوصيل العلم للجمهور، الأولى توصيل الفكرة الجوهرية أو المفهوم العلمي مع توضيح أن الفهم الأعمق يتطلب جهد سنوات، والثانية نقل الشغف بالاستكشاف بجانب نقل المعرفة العلمية ذاتها، والثالثة تصحيح المفاهيم الخطأ، فانتشار المعلومات المغلوطة يؤدي في بعض الأحيان إلى مشكلات كبيرة، خاصة وأن الأخبار الكاذبة، في سياق الحياة الرقمية وانتشار منصات التواصل، تمثل تحديًا ضخمًا للجميع”.
مبادرات ملفته
وحول وضع تقديم العلوم للعامة في وطننا العربي؟ يقول المعري “أعتقد أن هناك تحسنًا ملحوظًا في نطاق تقديم العلوم للعامة في مصر للوطن العربي، خاصةً مع انخراط بعض العلماء في هذا النطاق مثل الدكتور إسلام حسين (علوم الفيروسات) والدكتور نضال قسوم (علوم الفلك والفيزياء)، كذلك ظهرت مبادرات لاقت اهتمامًا واسعًا جدًّا من فئات أوسع مثل “الدحيح”، ونشاطات على الأرض مثل ما تقدمه النوادي الفلكية في مصر، من جانب آخر تطورت الصحافة العلمية العربية كثيرًا خلال عقد مضى، وظهرت منصات متخصصة في نقل العلوم للجمهور مثل موقع “للعلم” وغيره، أدى ذلك إلى ظهور صحفيين علميين متخصصين، وعلى أيديهم تطور العمل الصحفي العلمي وقد كان في وقت سابق مشكلة كبيرة، لكن على الرغم من ذلك، لا تزال هناك الكثير من التحديات، فمقارنة بالوضع في الدول الكبرى لا يزال أمامنا طريق طويل جدًّا لتوصيل العلوم للعامة”.
المعري وطريق الإنجازات
تخرج المعري في كلية العلوم بتخصص مزدوج، كيمياء وجيولوجيا، كان تخصص علوم الكواكب غير متاح في مصر فى هذه الأثناء, فبدأ رحلة البحث عن السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكونها الأشهر في العالم في هذا النطاق، قام أولًا بالتعرف إلى متطلبات الالتحاق بالجامعات الأمريكية (مثل اختبارات التويفل والجي آر إي) وأرسل طلبات إلى الجامعات التي وضعها في قائمته الخاصة.
خلال ثلاث سنوات كان كل ما حصل عليه هو الرفض من جامعات مثل أريزونا وهاواي ونيوميكسيكو، جزء من أسباب هذا الرفض في اعتقاده كان متعلقًا بالمناخ غير المرحب بالعرب والمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 (قدم أوراقه في 2002)، إلى جانب ذلك فإن عرضه التقديمي لم يكن احترافيًّا كفاية؛ لأنه كان لا يزال مبتدئًا في هذا الأمر. على حد تصريحاته.
بعد مرور كل تلك الفترة سأل نفسه إن كان من المفترض أن يتوقف عن البحث أو يتوجه إلى نطاق آخر وهو قطاع البترول، لكنه فكر في محاولة أخرى إضافية لعام واحد إضافي، في تلك الفترة سمع عن “جوجل”، وأنه محرك بحث يمكن من خلاله أن تحصل على معلومات عما تريد، فبدأ بالبحث عن منحة للماجستير في علوم الكواكب بأوروبا، طالما أن جامعات الولايات المتحدة ترفضه، أولى النتائج التي ظهرت له كانت متعلقة بمنحة من برنامج “إيرازموس”، قُبل في هذا البرنامج وكانت تلك هي بدايته.
يقول المعري “يظن الطلاب أن هناك “روشتة” جاهزة للوصول إلى هدفك النهائي (والذي عادةً ما يكون متعلقًا بناسا)، لكن ذلك ليس صحيحًا، لكل شخص ظروفه وطبيعته التي تختلف عن أي شخص آخر والفرص التي تتاح له، وخلال سيرنا في هذه الطرق يجب أن نمتلك المرونة لتقبُّل المرور بطرق جانبية أطول قليلًا لنصل إلى هذا الهدف، بالنسبة لي مثلًا كنت أصر على السفر إلى أمريكا، وما إن غيرت طريقي قليلًا للبحث عن مجال بحثي في أوروبا حتى وجدت طريقًا أسهل”.
نصائح للشباب
وحول أهم النصائح التي يمكن ان يوجهها المعري للشباب يقول “عادةً ما يسألني الطلاب: “أنا لا أعرف ما المجال الذي يجب أن أختاره، بعض المجالات لها مستقبل أفضل من أخرى، ما هو الأفضل؟”، هنا تكون إجابتي أن الأهم هو ما تريده أنت، ما ترى أنك شغوف به من العلوم، من الصعب جدًّا أن تتفوق في نطاق لا تحبه وتتغلب على صعوباته، ولمواجهة تلك الصعوابة هناك عدة نقاط مهمة في ظني أنها يجب أن تكون من أدوات كل طالب”.
يستطرد “الأداة الأولى تتعلق بالتعجّل، يتخرج الشاب أو الشابة في الجامعة وهو متعجل للسفر والذهاب إلى أرقى الجامعات، لكنك في حاجة دائمًا إلى الكثير من الوقت كي تنضج معرفيًّا وشخصيًّا بشكلٍ كافٍ لتتناسب قدراتك مع أهدافك، لهذا السبب تحديدًا يتقلّب الكثيرون بين مجالات عدة في السنوات الأولى للبحث العلمي، لكن الأفضل هو أن نصبر قليلًا على مجال واحد ونعمل على تطوير أدواتنا”.