ملايين من الناس ينفقون العمر جامدي الذهن، مع العلم أن كل إنسان متوسط الطاقة، عادي الطموح، قادر على إعمال الفكر، ولكن المأساة في أن الذين يفكرون قلائل جداً، وأقلّ منهم الأولى يحملون أنفسهم عناء التفكير لأن أكثر الناس لم يروضوا أنفسهم على هذا العمل العقلي.
أنا شخصياً مقتنع بفائدة المران في هذا الحقل. فالمخيلة الخلاقة تحتاج إلى وسائل الإنماء والصيانة كي تواصل الخلق. وقد عملت ثلاثين عاماً في أدق الحرف الفكرية: النشر والإعلان، وعلمتني اختباراتي أن المخيلة ليست موهبة، إنها تُكتسب بتعويد العقل الانتاج. ولست أكتم القارئ أني مدين بنجاحي لمخيلتي النشيطة، فبفضل الأفكار الجديدة التي أطلع بها الفينة بعد الفينة (وقد أصبح التفكير عندي عادة يومية) فرضت نفسي على الناس رجلاً ذا موهبة فذّة.
يمكنك أن تحذو حذوي، ولكن حذار الإفراط في كد الذهن، لئلا يصاب عقلك بالعقم. فالأفكار الجديدة تأتي بسهولة ويُسر إن أنت تركت لعقلك الحبل على الغارب. دعه يلهو بأفكار عابرة ولو لم يكن لها، في الظاهر، علاقة واضحة بالمسألة التي تشغل بالك.
أطلق لمخيلتك العنان دون أن تدعها تبتعد بك عن الهدف، ويحسن بك أن تستجمع أفكارك لتوجهها جميعاً نحو هذا الهدف، لقد قال ويلسون رئيس الولايات المتحدة السابق إن أكثر البشر من الحالمين. وكان مخترع الكهرباء يقضي ساعات من وقته الثمين متأملاً انسياب المياه في الجداول. وأعلم أن السهوم ليس تنزيهاً للعقل ولا يشكل ترويحاً عن الذهن المكدود. فالسبيل إلى هذا وذاك هو أن تغمض عينيك وأن تسبر أغوار عقلك باحثاً عن ذكريات، لأن ذكريات ما عرفته بالأمس مضافة إلى انطباعات اليوم هي التي تولّد الأفكار الجديدة.
سئل المخترع الأشهر اديسون: (أتفكر وأنت جالس أم تؤثر وضعاً آخر هو الاضطجاع؟) فأجاب متضاحكاً: إن الأفكار تمرّ في رأسه من تلقائها، سواء كان جالساً أو واقفاً أو مضطجعاً. وروى اديسون أنه قضى ذات يوم بضع ساعات في تفكير متواصل بحثاً عن طريقة تضاعف سرعة الانتقال البرقي، فمرّت بخاطره فكرة عارضة ما لبثت أن بدلت اتجاه تفكيره، وكان الفونوغراف هو الاختراع الذي توصل إليه بعد أن تبدل الاتجاه.
ومما يساعد على التفكير أن يدوّن المرء ما يمرّ في رأسه على الورق، فالفكرة تولد الفكرة فإذا دونت فكرة على ورقة أمامك تتبعها ثانية فثالثة فرابعة إلى أن تمتلئ الصفحة. وكل هذا لا يصل بك إلى أغوار عقلك ولا يستنفد ما فيه من أفكار.
بيد أن هذا الأسلوب كثيراً ما يبتعد بمتبعه عما يحيط به، فلا يشعر إلا وهو يدور في حلقة مفرغة تفصلها عن عالم الواقع حواجز من الأحلام والتخيلات. وقد وجدتني أدور في هذه الحلقة أكثر من مرة، فكنت ألجم مخيلتي وأنفر إلى خارج منزلي لأجوب الشوارع متفرجاً على واجهات المخازن، مصغياً إلى ما يقال حولي، وكثيراً ما كانت الفكرة الصالحة التي بحثت عنها في عزلتي تمرّ في رأسي وأنا أبعد الناس عن التفكير .
إن الظفر بفكرة جديدة في عصرنا هذا لمن أندر الأمور. يبقى علينا والحالة هذه أن نجمع الأفكار القديمة ونتوسع في تفسيرها وتطبيقها. من ذلك ما فعله منتج شفرة الحلاقة ماركة (شيك)؛ فقد كان الرجل عاملاً في مصنع للسلاح قبل أن يصبح من منتجي شفرات الحلاقة. فاستوحى من عمله الأول فكرة تجهيز ماكنة الحلاقة (شيك) بنتاش كنتاش البندقية يقذف بالشفرة المستعملة ويحل محلها أخرى جديدة دون أن يكون ثمة حاجة للمس الشفرتين.
من أقوال اديسون التي تكرس النظرية السالفة الذكر: (العقل في عمله السلبي يكتفي بجمع التجارب والاختبارات، وفي عمله الإيجابي يعيد خلق التجارب والاختبارات).
حاول أن ترى بعيني سواك:
توفي أحدهم وخلف لأولاده الأربعة مشروعاً تجارياً يوشك أن ينهار أمام منافسة مشروعات جديدة توافرت لها مقومات البقاء وأسباب النجاح والازدهار. فجمع الولد البكر أشقاءه وقال لهم: (لا قبل لنا بالوقوف في وجه منافسينا الأقوياء على صعيد المضاربة لان رأسمالنا ضعيف، وعندي أن نجتهد في استمالة السكان بحسن تصرفنا).
ولما استزاده أشقاؤه إيضاحاً قال: (ينبغي لنا أن نغزو قلوب المستهلكين قبل جيوبهم وهذا يكون بالنظر إلى الأشياء بعيونهم بحيث نقدم إليهم ما يشتهون وبأسلوب يجعل إقبالهم على أصنافنا أمراً لا شكّ فيه).
لا جدال في صعوبة إلزام النفس بهذه القاعدة لأن حب الذات متأصل في نفوس البشر. ولم تفت أكبر الأولاد الأربعة هذه الحقيقة ولكنه ما زال بأشقائه حتى أقنعهم بصواب رأيه فجعل المشروع شعاره إرضاء الجمهور بأي ثمن واجتذابه بجودة الأصناف وحسن المعاملة، وسرعان ما ثبت أقدامه في وجه المزاحمة، وفي غضون ستة أشهر برز إلى المقدمة وتابع تقدمه مذ ذاك باطراد، كلّ هذا بفضل مخيلة أحد أصحابه وسلامة تفكيره وبعد نظره.
كان لنكولن يقول: (المقدرة كل المقدرة في أن تحيط نفسك بأكبر عدد من الأصدقاء). ومن أقوال كونفوشيوس: ان الذين لا أصدقاء لهم هم فئةم ن البشر لا تمكنها مصادقة الناس. أي أن من لا أصدقاء له هو المسؤول عن عزلته، فهو لا يهتم بشؤون الآخرين ويتنكب السبل المفضية إلى كسب ودهم.