في يناير من عام 2008 دشن “راتان تاتا” رجل الأعمال الهندي السيارة الشعبية التي تعتبر أول سيارة تنتجها الهند والتي لم يتجاوز سعرها –حينئذ – 2500 دولار, وفي عام 1869 أي منذ أكثر من 130 عام كان جامستي تاتا والذي لقب بـ ” أبو الصناعة الهندية” يؤسس ما سوف يعرف لا حقاً باسم “مجموعة تاتا”, وما بين تاتا وتاتا طريق طويل من العمل في مجال الصناعة تتخطى به وعليه الهند “عتبة الخروج” من قائمة البلدان النامية غلى “عتبة الدخول” إلى نادي البلدان الصناعية المتقدمة, فما هي معالم ذلك الطريق الذي سلكته الهند ممثلة في “مجموعة تاتا” حتى وصلت إلى عتبة الانفلات من وصمة “النمو”؟
استقلال الهند رهن بقوة اقتصادها
هذه هي الحكمة التي آمن بها “تاتا” المؤسس، ولد جامستي تاتا في قرية صغيرة جنوب ولاية جوجارات الهندية في مارس من عام 1839 كان الأب نوسيروارجي تاتا، هو رجل الأعمال الأول في عائلة من رجال الدين، تخرج جامستي من كلية إلفنستون في بومباي عام 1858 والتحق بأبيه في عمله التجاري، وفي عام 1869 اشترى معصرة زيوت مفلسة وحولها إلى محلج للقطن لكنه ما لبث أن باعه، وأسس محلجا جديدا. كان جامستي يعيش حين أعلنت الملكة فيكتوريا الهند جزءا من الإمبراطورية البريطانية، ومن رحم الاحتلال نشأ جامستي وطنيا يحلم بالاكتفاء الذاتي لبلاده، واستهل مشروعاته لتحقيق ذلك بإنشاء مصانع سواديشي ميلز لدعم وترويج المنسوجات الهندية بدلا من الأقمشة البريطانية، وظل يحلم بأربعة أشياء يرى فيها رموزا لحلم الاستقلال الاقتصادي أولها شركة للحديد والصلب، وثانيها معهد تعليمي على مستوى عالمي، وثالثها إنشاء فندق، ورابعها محطة لتوليد ال كهرباء، وعلى الرغم من أنه حقق ثالثها فقط أثناء حياته وذلك بإنشاء فندق تاج محل عام 1902 كأول فندق هندي، وعلى الرغم من وفاته عام 1904 ولا زال الاحتلال جاثما على أرض الهند، إلا أن أحلامه تحققت في عهود خلفائه، فقد تأسست شركة تاتا للصلب لتصبح أكبر شركة للحديد والصلب في آسيا، وخامسة الشركات العالمية بإنتاج يصل إلى 28 مليون طن من الصلب سنويا، كما تأسس معهد تاتا للبحوث الأساسية عام 1945 بدعم من جي آر دي تاتا، كما تأسست تاتا للطاقة لتصبح لتصبح أكبر شركة هندية خاصة لإنتاج الطاقة الكهربائية بما يناهز 2300 ميجا وات.
خلفاء تاتا.. المسئولية والريادة والنزاهة
بعد وفاة جامستي تولى ابنه الأكبر دورابجي تاتا أعمال أبيه والتي كانت تتمثل في 3 محالج للقطن، وفندق، كان دوراجبي الذي ولد في أغسطس من عام 1859 وتعلم في كل من الهند وبريطانيا وعمل لفترة قصيرة في الصحافة، ثم التحق بأعمال أبيه، ووضع منذ البداية تحقيق أحلامه الأب، وبالفعل نجح في تأسيس شركة تاتا للحديد والصلب عام 1907 ، وثلاث شركات لإنتاج ال كهرباء، وواحدة من أكبر شركات التأمين الهندية، كما كان رائدا في الحركة الأوليمبية الهندية، ثم رئيسا لها حيث دعم اشتراك الهند عام 1924 في أولمبياد باريس، ولدى وفاة زوجته عام 1931 بسرطان الدم أسس دوراجبي وقفية تذكارية باسمها لدراسة وأبحاث أمراض الدم، كما أسس قبيل وفاته عام 1932 صندوقا وقفيا آخر لدعم تقدم التعليم والأبحاث والإغاثة في الكوارث وأغراض خيرية أخرى دون تمييز بين المستفيدين على أساس الموطن أو الجنسية أو العقيدة، كما أنه قدم الدعم المالي الأولي لتأسيس المعهد الهندي للعلوم في بانجالور.
بعد وفاة دورابجي تولى ابن عمه جي آر دي تاتا مسئولية شركات أبناء تاتا، كان جي آر دي قد ولد عام 1904 لأم فرنسية وأب هو ابن العم المباشر لجامستي تاتا، وتلقى تعليمه الأول في مدارس فرنسا، واستكملها في كل من الهند وبريطانيا، وكان معجبا برائد الطيران لويس بليريوت، ومن ثم أصبح أول طيار في الهند، كما أسس أول شركة طيران تجارية في الهند “تاتا للطيران” والتي عرفت لاحقا باسم “طيران الهند”، ومن ثم لقب بأبو الطيران المدني في الهند، وقد تولى جي آر دي مسئولية شركات تاتا وهو في سن الرابعة والثلاثين، وعلى يديه ازداد عدد الشركات من 15 إلى 100 شركة، كما ازدادت قيمة أول الشركات بما يزيد عن 161 مرة، لكن السمة المميزة له فضلا عن نجاحه في مجال الأعمال هو نزاهته، والتي تجلت في رفضه التقرب إلى السياسيين بالرشا، أو العمل في السوق السوداء، الأمر الذي أدى إلى أن تتوج أعماله بعدد من الجوائز التي حصل عليها في كل من فرنسا والهند، قبل أن يتوفى عام 1993 في سويسرا.
التطوير الإداري لتخطي العجز
كان راتان تاتا قد تسلم رئاسة مجموعة تاتا عام 1991 باعتباره أكبر أحفاد جامستي تاتا، وهو الحفيد الذي ولد عام 1937 ، وتعلم ودرس الهندسة المعمارية والمدنية والإدارة في كل من الهند والولايات المتحدة، ثم التحق بمجموعة شركات تاتا عام 1962 بناء على طلب من سلفه، وبدأ العمل في مصانع تاتا للصلب، حيث كان يقوم بجميع الأعمال التي كان يقوم بها العمال، ثم ترقى في عدة مناصب إدارية بالشركة بداية من عام 1971 ، وخلال عقدي السبعينات والثمانينات واجهت الشركة عددا من الصعوبات بسبب الأنماط القديمة لإدارة الشركة، وبسبب بعض السياسات والإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها بعض الحكومات الهندية، مما اضطر المجموعة للتفريط في بعض شركاتها أو بعض فروع تلك الشركات، تقول “روبين ميريديث” صاحبة كتاب الفيل والتنين الصادر عام 2007، أنه “حينما تولى راتان تاتا زمام الأمور في أثناء الأزمة الاقتصادية العام 1991 كان ال كثير من الشركات المتعددة الأنشطة عاجزة عن المنافسة خارج الهند، بل وعاجزة عن المنافسة ضد الشركات الأجنبية التي تبيع داخل الهند (..) وكانت شركة تاتا للصلب وهي شركة صاحبة مكانة مهيبة واحدة من أصعب الحالات، إذ على الرغم من أنها أحد العمد الأساسية في تاريخ الشركات، فضلا عن ارتباط اسمها في زهو بحركة استقلال الهند، فإن شركة تاتا للصلب أضحت متخلفة كثيرا بحلول العام 1991، وحفز هذا تاتا أن يقول للإدارة إنه سيغلق الشركة ما لم يغيروا الوضع جذريا، وبعد أن أفاق المديرون من الصدمة، انكبوا على العمل والتفكير واستطاعوا في سنوات قليلة أن يجعلوا من الشركة واحدة من أكثر شركات إنتاج الصلب في العالم قدرة وكفاءة، وتكررت القصة نفسها واحدة بعد أخرى في مجموعة شركات تاتا”.
المسئولية الاجتماعية
اليوم بعد مرور كل هذه السنين من تاريخ مجموعة تاتا، فإن الأرقام تدلنا على أن 66 % من قيمة أسهم رأس المال المجموعة مرصود في شكل صناديق ووقفيات من أفراد أسرة تاتا على المشاريع الخ يرية والتنموية التي تعمل في مجالات البحث العلمي والاجتماعي والتدريب والخدمات الصحية والتكنولوجيا البيئية، إضافة إلى مركز للفنون، ورغم ذلك فإن حجم استثمارات الشركة يبلغ مئات المليارات بعشرات الشركات التي تعمل في مجالات الاستشارات والصناعات الهندسية، والطاقة، والكيماويات، والخدمات، والسلع الاستهلاكية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وقد تمددت امبراطورية المجموعة فتمكنت من شراء عدد من كبرى الشركات في العالم في مجالات عملها المختلفة لتمتد أعمالها وأسواق منتجاتها إلى خارج الهند في قارات أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية والشرق الأوسط، وبهذا الحجم الضخم من الأعمال والأسواق تتخطى الشركة والتي تمثل التاريخ الصناعي للهند وأحد أيقونات التقدم الصناعي والاقتصادي والتكنولوجي في حاضر ومستقبل الهند.
د. مجدي سعيد