لعل من أخطر الحوادث في تاريخ العنصر البشري هو اختراع التدوين واكتشاف الإنسان الأول انه يملك القدرة على التواصل وترك ملاحظات على حوادث حياته مكتوبة بشفرات اختزالية عرفت في البداية بالرموز والكتابات الخطية ثم تطورت لتشمل محاكاة للأصوات فيما عرف بالكتابات الصوتية والتي تمثلها أول أبجدية بالمعنى المتعارف عليه وهي الأبجدية الفرعونية بأنواعها الثلاثة.
ولم يكن الإنسان الأول يريد أن تكون هذه الكتابات تاريخا تستفيد منه الأجيال التالية حيث يعرف التاريخ بداية من “هيكاتيوس الميتليني” في القرن السادس قبل الميلاد، لكن من الطبيعي أن نعتبر أن ما خلفه تدوين الأمم السابقة بعد اختراع الكتابة يعتبر فصلا من فصول تاريخ هذا الكوكب وبحيث أصبح من السهل أن نطلق على ما سبق فترة التدوين في حياة البشرية بفترة ما قبل التاريخ أي أن التدوين هو بداية التاريخ الفعلي للبشرية.
في البداية نحن ندين لإدارة البحوث والدراسات في وزارة الثقافة والفنون والتراث بقطر، ندين لهذه الإدارة الفتية بمشروع الترجمة الطموح الذي دنت قطوفه وأينعت فأخرجت لنا منذ أيام مرجعا كبيرا وهو الإصدار الذي صدر حديثا بعنوان (كتب تحترق – تاريخ تدمير المكتبات) للكاتب الفرنسي الكبير “لوسيان بولاستورن” المتخصص في شؤون المكتبات والوثائق.
على الرغم من أن “لوسيان بولاستورن” كاتبا متخصصا إلا انه لم يشر إلى كل حوادث تدمير المكتبات في تاريخ البشرية الكبير والمترامي الأطراف وعلى سبيل المثال لا الحصر عدم ذكره للتدمير المتعاقب لمكتبات المعابد المصرية الفرعونية والتي كانت تحويها المعابد الكبيرة حيث دمر معظمها بشكل متعاقب أثناء الثورات والانتفاضات التي قام بها الكهنة والقادة على السواء ومن بينها ثورة كهنة طيبة ضد الحكم الملكي البطلمي في القرن الأول قبل الميلاد حيث تم تدمير وإحراق أربع مكتبات بمدينة طيبة كانت تحويها المعابد الكبيرة والتي كانت معقلا لثورة الكهنة ولعل المكتبات بمصر العليا قد تم حرقها مرات عدة كان أشهرها حين دخل الفرس مصر وهرب آخر الملوك الفراعين الملك “نختبو” (نكتانبوس) وكل ما كتب بعد ذلك عن تواريخ الأسرات كان من بقايا الوثائق التي لم تطلها يد التدمير ووصلت للمؤرخ المصري مانيتون فكتب على أساسها تاريخ الأسرات.
أما قضية حريق مكتبة الإسكندرية فعلينا أولا أن نشير أنها قضيه تقفز إلى مساحات النقد التاريخي وخاصة نقد الخطاب التاريخي القائم على الصدام المتخيل والمختلق بين الشرق والغرب بحيث يحاول البعض بدون أي سند تاريخي أن ينسب للعرب حريق مكتبة الإسكندرية لتكون هذه سبه في جبين الحضارة العربية العظيمة والخلاقة. على أية حال ودون الاستشهاد بالغرب الحديث تماما ودون الاحتكام لكلام “هيجل” و”ديدروس” و”دالامبير” والتي لم تتعد جهودهم نفي ذلك بشكل دبلوماسي ينقصه في بعض الأحايين السند التاريخي والتحليل النقدي للنصوص التاريخية على أن الحقيقة واضحة تاريخيا بكل المقاييس وهي أن العرب حينما دخلوا مصر بعد الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص لم يكن هناك أي أثر لمكتبة الإسكندرية ولا حتى بقايا لها فالتاريخ والوثائق تشير بوضوح أن العرب دخلوا مصر بعد اختفاء بقايا المكتبة بأكثر من 200 عام على أبسط تقدير أي إن أطلالها كانت قد اختفت أساسا من على وجه البسيطة.
وبنظرة سريعة إلى حوادث التاريخ بداية من عصر “بطليموس” ال13 ( ثيوس فيلوابتر ) والملكة “كليوباترا” السابعة أصبحت المكتبة مهددة بالإهمال نتيجة لطبيعة الصراعات السياسية في هذا العصر، ويجب أن نشير أيضا أن مكتبة الإسكندرية لم تكن مكتبة واحدة بل نحن نتحدث عن مكانين منفصلين يعرفان على أنهما كيان واحد فهناك مكتبة القصر والموجودة داخل القصر الملكي البطلمي وتعرف بمكتبة “السرابيوم” (نسبة للألة سيرابيس) ومكتبة الموسيون وهو الجامعة السكندرية التي أسسها بطليموس الثاني (فيلاديلفوس) لتكون كعبة للعلم والثقافة بعد أفول نجم مدارس أثينا.
إذن نحن أمام مكتبتين وليست مكتبة واحدة وكانت بداية التدمير الجزئي حينما نزل القائد الروماني الشهير “يوليوس قيصر” الى الإسكندرية لأمرين أولهما الانتقام من قتلة القائد الروماني بومبيوس والذي أغتيل على سواحل الاسكندرية وثانيهما هو البت في النزاع بين الملكين الزوجين والأخوة في نفس الوقت أي بين “بطليموس” ال13 وكليوباترا السابعة وذلك بناء على وصية تركها والدهم “بطليموس” ال12 ( اوليتس ) الزمار لدى روما.
وكان أن وقع قيصر في حب “كليوباترا” بعد أن دخلت عليه القصر في حيلة بارعة ملفوفة بسجادة فارسية يحملها معلمها “أبولودروس” فخلبت لبه وبسبب هذا الحب انحاز لها ضد أخوها “بطليموس” ال13 الذي جيش جيشا واستنفر أهل الاسكندرية ضد قيصر حيث أشاع انه أتى لاحتلال الاسكندرية وحدثت حالة من الفوران داخل الاسكندرية فيما عرف بثورة الأسكندرية وكاد “بطليموس” أن يربح الجولة بسبب قلة عدد قوات قيصر لكن قيصر القائد المحنك لجأ لحيلة بارعة وهي انه قام بإحراق السفن الراسية في بوغاز الأسكندرية فاشتعلت النيران في الاسكندريه كلها وطالت هذه النيران مكتبة الموسيون وجاءت على معظم الكتب فيها والتي كانت تبلغ ما بين ال50 و ال60 ألف كتاب على أقل تقدير واكبر دليل على أن النيران أصابت جزءا كبيرا منها هو ما فعلة “ماركوس أنطونيوس” كبير قواد قيصر فيما بعد والذي وقع في حب كليوباترا وتعويضا لها عن تلك الخسارة الفادحة أهدى لها مكتبة “برجاموم” الشهيرة.
والمؤكد تاريخيا أيضا هو أن الجزء الآخر من المكتبة والذي كان يقع داخل القصر الملكي البطلمي كان قد دمر تماما في القرن الثاني الميلادي أثر زلزال شديد وعنيف ضرب الإسكندرية فدمر جزءا من “الفاروس” (فنارة الاسكندرية الشهيرة ) وهبطت على أثره معظم مباني الحي الملكي بما فيهم القصر البطلمي تحت المياه كما هبطت أيضا ضاحية هيراكلنيوم الشهيرة ( بالقرب من أبو قير حاليا ) تحت الماء وهذا ما اكتشفته بعثة الآثار الفرنسية منذ اكثر من عشر سنوات وهكذا فأن ما بقى من المكتبة كان قد هبط تحت الماء بل وتذكر بعض المصادر الرومانية أن الرومان حملوا العدد الأكبر منها إلى مكتبات روما.
وعلينا أيضا الاّ ننسى ثورة الإسكندرية الثالثة والأكثر شهرة والتي عرفت بثورة الرهبان ففي بداية القرن الخامس الميلادي (تقريبا 415 م) أثناء بطريركية البابا “كرلس السكندري” (رأس الجهل كما يصفه “آشتور”) والذي حرض الغوغاء والعامة من مسيحيي الاسكندرية على حصار ما بقى من الموسيون واقتحموه ودمروا تلك الأعداد من التي بقية من الكتب والتي كانت أعداد هزيله لا تتعدى عشر ما بقى من الموسيون ودمر المسيحيون الأرثوذكس الموسيون واحرقوا الكتب ومزقوها بحجة انها مخلفات الوثنية البغيضة بل وقاموا بقتل العالمة السكندرية الشهيرة “هيباتيا” ومثلوا بجثتها في شوارع الاسكندرية وكانت هذه الواقعة آخر عهد الدنيا بمكتبة الإسكندرية التي طبقت شهرتها الآفاق.
وبحسبه بسيطة نجد ان هذه الواقعة كانت عام 415 م والعرب دخلوا مصر عام 641 م أي بعد تدمير المكتبة تماما بأكثر من 200 عام ولعل المقولة الهزلية التي ربما نقلت عن بعض مخطوطات مؤرخين حاقدين ومجهولين أمثال “يوحنا النيقيوسي” وغيره ثم تناقلها العديد من المؤرخين امثال أحمد الصقلي المؤرخ اليهودي تعتبر ضربا من الهزل والخيال حيث يذكرون أن عمرو بن العاص أرسل للخليفة عمر بن الخطاب يسأله في أمر الكتب في المكتبة فقال له أن يتخلص منها فأرسلها إلى الحمامات العامه لتحترق فنفذت في ستة أشهر! ولعل هذه الواقعة التي يجانبها الصواب والتي تفتقر ايضا للسند التاريخي تخالف ما عرف من عدل عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص الذي يذكر المؤرخون المسيحون وعلى رأسهم “الأب ساويرس بن المقفع” في مرجعه الشهير سيرة الآباء البطاركة أنه أعاد للمسيحيين المصريين البابا بنيامبن بعد ان كان مختفيا وهاربا لمدة 13 عاما بسبب اضطهاد الروم له كما انه تبرع بعشرة آلاف دينار من ماله ليبني للمسيحين كنيسة للقديس “مرقص” رسول السيد المسيح الذي كان مدفونا في الاسكندرية وحاول احد الجنود سرقة رأسه.
كما ينافي هذا الكلام افتتان العرب بثقافة وفنون البلاد الذين فتحوها وهذا ما يقوله “آشتور” حيث يؤكد ان العرب أنفقوا كل ثمين وغالي لأقتناء وجمع امهات الكتب الكلاسيكية التي كانت مكتوبة باليونانية واللاتينية سواء من المدارس الصغيرة التي خلفتها الجامعة السكندرية أو من جامعي الكتب ويؤكد آشتور أيضا ان في القرنين التاليين على الفتح الإسلامي تدفقت الكتب على سوريا من مصر ما أدى لتلك الطفرة الكبيرة في حركة الترجمة على يد السريان أمثال حنين بن اسحاق وغيره المترجمين السريان وندلل على ذلك بأن المترجمين كانوا يذكرون أن ترجماتهم نقلت عن نسخ سكندرية.
وهناك نقطة أخيرة لا تترك مجالا لأي شك أو ريبة والتي تثبت على العكس أن العرب كان لهم دور كبير في الحفاظ على التراث الكلاسيكي من الاندثار وهذا الدليل حديث الاكتشاف فبين مخطوطات “أوكسرينخوس” الشهيرة التي تم سرقتها من مصر عثر على رسالة من فقرتين على ورقة بردية معروفة الآن بمخطوطة “تارجونيوس” (محفوظة بجامعة ميتشجان) وهي عباره عن خطاب أرسله “تارجونيوس الثيادلفي” (نسبة لثيادلفيا قرية اغريقية من أعمال الفيوم حاليا) لأحد أصدقائه ويقول فيه ( الآن بامكانك أن تخرج ما خبأته من كتب وأناجيل فأنا تأكدت من أن القائد العربي أتى بميثاق يحمي فيه المصريين من الاضطهاد فلا سبب إذن من إخفائك الكتب والمخطوطات عليك إذن صديقي أستيفانيوس أن ترسل لي الكتب التي تتحدث عن معجزات ساحرة بيسا… ولتكن في رعاية الرب).
هذه المخطوطة ليست مجرد سطور بل هي وثيقة غاية في الأهمية والخطورة حيث إنه تم تحديد تاريخها بعد الفتح العربي بثلاثة سنوات وبالتالي هي تقطع بما لا يدع مجالا للشك أن العرب أبرياء من هذه الجريمة البربرية والتي نسبت إليهم نتيجة لتواتر نص تاريخي مبتور ومفترٍعن آخره.
باسم توفيق
الراية القطرية