كتبت عنها منذ سنوات في جزء من مقال أنه لما خرجت السياسة من باب الجامعة دخل العمل الخيري مدرجاتها، وأن كلمة السر كانت “1999”؛ ففي هذا العام بدأت جمعية “فاتحة خير” في أوساط طلاب الجامعة الأمريكية، وبدأت “رسالة” في أوساط طلاب كلية الهندسة جامعة القاهرة، ومنذ ذلك الحين صارت رسالة نموذجا، وصار ذلك العام فارقا في تاريخ العمل الخيري الحديث في مصر؛ فقبله وقبلها كان العمل الخيري هو شغل أصحاب المعاشات، أما بعده وبعدها فقد صار شغل الشباب.
الحكاية يرويها الدكتور شريف عبد العظيم أستاذ هندسة الاتصالات بجامعة القاهرة ومؤسس جمعية رسالة؛ إذ يطوف كل جمعة بفرع من فروع “رسالة” يعقد اجتماعا مع المتطوعين الجدد ليحكي لهم الحكاية، وهي الحكاية التي سمعتها من “شريف” مرتين قبل ذلك منذ سنوات، كانت أولاهما في فرع فيصل، والأخرى في فرع المهندسين، أما المرة الثالثة فكانت خلال شهر ديسمبر 2009 في فرع “6 أكتوبر” (وهي المرة التي تسمعون تسجيلها مرفقا بالموضوع).
كانت الحكاية مختلفة بعض الشيء هذه المرة؛ إذ بدت فيها خبرة السنوات العشر، فأخرجت لنا على فمه حزمة من الدروس والمعاني؛ وهي الدروس والمعاني التي يجيد عرضها بحديثه الحماسي العقلاني والمتدفق، والذي لا تحس فيه أن الرجل قد مل من تكرار “الحدوتة”.
كانت بداية رسالة -كما يقول شريف- “مصادفة”، أو دون ترتيب مسبق منه، فكما يقال “يثاب المرء رغم أنفه”.. كان حديث “شريف” الموجه لمجموعة من طلابه في كلية الهندسة حول معنى المسئولية الاجتماعية التي تضيع منا بين الأنانية والسلبية، أو بين “دي بتاعتي” و”وأنا مالي”؛ وهو الحديث الذي استفز بعض طلابه وحمسهم من أجل فعل شيء يعبرون فيه عن إحساسهم بالمسئولية تجاه مجتمعهم، ومن ثم كانت الولادة في شكل أسرة نشاط طلابي يوم 25 يونيو 1999، وهي الأسرة التي انطلقت في حملات لتجميل الكلية، والتبرع بالدم، وزيارة دور الأيتام والمسنين وغيرها؛ وهو ما شجع قريبا لإحدى الطالبات أن يعرض عليهم أخذ قطعة من الأرض خارج أسوار الكلية لبناء مشروع خيري عليها؛ وهو ما كان يقتضي تأسيس جمعية خيرية، وهكذا ولدت رسالة “الجمعية” في شهر ديسمبر 2000.
دروس العقل والوجدان
وسواء أكانت “رسالة” أسرة أم “جمعية” فلم يتوقف تدفق نهر المعاني والدروس التي تعلمها أصحابها منها، وربما كان أول تلك المعاني التي تدفقت كان لدي، في هذا اللقاء الثالث لي بسردية “شريف”.. المعنى الهام الذي خرجت به مع اهتمامي الشديد بالتنمية والنهضة ودور العمل الأهلي فيها، ورؤيتي بأن العمل الخيري وحده لن يفعل ذلك، لكنني صرت بعد اللقاء على يقين بأن ذلك العمل الخيري لابد منه كأساس للتنمية والنهضة؛ فقد أقنعتني الدروس والمعاني التي تناثرت كاللؤلؤ وسط كلام “شريف” بأنه دون الناس ودون التنمية عدة معان لابد أن يستشعروها، وعدة خبرات ودروس لابد أن يتعلموها:
دروس الوجدان: وهي الدروس التي يمكننا أن نطلق عليها اسم: “الفعالية الروحية”، وهي الفعالية التي وضعها أستاذنا الدكتور سيد دسوقي شرطا من شروط البعث الحضاري؛ فالتنمية والنهضة، أو البعث الحضاري لابد أن ينبني على قلوب تعرف معنى “الخير” الخالص لوجه الله، قلوب ذاب من حولها ران الأنانية والسلبية، وهو الران الذي لا يذوب إلا بالحركة المشوبة بالحماس والإخلاص نحو تلبية احتياجات وحل مشكلات الآخرين، والإحساس بهم، ومن ثم الإحساس بقيمة ما يرفل فيه الإنسان من نعم الله، قلوب تحس بتوفيق الله وفضله في مشوار من مشاوير الخير الذي يمس الآخرين، وأن عطاء الله قد يحقق ما يصبو إليه الإنسان في حياته، أو حتى يكون فوق مستوى أحلامه؛ وهو ما يورث في القلوب معنى اليقين والثقة في الله.
من بين دروس الوجدان الأخرى التي تعلمناها “رحلة رسالة” أنه لا تنمية دون “رأس مال اجتماعي” قائم على الثقة والأمل في أنفسنا، وأنه لا تنمية دون تغلغل روح البذل والعطاء في النفوس؛ وهي الروح التي قد نكتشفها في أنفسنا أو في بعضنا البعض، والتي يفجرها العمل الخيري فينا.
دروس العقل: وهي الدروس التي جاءت “عصارة” لخبرة عشر سنوات من الغوص في باطن المجتمع تعاملا مع فئاته المحتاجة للعون، وحلا للمشكلات المختلفة لهم، والتي تقول لنا إننا كي ننمي أي مجتمع فلابد أن نعرفه معرفة جيدة دون “رتوش”، وأن تلك المعرفة لابد أن تشمل فئات المجتمع المختلفة، وأوضاعها، واحتياجاتها الحقيقية لا المتخيلة، وكيفية تقديم العون لسد تلك الاحتياجات، وكيف نحقق لذلك العون القبول والإشباع لدى متلقيه، كما لابد أن تشمل معرفتنا السمات العامة للمجتمع سلبا وإيجابا وكيف تتعامل معها ولا نصطدم بها؛ لنصل إلى تحقيق ما نريد.
ولعل أجمل ما سمعت في حديث “شريف” هو تعريفه لمعاني التدين والوطنية والإنسانية؛ وهو ما يجمل دروس العقل والوجدان لديه، وذلك حينما قال: “إن التطوع هو التدين الصحيح، والوطنية الصحيحة، والإنسانية الصحيحة”.
ولكن جمال الرحلة وفوائدها الجمة لا تغني عن بعض الملاحظات التي ربما تفيد في تطوير الخبرة إذا أخذ بها:
كان انتشار “رسالة” وتوسعها كبيرا وسريعا بمقياس الزمن، لكن لم يواكب هذا الكبر والتوسع زيادة في “مؤسسية” العمل، ولا توثيق كافٍ لخبراته وتجاربه المختلفة، اللهم إلا فيما يتم جمعه من قصص إنسانية وإحصاءات في النشرة الشهرية.
الثروة الحقيقية التي تمتلكها “رسالة” هي شبابها المتطوع؛ وهي ثروة تحتاج إلى استثمار أكثر من ذلك حتى تنمو فتنمي؛ وذلك يحتاج إلى إدارة لتنمية وتطوير المتطوعين.
إذا كان حلم “رسالة” -كما عبر عنه “شريف”- هو أن يتم تغطية مصر بالخير، بمعنى الانتشار الجغرافي، فإن تطور الخبرة وعمقها يقتضي أن يصاحب هذا التمدد تطور في الاتجاه التنموي يحدث تغييرا حقيقيا في المجتمع.
مجدي علي سعيد