جورج واشنطن كارفر .. ما لم يفعله أحد من قبل
بقلم : د . مجدي سعيد
طالعت سيرة ذلك الرجل مرتين دون ملل، واحترت فيها، من أين أدخل في الحديث عنها، ولأنني أكتب اليوم عن رجل فارق الدنيا منذ أكثر من سبعين عاما فلم أجد خيرا من قول القائل عن تصاريف القدر في حيوات البشر: (ربما أعطاك فمنعك..وربما منعك فأعطاك)، وقد كان نصيب الرجل في حياته النصف الثاني من هذه المقولة.
فالرجل الذي ولد على أرجح الأقوال عام 1864 في ولاية مسيسيبي عاش في الدنيا وحيدا فقد سلب رعاية الأب الذي مات عبدا من كثرة العمل، وحرم حنان الأم التي اختطفتها العصابات المتمسكة بالعبودية في السنوات التي تلت الحرب الأهلية الأمريكية، ومات اخوته جميعا عدا أخ هام على وجهه حتى مات صبيا، كما حرم الطفل من النطق صغيرا لسنوات حتى فك الله عقدة لسانه وإن ظل يتلعثم حينما يضيق صدره فلا ينطلق لسانه، لكن الله أعطاه في مقابل ذلك عطايا كثيرة هي أعظم مما سلبه منه، فقد رعته الأسرة تلو الأسرة حتى بلغت خمس أو ست أسرات كأحسن ما ترعى الأسر أولادها، وأعطه الله شغفا بالمعرفة والعلم وقدرة على تحصيلهما حتى صار عالما يشار له بالبنان، وأعطاه خبرات في الحياة ومهارات على العيش في أصعب الظروف، حتى صار يجيد بدل المهنة عشرة، وأعطاه الله زهدا في الدنيا، حين أقبلت عليه بعد إدبار طويل، فصارت تعرض عليه الأموال من الشركات وتنهال عليه العروض من الجامعات وهو عنها زاهد، حتى أنه مات ولم يكن قد صرف من راتبه الذي يصرفه له معهد تاسكجي الذي قضى فيه ما يربو على الأربعة عقود الأخيرة من حياته، وأعطاه الله قدرة على البذل والعطاء، وقدرة على الإبداع والابتكار، وعلما واسعا بذله كله عن طيب خاطر في خدمة الناس وفقرائهم على الأخص، وأعطاه الله جلدا وصبرا على العمل والكد والتعب فأنجز الكثير في حياته حتى صار الناس يذكرونه بعطاءاته لعشرات السنين بعد مماته، وأعطاه الله إيمانا بالله، وتواضعا أمام ما يختزنه ملكون الله في خلقه من بصائر ومعارف وإمكانات لا حدود لها، ففتح الله عليه من خزائن حمته ومعارفه ما شاء الله له أن يفتح.
العلم في خدمة عموم الناس والفقراء منهم على وجه الخصوص، هذا هو العنوان الثاني الذي يمكننا أن نضعه على حياة جورج واشنطن ، فبعد أن حصل العلم في بعض مدارس ولايتي كانساس وأيوا، وبعد أن عين للتدريس في كلية الزراعة بولاية أيوا وطاب له العمل بها بضع سنوات، كاتبه زنجي آخر بذل حياته من أجل الارتقاء بحيوات قومه من الفقراء والمعدمين في ولاية ألاباما، من خلال تأسيسه لمعهد لتعليم الحرف والمهن المختلفة هو بوكر ت. واشنطن، وذلك كي يقدم إليه ليعاونه في معهده، ويعاون أهل الولاية من الفقراء خاصة من الزنوج المتحررين حديثا من العبودية، والذين أهلك المطر وطبيعة التربة محاصيلهم، ودون سابق معرفة أو إغراء بمال أو حتى تجهيز معمل ملائم للعمل قبل كارفر العرض وترك منصبه في كلية الزراعة بأيوا، عام 1896، ليقضي بقية حياته في الرسالة التي دعاه لها بوكر، فكيف كافح الفقر والمسغبة في تلك البقاع بالعلم 47 عاما:
- علم المزارعين إراحة أراضيهم من زراعة القطن عبر تعريفهم بمفهوم الدورة الزراعية من خلال زراعة البطاطا أو البقوليات كالفول السوداني وفول الصويا واللوبيا.
- نظم ما يشبه المدرسة الزراعية المتنقلة التي كانت تجوب المزارع تعلم الناس التقنيات البسيطة في استخراج أنواع من الأطعمة من مزروعاتهم، وتعلمهم كيف يعالجون زراعاتهم المريضة، وتبني لهم أكواخهم وبيوتهم المتهدمة، بل وتعالج مرضاهم حيث صاحبتها بعد ذلك إحدى الممرضات.
- أنه استخدم علمه بالكيمياء الزراعية ليستخرج من الفول السوداني وفول الصويا والبطاطا وغيرها من المزروعات مئات المنتجات الغذائية وغير الغذائية من وقود حيوي وغيره، وأرشد الزراع إلى تلك المنتجات من خلال إصدار 43 من النشرات الإرشادية الزراعية منذ عام 1898 حتى عام وفاته 1943، أشهرها نشرته حول كيفية زراعة الفول السوداني والعناية به، والتي قدم فيها 105 طريقة لاستخراج منتجات للاستهلاك الآدمي من الفول السوداني.
لن أستطيع في هذه الإضاءة العاجلة على حياة جورج واشنطن أن أحيط بكل جوانب حياته الثرى، فقد كان فضلا عن تخصصه كأحد علماء أمراض النبات والكيمياء الزراعية، رساما، وعازفا للموسيقى، ولكن حسبي أن أختم بتلك القصيدة التي قرأها على طلابه في معهد تاسكجي يوما ما وأسماها “ما لم يفعله أحد من قبل” والتي تعطي عنوانا ثالثا لحياته هو “الريادة”:
“إن الأفذاذ الذين يرتادون بلا خريطة أو مصور، الأرض التي لم تطأها من قبل قدم بشر، والقلائل الذين ينحرفون عن الدرب المطروق، ليروا ما لم يره مخلوق، والذين تتلهف فيهم، الأرواح على أداء الفعال الجسام، وإن تعذبوا، ونكبوا، وتزاحمت عليهم الآلام، هم الذين، ينيرون السبيل أمام الأكثرين، الذين لم يفعلوا، شيئا جديدا لم يسبقهم إله أحد من العالمين..إن ما لم يفعله من قبل إنسان..هو اليوم كل عمل خليق بإتيان، فهل أنت من القطيع الذي يتبع الأغنام، أم أنت الزعيم الذي يقود الأنام..أأنت من الهيابين الوجلين، الذين ينزوون من سخرية الساخرين، أم أنت الجريء الرابط الجنان، لا يبالي إن نجح أو عاد بخسران..ما دام الرائد لم يسبقه إلى الهدف إنسان”..
قبل أن أختم هذا المقال أود أن أنوه بأن ما حفزني على كتابة هذا المقال، وما حببني في قراءة سيرة الرجل مرتين دون ملل، هو الترجمة البديعة التي ترجم بها عباس حافظ بك كتاب شيرلي جراهام وجورج ليكومب عن حياة جورج واشنطن كارفر، وهي الترجمة التي نشرتها دار المعارف، والتي تستحق أن تدرس في معاهد وبرامج الترجمة.