أظهرت دراسة أجراها فريق طبي في كلية الدراسات النفسية بجامعة “بوسطن” الأمريكية، أن التخطيطات العشوائية والرسوم الصغيرة “الخربشات” التي يدونها الشخصى بقلمه أحياناً، تكشف النقاب عن كثير من أسرار شخصيته، وقال الدكتور روبرت هاريسون الذي قاد الفريق البحثي، إن هذه الخربشات نوع من “أحلام اليقظة” البصرية قد تساعد في إلقاء الضوء الكاشف على الكثير من جوانب الشخصية الخفية.
وتقول الباحثة سوزان ألدريج: “عندما تشعر بالتململ في اجتماع طويل وممل، من المحتمل أنك سوف تمسك بقلمك وتنهمك في عمل خطوط او رسوم، وربما مربعات او مثلثات أو أسهم، وهو ما يطلق عليه أطباء علم النفس اسم “الخربشة” وهى عملية أقل وعياً من الكتابة، وقد تنتج أشكالاً ورسوماً لاتخطر إلا على بال شخص واحد بمعنى أنها عملية فردية تماماً، لكنها تعكس- بدرجة ما – تفكيراً منطقياً، على الرغم من غرابة هذه الرموز حتى بالنسبة إلى صاحبها “نفسه” !
ولهذا السبب بدأ علماء النفس يعطون اهتماماً بالغاً “للخربشات” من أجل فهم طبيعة المرضى النفسيين والتوصل إلى تحديد ماهية العرض النفسي الذي يعانون منه بدقة، وتجرى حالياً اختبارات من هذا النوع في مستشفيات جامعة “سيدني” الأسترالية، للكشف عن أمراض مثل العصاب والوسواس القهري والإدمان وسواها.
تحوي كتب التاريخ نماذج مدهشة “للخربشات” المبدعة، فقد ظهرت معظم أعمال واختراعات الفنا الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي صاحب “الموناليزا”على شكل تخطيطات عشوائية اولية اشبه بالخربشة في البداية، ثم قام دافنشي بتطويرها حتى وصلت إلى شكلها النهائي، ويبدو ذلك جلياَ في مسودات أعمال هذا الفنان الكبير التي تحتفظ بها المتاحف الأوروبية، حيث تظهر فيها مربعات ورسوم وأشكال غريبة تبدو للناظر بلا معنى تقريباً لكنها البذور الأولى لكل إبداعات دافنشي المعروفة.
وفي العصر الحديث كان عالم الرياضيات الأشهر ألبرت أينشتاين يولي اهتماما كبيراً بما أسماه “التفكير العشوائي” الذي يعتمد عليه المرء عند التخطيط بقلمه في ورقة بيضاء، وكان أينشتاين يؤكد أن “النظرية النسبية” وليدة لحظات من الإلهام العقلي الكاشف ظهر على شكل خربشات أقرب ما تكون إلى عشوائية!
ومنذ العام 2004م يُقام في المملكة المتحدة سنوياً “اليوم الوطني للخربشة” على شكل مسابقة تنظمها “جمعية مرضى الصرع” البريطانية، ويدعمها المشارهير والنجوم من جميع أنحاء العالم كحملة قومية لجمع التبرعات بهدف مساعدة المرضى الفقراء، وخلال الحملة يتم عرض خربشات المشاهير امثال توني بلير وبيل جيتس وجاك شيراك وبيل كلينتون وسواهم، ويجرى تنظيم مزاد علني لبيع هذه التخطيطات بمبالغ كبيرة، وتذهب حصيلة المزاد إلى الجمعيات الخيرية في بعض دول العالم الثالث.
يفسر د. روبرت هاريسون عملية “الخربشة” بأنها عملية عقلية معقدة، فنحن عندما ننخرط في أحلام اليقظة تحكمنا ثلاثة محددات، وهى القلق وتحقيق الأمنيات واستقراء المستقبل، فبمجرد أن يبدأ الشخص في التخطيط بقلمه عشوائياً قد تظهر “تبصرات مدهشة” يعرفها الشعراء وفنانو الموسيقى على وجه الخصوص، وفي إمكان الأطباء والمتخصصين في “علم الخطوط” تحليل هذه الخربشات لإعطاء لمحات ثاقبة ودقيقة عن صاحبها، وذلك بإعتبارها شكلاً من أشكال التنفيس الإبداعي عما يعتمل في عقل المرء الباطن.
وكان عالم النفس السويسري المعروف كارل يونج هو أول من تنبّه إلى أهمية الخربشات في تشخيص الأعراض النفسية، مؤكداً أن الطريقة التي تظهر بها الحروف و”الرموز” في الخربشة ومنها الطائرات والمربعات والأشجار والأسماك، إنما هي تعبير صريح عن صراعات لاشعورية في نفس المريض
أو الشخص السوي على حد سواء.
ويقسّم الأطباء الرموز وأشكال الحروف في الخربشات وفق معايير محددة على النحو التالي:
• رسوم الطائرات والبواخر تُظهر ميلاً واضحاً إلى الهروب من الواقع، وأن الشخص الذي خطها يتعرض لضغوط نفسية تدفعه إلى التفكير في التنصل من مسئولياته نهائياً.
• الدوائر والحروف المنحنية والكلمات العشوائية تكشف عن انهماك المرء في أحلام يقظة تتعلق بمستقبله، وتعكس شعوره بالقلق من المستقبل ورغبته في تغيير نمط حياته.
• الحروف الكبيرة جداً تشير إلى طبيعة شخصية تميل إلى التفاعل والتوسع مع الآخرين، فيما تشير الحروف الصغيرة ـ غير الواضحة ـ إلى طبيعة خجولة.
• المثلثات مؤشر على التفكير المنطقي السليم والقدرة على تجاوز المشكلات والعوائق الحياتية، والنجوم تعكس قدرة صاحبها على التفكير العقلي، وهى أيضاً مؤشر على الطموح الكبير.
• اللفظ المسيطر، أي تكرار لفظ معين لأكثر من مرة، دلالة مؤكدة على الوسواس القهري الذي قد يصل إلى الفصام في بعض الحالات، حتى لو كان هذا اللفظ لايعني شيئاً في حقيقة الأمر.
تشير الباحثة الأمريكية سوزان ألدريدج إلى أن هناك أدلة شبه مؤكدة على أن الخربشة يمكنها “تحرير الدماغ” من بعض الضغوط العقلية ليتفرغ للنشاط الذهني، كما أنها تساعد في تنفيس التوتر النفسي إلى أبعد مدى، وهي بذلك نشاط لا إرادي مصدره الجانب الأيمن من الدماغ.
وتؤكد الباحثة أن لموقع الخربشة من الصفحة اهمية قصوى لدى الأطباء والمعالجين النفسيين، فإذا كانت في الجهة اليسرى من الورقة فهي تشير إلى تحفظ معين، فضلاً عن أن صاحبها يميل إلى الإستغراق في أحداث الماضي إلى حد بعيد. أما الخربشة على يمين الصفحة تعني أن صاحبها شخص اجتماعي يتطلع إلى المستقبل وليس لديه أي تحفظات تجاه ماضيه، فيما تشير الخربشة في وسط الصفحة إلى شخص يريد أن يكون موضع اهتمام الآخرين، وبيّنما تعبّر أعلى الصفحة عن الحماس فإن أسفلها يعبّر عن شخصية مترددة وغير واثقة من نفسها.
وفي هذا السياق أجريت في كلية الطب جامعة “سيدني” بإستراليا، اختبارات للخربشة قام بها مجموعة من المراهقين وصل عددهم إلى 250 مراهقاً، وذلك لإظهار كيفية تورط بعضهم في إدمان المخدرات وحوادث سرقة وجنوح، وزوّدت الخربشة الأطباء المعالجين بعدد من الحقائق وصفوها بأنها “مدهشة” حول طبيعة شخصية هؤلاء الجانحين.
ومن أبرز الحقائق التي توصلت إليها دراسة جامعة “سيدني”، أن الخربشات قد تكون مفتاحاً لفهم المشاكل النفسية التي يعاني منها المراهقون،فقد تبيّن تعرض بعضهم لخبرات نفسية سيئة في طفولتهم، كما رسم البعض منهم قضباناَ حديدية في إشارة إلى تخوفهم من السجن، فيما كتب البعض الآخر كلمات غير مفهومة تعبّر عن ضغوط محددة تجاه أشخاص مجهولين، وظهرت لدى آخرين شواهد قبور لتعبّر بوضوح عن رغبتهم في الانتحار.
واخيراً فإن هناك علاقة مؤكدة بين الخربشات وعلم الطب الشرعي (الجنائي) حيث يستعين الأطباء بعلماء الخطوط لتفسير غوامض بعض الجرائم، وخاصة فيما يتعلق بالدفع وراء ارتكاب الجريمة الذي قد تكشفه ورقة صغيرة تركها المجرم وراءه، وربما يكون فحص مثل هذه الخربشات أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الشرطة، حيث يحول ذلك دون وقوع الجرائم في بعض الأحيان، فغالباً ما يعتبر المحققون العثور على “ورقة” في مكان الجريمة بمثابة كنز ثمين يكشف الجاني في نهاية المطاف.
سلوى الزيات