عشية الحرب العالمية الثانية كان يعيش في القاهرة ” طفل ” بريطاني اسمه “دينيس جونسون ديفيز”، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها كان “دينيس” في السادسة عشرة من عمره، فعاد مع أسرته إلى لندن حيث التحق بالدراسة في جامعة “كامبردج” الشهيرة، وهناك اختار دراسة اللغة العربية رغم أن عدد طلبة القسم لم يكن يتجاوز 3 طلاب فقط!
“دينيس جونسون ديفيز”، الذي أصبح فيما بعد أول مترجم للأدب العربي، كان واحدًا من الطلاب الثلاثة الذي كان ثانيهم هو وزير الخارجية الإسرائيلي السابق –فيما بعد- “أبا إيبان” وفي هذا الوقت رفض “ديفيز” صداقة “أبا إيبان”، فالشاب البريطاني الذي تربى في مصر كان يعشق العرب ويكره إسرائيل بشدة!
ولد ديفيز في كندا عام 1922م، ودرس اللغة العربية في جامعتي لندن وكامبردج، وقدم العديد من الترجمات لأدباء عرب في اصدارات انجليزية خاصة من خلال سلسلة “هاينمان” الإنجليزية وعبر دار “دوبلداي” في نيويورك، وهو مؤسس مجلّة “أصوات” باللغة العربية، عاش في القاهرة وارتبط بحضارة النيل وعشق الأدب العربي، ووجد في الترجمة أحسن وسيلة للتعريف بالأدب العربي ، فأصبح أول مترجمي الأدب العربي الحديث عندما ترجم مختارات قصصية لمحمود تيمور سنة 1947 ، ولم يكن في ذاك الوقت أحد يهتم بالأدب العربي الحديث.
اعتبره نجيب محفوظ و إدوارد سعيد “رائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية”، فقد أصدر نحو ثلاثين مجلّداً ضمت الكثير من النتاج الإبداعي القصصي والروائي العربي، لذلك لم يبدو غريبا أن يفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2007 م، حيث جاء في حيثيات منحه الجائزة ” نتيجة لإسهامه المتواصل في إثراء الثقافة العربية بترجماته الأصيلة لعيون الأدب العربي الحديث إلى اللغة الإنجليزية منذ منتصف القرن العشرين، ودوره في التعريف بكلاسيكيات الأدب العربي في الأوساط الجامعية والعلمية في الغرب، ونشره لسلسلة كتب أطفال باللغة الإنجليزية تربو على الأربعين كتاباً مستوحاة من روائع الأدب العربي، مما يقدم نموذجاً لقيم الأصالة والتسامح والتعايش الحضاري بين الشعوب”.
التحق ” ديفيز” بإحدى المدارس في انجلترا وعمره 12 عاما لكنه تركها، وشجعه والده على تعلم العربية التي كان يعرفها وهو في السودان ويراها “أفضل من الإنجليزية”، لكنه واجه صعوبة في البداية لأن خلفيته اللغوية لم تكن كافية، فدخل جامعة لندن لدراسة اللغة العربية، ثم جامعة كامبردج.
يقول “ديفيز” : إن المستشرقين حينها كانوا يعتقدون أن العربية “لغة ميتة”، وكانوا لا يتكلمون اللغة العربية، أذكر أن المستشرق نيكلسون (من أكبر المستشرقين في أيامنا وهو ألف كتباً كثيرة عن التصوف الإسلامي) لم يكن يتقن العربية ولم يكن يلقي السلام باللغة العربية على أحد منا، وكان الإقبال على تعلم اللغة العربية ضعيفاً جداً، أذكر أن عدد الطلبة الذين كانوا يتعلمون اللغة العربية في الجامعة لم يزد على 3 طلاب أنا أولهم ثم أبا أبيان الذي تولى وزارة الخارجية الإسرائيلية –فيما بعد- ومواطن بريطاني”.
ترك “ديفيز” دراسة اللغة العربية في كامبردج، والتحق بالقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية BBC على أساس أنه على دراية بالعربية، ولكنه في الحقيقة لم يكن يعرفها، وعندما استمع إلى نشرة الأخبار باللغة العربية، لم يفهم كلمة واحدة منها، لكن زملائه في الإذاعة -وكان معظمهم من المصريين- احتضنوه فشعر أنه دخل جامعة حقيقية للعربية، فتعلم منهم الفصحى والعامية، وتعلم من أحدهم الزجل والأمثال الشعبية، وتدريجاً بدأ يفهم ويعبر بالعربية.
أثناء عمله بالإذاعة البريطانية شعر أن هناك نهضة في البلاد العربية خصوصاً في الأدب وقرأ قصصاً لمحمود تيمور وروايات لتوفيق الحكيم، سافر إلى مصر 1945 ، وكان الأجنبي الوحيد المهتم بالحركة الجديدة، وساعده لويس عوض الذي تعرف إليه في جامعة كامبردج في تعريفه الى الأدباء الكبار من أمثال طه حسين ويحيى حقي ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وسواهم.
وتأكد حينها أنه لا يوجد أجنبي غيره مهتم بالحركة الأدبية الجديدة، ومن هنا فكر في عمل مشروع كبير لمجموعة قصصية من شتى البلدان العربية، وخلال السنوات من 1947 إلى 1967 جمع المادة اللازمة لهذا المشروع، فترجم من العراق لعبدالملك نوري وفؤاد التكرلي، ومن لبنان ليلى بعلبكي، ومن سورية عبدالسلام العجيلي، ومن السودان الطيب صالح ، وكان الادباء المصريون هم الأكثرية في تلك المجموعة.
واجه ديفيز مشكلة في إنجلترا لنشر ترجماته، لكنه تعرف إلى مسئول كبير كانت لديه علاقة صداقة قوية مع موظف في «مطبعة جامعة أوكسفورد» وشرح له فكرته بإصدار مجموعة قصصية عربية واستحسنها، وكانت تلك مصادفة جميلة. وبالفعل نشرت تلك المجموعة في 1967 في لندن، وكانت «مطبعة جامعة أوكسفورد» من أفضل دور النشر في إنجلترا، وضمت تلك المجموعة القصصية “قصة زعبلاوي” لنجيب محفوظ، وقصصاً ليحيى حقي.
بعد صدور المجموعة جاءه مسئول يعمل في دار نشر مشهورة في لندن اسمها «حينما» وكان يعد لنشر سلسلة قصص وكتب تحت عنوان «كتاب أفريقيون»، واقترح عليه أن ينشر ضمن تلك السلسلة أعمالاً لكتاب وأدباء من العرب، من بينهم أدباء من سورية، لكنه تحفظ وقال إن هذه السلسلة ستكون مخصصة لكتاب أفريقيين، وطور الفكرة لتكون مجموعة قصصية تحت اسم «مؤلفون عرب» وبدأ النشر بمجموعة قصصية للطيب صالح، وترجم مجموعة شعرية لمحمود درويش، واستمرت تلك المجموعة في الصدور لمدة عامين، وتوالت ترجماته .
أصدر الرجل مجلة «أصوات» في الفترة من 1960 إلى 1963 باللغة العربية، ونشر فيها لعدد كبير من الأدباء العرب مثل بدر شاكر السياب، وغسان كنفاني، وزكريا تامر وغيرهم، وكانت المجلة فصلية تنشر الشعر والقصة والنقد.
وعن ترجمة النصوص الإسلامية يقول : ارتبطت بعلاقة صداقة مع المستشار الثقافي للشيخ “زايد بن سلطان آل نهيان” الدكتور “عز الدين إبراهيم” في الستينات، الذي عرض علي التعاون في ترجمة النصوص الإسلامية، ولكني رفضت الترجمة المشتركة ، إلا أن الدكتور” عز الدين” أقنعني بسمو مشروع ترجمة الأحاديث القدسية والنبوية، فضلاً عن أن ترجمتها تحتاج إلى دقة متناهية ودراية كبيرة باللغتين، وكان الدكتور عز الدين متمكنًا من اللغة الإنجليزية ومرجعية إسلامية كبيرة في منطقة الخليج، فأنجزنا سويا تراجم لثلاثة كتب حول الأحاديث القدسية والنبوية و”الكلم الطيب” لابن تيمية، وأعد الآن لدراسة مبوبة لآيات القرآن الكريم باللغتين العربية والإنجليزية”.
وكتب ” ديفيز” للأطفال مجموعة من التراث العربي الحكائى اختارها من مصادر متعددة وأعاد صياغتها لعدم إيمانه بجدوى الترجمة الحرفية، بينها نص عن ابن بطوطة وقصص من التراث السوري وآخر عن غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في إطار مشروع يستهدف طلبة المدارس الأجنبية أو الأطفال العرب الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا وليست لديهم أية مرجعية عن ثقافتهم وتراثهم العربي.
ونشر ” ديفيز” سلسلة للأطفال بعنوان “كتب عباد الشمس” التي أصدرت منها (دار الشروق المصرية) أربعة كتب هي “حكايات اللصوص” و “زينب الجميلة” و “جرة الزيتون” و ” في جزيرة صحراوية ” والأخيرة هي القصة التي بسطها صلاح عبد الصبور عن “حي بن يقظان” وترجمها ديفيز، أما الكتب الثلاثة الأخرى فهي من تأليف ديفيز.
وعن سبب اختياره لهذه الأعمال قال “ديفيز” إنه كان يزور أحد أصدقائه السوريين وأكتشف أن ابنه الذي يدرس بإحدى المدارس الأجنبية ليست لديه فكرة عن التاريخ الإسلامي وهو ما دفعه لأن يكتب كتابا للأطفال بالإنجليزية عن الغزوات والخلفاء الراشدين، فكتب كتابا يحتوي علي سيرة الرسول، وبعد ذلك كتب قصصا مستوحاة من الثقافة الشعبية المصرية ومن “ألف ليلة وليلةـ”، وكانت الحصيلة هي ستة عشر كتابا خاصا بالأطفال.
وقال عنه الأديب المصري نجيب محفوظ قبل وفاته – في مقدمة كتاب (ذكريات عن الترجمة) الذي يقدم السيرة الذاتية لـ ” ديفيز” – : “أعرف المؤلّف منذ عام 1945، وهو أوّل من ترجم عملاً لي، ثمّ ترجم العديد من رواياتي .. والحقيقة أنه بذل جهداً لا يضاهى في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية وترويجه.. يسعدني كثيراً أن كتب دنيس هذا الكتاب البالغ الروعة، وأتمنى أن يحظى قارئه بنفس القدر من السعادة الذي حظيت به من معرفتي بمؤلّفه على مدى ستين عاماً.”
وارتبط ” ديفيز ” بعلاقات وثيقة بالأدباء والنقاد العرب حيث يقول عنه الأديب المصري الكبير “يوسف الشاروني”: نشأت الصلة بيني وبينه منذ منتصف القرن الماضي حين اتصل بي ليقترح علي ترجمة بعض قصصي القصيرة إلي اللغة الانجليزية, ولم أكن قد تجاوزت الثلاثين من عمري. وربما هو أيضا وتحمست لمشروعه فقد كان لا يخصني وحدي بل يشمل أبرز مبدعي تلك الحقبة، وفي لقائنا عرفت منه أنه كان يقوم –وقتئذ- بالتدريس في قسم اللغة الانجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان ديفيز يحرص علي أن يعرض علي ترجمته لا سيما حين يقف أمام بعض التعبيرات الدارجة رغم أنه يعرف العامية المصرية معرفته بالفصحي، فقد كان يحرص علي الاشتراك في جلسات محمود تيمور ـ وهو أول من ترجم له ـ التي كان يعقدها بقريته بالريف المصري ليستمع إلي مايدور من أحاديث توسع له دائرة فهمه لأسرار لغتنا، وكان قد أخبرني أنه عاش في مصر مع أسرته أثناء الحرب العالمية الثانية حتي سن السادسة عشرة حين سافر إلي وطنه انجلترا ليتلقي العلم في جامعة كامبردج متخصصا في اللغة العربية.
ويضيف الشاروني ” ترجم ديفيز منذ أكثر من عشرين عاما مختارات من قصصي القصيرة بعنوان “الثأر” صدرت في ثلاث طبعات، كما ترجم لعدد كبير من المبدعين المصريين والعرب ابتداء من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحيي حقي والطيب صالح حتي معظم مبدعي الستينيات، وحين أقام في بيروت ترجم لتوفيق صالح وبلند الحيدري وجبرا إبراهيم جبرا الذي كان صديقه منذ أيام الدراسة بجامعة كامبردج، كما ترجم للشاعر الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، وشارك في افتتاح قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الذي قام ويقوم بأفضل مجهود ومنظم لترجمة أدبنا العربي ونشره علي نطاق عالمي”
وحسب “الشاروني” لم يقنع “ديفيز” بأن يقف من الابداع ، موقف المترجم فقط ، بل إنه شارك من يترجم لهم ابداعهم بنشره مجموعته القصصية مصير سجين وقصصا أخري فضلا عن نحو عشرين كتابا تضم قصصا موجهة للناشئين استلهمها من التراثين العربي والإسلامي.
صلاح سعد