مَرَضُ طفل صغير يفتح طاقة أمل لآلاف المرضى والمتعبين.. آلامه تضع نهاية لآلام الآلاف من أصحاب المعاناة.. حرمانه من لعب الطفولة والحياة الطبيعية شأنه شأن أقرانه، يفتح باب عطاء واسع بلا حدود، لم يزل مفتوحًا لآلاف المحتاجين من ذوي الإعاقة.
هكذا قالت الأقدار كلمتها في رحلة حياة البروفيسور محمد الطريقي، أستاذ الهندسة الطبية والتأهيل، صاحب براءات الاختراع الأوروبية والأمريكية والسعودية في مجال تخصصه، والباحث الرئيسي المشرف العام على المركز المشترك لبحوث الأطراف الاصطناعية والأجهزة التعويضية وبرامج تأهيل المعاقين، سابقًا، والمشرف العام السابق على حملة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للرعاية الاجتماعية والتثقيف الصحي والتأهيلي، وصاحب المبادرة أحد مؤسسي مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية.
تسرد صفحات الكتاب بلغة نابضة وسرد رشيق، وقائع حياة تجسدت فيها رسائل الغيب على نحو دراماتيكي، فبعدما حار الأطباء بين الرياض وشيراز وبيروت، آنذاك، في علاج حالة تمدد بالشعب الهوائية أعطبت ثلثي الرئة اليسري للطفل الصغير محمد، ابن رجل الأعمال الرائد التنموي حمود بن سليمان الطريقي المعروف بـ ” الرويبخ “، وجعلته غير قادر على التنفس الطبيعي أو الحياة بطلاقة مثل أقرانه، قال له معلمه الإنجليزي “السيد هارولد وولتون” الذي كان معارًا إلى مدرسته في الزلفي، إن العلاج هناك في بريطانيا.
شدة وقع المرض المزمن على الصغير الذي يسعل باستمرار مع إفرازات من الصدر، ويعجز حتى عن الضحك، جعلته يتعلق بحلم السفر إلى بريطانيا، فانكفأ على المذاكرة، الشيء الوحيد الذي كان يقدر عليه؛ على أمل أن يكون من العشرة الأوائل، ويبتعث إلى بريطانيا، حيث الطب المتقدم والمستشفيات الكبرى، فيتخلص من علته، ويدرس الطب هناك في بريطانيا ليعود إلى بلاده، فيمد يد العون للمرضى/المتعبين الذين كان واحدًا منهم. هكذا بدأت القصة بحلم بريء من صغير وعى على الحياة وهو يعاني من السعال المزمن، ولقد تحقق حلم الطفل الصغير صاحب الإرادة الفولاذية، وبالفعل تمكن من التفوق في الثانوية العامة وأصبح من العشرة الأوائل على مستوى المملكة، وسافر إلى بريطانيا، وفي الأشهر الأولى له، خضع لعملية جراحية كبيرة شهدت استئصال ثلثي رئته المصابة، وعلم من الجراح البريطاني، “مستر إيان هل”من هارلي ستريت في لندن، الذي أجراها أنها ستجدد نفسها بشكل تلقائي، وهو ما حدث بعد سنوات بالفعل.
عاد الشاب محمد الطريقي بعد إجراء الجراحة إلى الوطن سالمًا بعد نجاح رحلته الأولى من أجل علاج رئتيه، الرحلة التي امتدت 6 سنوات، والتي وصفها في كتابه بـ”أطول رحلة علاجية”، منذ قرر أن يصبح من العشرة الأوائل وهو في الصف السادس الابتدائي إلى أن ابتعث بالفعل. ثم بدأت الرحلة الثانية، رحلة دراسة الطب لعلاج آلام الآخرين بعدما علمته المعاناة كيف يشعر بغيره من المتعبين، لكن الأقدرا قادته إلى دراسة الهندسة الطبية وتقويم الأعضاء، وبدأ أولى خطواته نحو تخفيف المعاناة عن آلاف المعاقين، بعد رحلة دراسة انتهت بحصوله على الدكتوراه في الهندسة الطبية وتأهيل المعاقين من بريطانيا، أعقبتها مسيرة بدأت بعودته إلى المملكة عازمًا على النهوض بواقع المعاقين من أبناء وطنه والتخفيف عنهم، المسيرة التي شهدت تأسيس سلسلة من الكيانات والصروح المتخصصة في تأهيل وخدمة ذوي الإعاقة، والنهوض بواقعهم، وتقديم الدعم لهم، بل النهوض بواقع أبحاث الإعاقة والتشريعات الخاصة بتنظيم حصولهم على الخدمات الإنسانية المستحقة لهم، وهي مسيرة، على ما شهدته من عطاء، وعلى ما فتحته من طاقات أمل كبيرة، لم تخل من إخفاقات، وخيبات، من أعداء نجاح رحلة الرجل الشاقة التي لم يروا فيها إلا “كعكة الضوء” الذي سلط عليه بعد سلسلة نجاحات مدوية كانت موضع ثقة ولاة أمر البلاد الذين دعموا جهود الرجل، فحاز ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ودعْمِهما، رحمهما الله.
ولا تتوقف رسائل الأقدار في سيرة البروفيسور الطريقي عند التحديات الكبيرة التي واجهها، أو المفارقة بين معاناته وتسببها في رفع المعاناة عن الآخرين، بل امتدت تلك الرسائل إلى سيرة والده، رحمه الله، إذ تكشف وقائع السرد داخل السيرة عن وجه شبه عجيب بين سيرته وسيرة والده وملهمه، حتى إن القارئ على مدار العمل يجد نفسه يقرأ سيرتين متوازيتين، في سيرة واحدة، سيرة ابن تحول إلى ظل لوالده، ليس في صفاته وحسب، بل وفي أقداره أيضًا، ما يجعل من رحلة البروفيسور محمد الطريقي، الثرية المكتنزه بالقصص المبكية والمضحكة التي أضفت حس السخرية على بعض مناطق السرد فيها، رحلة الأقدار بامتياز.