ريشارد برشت.. الحب شعور فوضوي
بعد كتابه الفلسفي «من أكون وإن كان الأمر كذلك فكم» والذي كان الأكثر رواجاً عند نشره، ها هو ريشارد برشت يعود بكتاب فلسفي آخر حقق نجاح مشابه لما حققه سابقه. يعالج الكتاب أحد أكبر الألغاز البشرية ألا وهو الحب. ولا يضمن المؤلف كتابه ـ كما نجد في العديد من كتب مؤلفين آخرين ـ أية إشارات أو نصائح حول «المائدة» و «السرير» ولا يعطي أية شروحات لماذا لا ينصت الرجال جيدا ولا تجيد النساء ركن سياراتهن، فأكره ما يكره ريشارد برشت هو كتب من هذا القبيل، فهو يهدف إلى أبعد من ذلك حيث أنه يسعى إلى وضعنا أمام حقيقة أننا وبرغم تقدم علم الجينات والطب النفسي لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف إلا النذر القليل عن طرق التعامل مع الحب.
ونجد أن برشت يستميت في معارضة فكرة فرض النظام في الحب، كما أنه لا يحبذ الأمر عندما يطلع علينا علماء الوراثة بخبر اكتشافهم للجينات التي يفترض أن تكون هي المسؤولة عن تنظيم حياتنا العاطفية ولا عندما يطرح علماء النفس في الأسواق أدلة للنساء والرجال ألفوها بعدما وضعوا مختلف الفرضيات بخصوص التطور والارتقاء وقاموا بتصنيف حياتنا العاطفية على غرار الحياة العاطفية للإنسان الحجري والقردة. وزيادة على ذلك فهو يرى أنه من الخطأ أن يقوم أناس مثل فرويد باستنباط الحب من الحياة الجنسية. «إن الطبيعة لا تخضع لقوانين المنطق البشري حيث ينبغي أن تنبثق الأشياء تدريجياً عن بعضها البعض: الجنس والهوى والحب، ذلك أنه لا وجود في الطبيعة لخطة بالغة الإحكام تنطلق من الشهوة لتصل إلى الحب، ولكن الأمر يتعلق في الغالب بتركيب متقن أنشأه الإنسان لاحقًا انطلاقًا من حاجته إلى إضفاء صفة النظام على ما هو فوضوي في الطبيعة والثقافة». نجد أن الإنسان يضع تصورات عن ذاته وعن شريكه وعن الحب ويبني آمالاً كبيرة بخصوص ذلك ثم نجده يعيش في عالم معقد وسرعان ما يتعرض ذلك الشيء المسمى حبا إلى الفشل. ومن أهم ما يسهم في ذلك الفشل أن يجد ذلك الإنسان نفسه غير قادر على تحقيق تلك الصورة المثالية للحب الرومانسي بكل ما يحويه من حميمية العلاقة الجنسية والوله والاهتمام.
وتتجلى قوة الكاتب في اطلاعه على أحدث الأبحاث والدراسات البيولوجية والعصبية والنفسية المتعلقة بحالات الوقوع في الحب وكذا في قدرته على عرض ذلك بشكل مفهوم وواضح. ويصحبنا برشت من خلال كتابه هذا في رحلة مليئة بالمغامرات بين المباحث العلمية المختلفة حيث يقوم من خلال نقده الساخر للأجوبة الخاطئة أو السطحية التي يقدمها الباحثون في مجال الجينات والدماغ وعلماء النفس والاجتماع أو تلك التي تعج بها أدلة الحب لإرشاد القارئ وتوجيهه في خفة ظل وتجاوب منقطعي النظير عبر دهاليز الحب. الحب الذي نجد أنفسنا في نهاية المطاف مجبرين على الاعتياد على فوضويته. «لا بد أن تكون الأشياء قابلة للفشل حتى تكون قابلة للنجاح، والحب الذي هو أكثر ما يصبو إليه الإنسان خير دليل على ذلك، فالحب هو ذلك الشيء الخاص جدًا والذي لا نتوقع أبدًا لحظة وقوعه وهو أيضا ذلك الشيء الهش الذي يتهدده الفشل دوماً وأبداً، وإذا أزلنا عنه كل هذه الصفات فسرعان ما يصبح مملاً».
إن الكتاب يصبح أكثر تشويقاً عندما يبدأ برشت بالتفكير في حاضر ومستقبل الحب، ثم يضع أسئلة جديرة بأن تطرح: لماذا يشتد يوماً بعد يوم بحثنا اليائس عن الحب وتتضاءل يوماً بعد يوم حظوظنا في العثور عليه؟ لماذا يا ترى ليس بمقدوري أن أحب من أشاء؟ ولم نجهد أنفسنا بالجري وراء ذلك التصورالمثالي للأسرة الذي قلما أمكن تحقيقه في الواقع؟.
الكاتب
ريشارد دافيد برشت فيلسوف وصحافي ومؤلف ولد سنة ١٩٦٤ في مدينة زولنغن الألمانية. نال في سنة ١٩٩٤ شهادة الدكتوراة من جامعة كولونيا ومنذ ذلك الحين وهو يعمل مع معظم كبريات الجرائد وهيئات الإذاعة والتلفزيون الألمانية، كما حصل على منحة للعمل في جريدة شيكاغو تريبيون وحاز سنة ٢٠٠٠ على جائزة التأليف الصحافي في مجال الطب الحيوي. صدرت له روايتان وثلاثة كتب. يعيش ريشارد دافيد برشت متنقلاً بين كل من كولونيا ولوكسمبورغ.