سيد درويش.. فنان الشعب وشعلة الموسيقى التي انطفأت مبكرا
- ترك الدراسة بعد وفاه والده.. واشتغل في أعمال شاقة منها “حماّل” في محل لبيع الأثاث القديم و”عامل معمار”
- كان معتزا بفنه أشد الاعتزاز.. وكان يقول عن نفسه “أنا لست أقل من الموسيقار الإيطالي فيردي.. أنا فيردي العرب”
- العقاد: فضل سيد درويش على الموسيقى العربية أنه أدخل عنصر “البساطة” في التلحين والغناء
- توفيق الحكيم: إنه لأمر عجيب أن يكون رجل مثل درويش بثقافته البسيطة “صورة عليا للفن”
- باحث أكاديمي يطالب بإعادة فتح التحقيق في اغتيال درويش بـ”السم” عبر مؤامرة دبرها الاحتلال البريطاني
سيد درويش، الموسيقار المصري الأشهر، شعلة موسيقى انطفأت مبكرا، فقد عاش الرجل 31 عاما فقط، أنتج خلالها مئات الألحان الخالدة، وصار من أهم المجددين في الموسيقى العربية.
ترك درويش الدراسة مبكرا، فقد درس دراسة منتظمة لمدة عام واحد، ورغم تعليمه المتواضعة استطاع أن يحفر اسمه في تاريخ الفن العربي، بل صار أشهر من حملة الدكتوراه في مجال الموسيقى، وحاز بجدارة لقب “فنان الشعب”،
وُلِد السيد درويش البحر، وهذا هو اسمه الحقيقي، يوم 17 مارس 1892 في حيّ “كوم الدكة” بمدينة الإسكندرية، وهو حي شعبي متواضع يتوسط المدينة، ويقع على ربوة تجعل أهله في شبه عزلة عن أحياء الإسكندرية كلها، ذو أزقة ضيقة ودروب مظلمة وبيوت عتيقة تشير الى ما كان يعانيه سكانها من كفاح في سبيل الحياة.
وكانت أسرة درويش تعاني فقرا شديدا، إذ كان أبوه “درويش البحر” نجارا يكاد يجد قوت اسرته بصعوبة. ومع ذلك أراد الأب لابنه أن يسلك طريق العلم، وأن يلتحق بفئة “الأفندية” المتعلمين، ويصبح موجها دينيا أو معلما في المدارس الأهلية وقتها.
وبعد أن تعلم “سيد” القراءة والكتابة، وحفظ بعض أجزاء من القرآن الكريم في “كُتّاب” الحي، التحق بالمعهد الديني في الإسكندرية، تنفيذا لرغبة والده؛ وداوم على الدراسة في هذا المعهد سنة واحدة فقط توفّي خلالها الأب، ولم يخلّف له إلا بعض الديون والتزام بإعالة العائلة، فاضُطر إلى قطع دراسته، وراح يبحث عن عمل يعيش منه ويساعد أسرته الفقيرة.
وهكذا واجهت تلك العبقرية منذ نعومة أظفارها التحديات والمفاجآت التي كادت تهدد بالقضاء عليها في مهدها، لكن الشخصية الفذة التي كان يتمتع بها هذا الفنان جعلته قادراً على تحمل الصعاب ومواجهتها، فلم يكن يبالي أو يستنكف عن ممارسة أي عمل مهما كان نوعه، وربما كانت الحاجة الملحة تدفعه الى كسب قوته وقوت أسرته.
وكان أول عمل قام به هو “حماّل” في محل لبيع الأثاث القديم مع أحد أقاربه، ثم عمل مساعدًا لبائع دقيق، ثم صبيا لأحد “مُبيضي النحاس”، وهي مهنة قديمة اندثرت حاليا، ثم عامل معمار “مناولاً” في مجال البناء.
مطرب عمال البناء
تزوج درويش وهو في السادسة عشرة، ورّزق بطفل سماه “محمد البحر”، وصار مسؤولا عن عائلة أخرى، فضلا عن أسرته، فاشتغل عازف عود مع الفرق الموسيقية الصغيرة المتجولة في الإسكندرية، لكنه لم يوفق، فترك الفن مؤقتا إلى أعمال شتى أخرى.
وكان يهوى الغناء، ويترنّم خلال عمله الشاق في مجال المعمار بألحان قديمة معروفة، وكان زملاؤه من العمال يقبلون على عملهم بحماسة كبيرة أثناء سماعهم هذه الألحان، فسُرّ به المقاول، وأمره أن يكفّ عن العمل ويكتفي بالغناء فقط، وأصبحت هذه هي مهمته، فراح يغنّي طول نهاره للعمّال ويشجّعهم على عملهم، وعٌرف آنذاك بلقب “مطرب عمال البناء”.
وتصادف وجود الأخوين أمين وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن في تلك الفترة، في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به درويش، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال، وكانت هذه هي الانطلاقة الأولى سببا في شعوره بموهبته الفنية، فترك مهنة المعمار، وعمل مغنيا على المسارح الصغيرة، وكان يؤدي وصلة غنائية قصيرة بين فصول المسرحيات.
وذاعت أغاني درويش حتى وصل إلى مسامع رائد المسرح الغنائي المصري آنذاك سلامة حجازي، الذي حرص على زيارته في الإسكندرية والاستماع إليه شخصيا عام 1914، وأبدى إعجابه بأسلوب درويش في التلحين وتنبأ له بمستقبل كبير ثم عرض عليه الانتقال إلى العاصمة القاهرة للعمل معه.
وفي عام 1917 ترك درويش الإسكندرية للإقامة في القاهرة، وأحيا أولى حفلاته الغنائية في مقهى شهير كان يسمى “الكونكورديا”، وحضر الحفلة عدد من الفنّانين، منهم الممثلون والمطربون، بعد أن اشتهر الموسيقي الشاب بحلاوة الصوت وروعة الأداء. وفي هذه الحفلة، خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأغاني التي كانت تعتمد على “الآهات” التي ترددها الجوقة المصاحبة للمطرب، واختط لنفسه طريقا جديا في الموسيقى العربية أُطلق عليه فيما بعد اسم “الألحان التعبيرية”. وكانت هذه الطريقة غريبة على السمع المألوف وقتها، فانسحب أكثر الحاضرين استهجانًا لهذا اللون الموسيقي الجديد الذي اعتبروه خروجا على القواعد الفنية.
واشترك درويش مع الفرق التمثيلية ممثلا ومغنيا، فعمل مع فرقة “سليم عطا الله”، وسافر معها إلى سوريا ولبنان وفلسطين. وكان لهذه الرحلة أثر كبير في اكتسابه أصول الموسيقى العربية، إذ تتلمذ في مدينة “حلب” السورية على يد المطرب عثمان الموصلي.
ولمّا عاد الرجل إلى القاهرة، رسم لنفسه خطة جديدة في ميدان الغناء والمسرح، فلحن معظم أدواره وموشحاته التي عرّفت الناس بمدرسته الإبداعية الجديدة، واشتهرت أعماله شهرة كبيرة في سائر البلاد العربية وأصبحت المادة الثقافية الفنية لكل موسيقي.
انقلاب في عالم الموسيقى
لم يكن أثر سيد درويش في ميدان التّمثيل والأوبرا العربية بأقل من أثره في ميدان الموسيقى والموشح والدّور والطقطوقة والمونولوج الشعبي والأناشيد الوطنية وغيره من ألوان الغناء، فقد أضاف إلى هذه المآثر مأثرة جديدة وهي تلحين الأوبرا العربية، أولها “أوبرا شهرزاد” التي ظهرت للمرة الأولى في أواخر عام 1920 وأوائل العام 1921، وكانت بمثابة انقلاب في عالم الموسيقى العربية والألحان المسرحية. وكان الرجل معتزا بنفسه وبفنه أشد الاعتزاز، حيث أُثر عنه قوله “أنا لست أقل من فيردي (الموسيقار الإيطالي الشهير).. أنا فيردي العرب”!
كما لحّن أوبريت “العشرة الطيبة”، الذي ألّفه الأديب محمد تيمور ونظم أغانيه بديع خيري ومثله الفنان نجيب الريحاني وفقته، ولاقى نجاحا كبيرا، جعل من الموسيقار سيد درويش حديث الناس في كل مكان.
وكان هدف الموسيقى العربية قبل سيد درويش هو “التطّريب” فقط، ولكنه جعل منها مهنة أكبر وأسمى من ذلك، فقد استخدم هذا الفن في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي، بالإضافة إلى ناحية التّطريب في الموسيقى والغناء العربي، وكأنّه متخرّج في أرفع المعاهد الموسيقية.
وقال عنه الأديب الكبير عباس العقاد إن “فضْل سيد درويش على الموسيقى العربية أنه أدخل عنصر الحياة والبساطة في التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مثقلاً كجميع الفنون الأخرى بأوقار من أسجاعه وأوضاعه وتقاليده وبديعياته وجناساته التي لا صلة بينها وبين الحياة، فجاء هذا النابغة الملهم فناسب بين الألفاظ والمعاني، وناسب بين المعاني والألحان، وناسب بين الألحان والحالات النفسية التي تعبّر عنها، بحيث نسمع الصوت الذي يضعه ويلحنه ويغنيه فنحسب أن كلماته ومعانيه وأنغامه وخوالجه قد تزاوجت منذ القدم فلم تفترق قط ولم نعرف لها صحبة غير هذه الصحبة اللزام. ولم يكن الغناء الفني كذلك منذ عرفناه”.
وكانت لأغانيه الوطنية دور كبير في إشعال ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، حيث لحّن وغنّى لأول مرة قصيدة “بلادي بلادي” التي كتبها الشاعر محمد يونس القاضي، والتي أصبحت بعد ذلك نشيدًا وطنيًا للبلاد، وكان مطلع هذه القصيدة مقتبس من خطبة ألقاها الزعيم الوطني مصطفى كامل، وقال فيها “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. لك حياتي ووجودي”.
وكان الأديب توفيق الحكيم من أشد المعجبين بفن درويش، وتتبع خطاه في المسارح والمقاهي ليستمع إلى فنّه وليكتب عنه بعد ذلك قائلا كانت أغاني سيد درويش، وألحانه الشعبية تسري في الناس كسريان النار في الهشيم، ولكني ما كنت أرى منه أن هذا هو الذي يملؤه بالفخر. لقد كان تواقًا إلى الفن في صورته العلي، وأنه لأمر عجيب أن يكون رجل مثل سيد درويش بثقافته البسيطة صورة عليا للفن. إنني لا أعتقد أنه كان يتعمد التجديد قهرًا أو افتعالًا ولم أسمعه يتحدث في ذلك.. كما يتحدث أصحاب النظريات أو قادة النهضة، ولكن التجديد عنده فيما أرى كان شيئا متصلًا بفنه ممزوجًا به، لا حيلة له فيه، كان شيئًا يتدفق من ذات نفسه، كما يتدفق السيل الهابط من القمم، وكانت الألحان تنفجر منه كأنها تنفجر من ينبوع خفي”.
اغتيال “فنان الشعب”
رغم نجاحه الكبير، أدمن درويش تعاطي المخدرات، وخاصة مخدر “الكوكايين” الذي كان منتشرا وقتها، ولم يكن الناس يعتقدون أن له أضرارا، وللرجل أغنية مشهورة قال فيها صراحة: “شم الكوكايين خلاّني مسكين”، ونتيجة لذلك، تدهورت صحته يوما بعد يوم، حتى توفي بشكل مفاجئ يوم 10 سبتمبر عام 1923، عن 31 عاما فقطـ، وهز رحيله ربوع مصر كلها، نظرا لشهرته الواسعة، والدور الوطني الذي لعبنه أغانيه في المعترك السياسي العام.
وأثيرت أقاويل وشائعات بشأن وفاته المفاجئة، فقيل إنه مات مسموما بسبب خلافات شخصية مع أحد أصدقائه الذي دس له السم في الطعام، كما تردد أن البريطانيين كان لهم يد في ذلك، نظرا لدور درويش في إحياء الحس الوطني، وأغانيه المؤيدة لزعيم ثورة 19 سعد زغلول.
وقال المؤرخ الموسيقي محمود أحمد الحفني إن درويش “حُمل بسرعة إلى مثواه الأخير قبل أن بشعر أحد بموته ولم تحتفل بموكب تشييعه الدولة ولا الناس ولا الصحافة بل مضى خلسة في زمرة قليلة من المشيعين”.
وفي عام 2004، طالب باحث أكاديمي مصري بإعادة فتح ملف التحقيق في وفاة درويش بعد 81 عاما على وفاته، مرجحا “اغتياله وتصفيته جسديا” بسبب مواقفه السياسية التي أزعجت الاحتلال الإنجليزي.
وقال الدكتور هاني الحلواني، أستاذ السيناريو بمعهد السينما في القاهرة، إن “هناك قرائن جديدة “تشير الى اغتيال درويش وتصفيته جسديا بسبب اندماجه في الحركة الوطنية المصرية، حتى حصل على لقب فنان الشعب”، مشيرا إلى أن “بعض أغانيه كانت تتحول الى منشور سياسي غنائي أجبر سلطات الاحتلال الانجليزي والقصر على مطاردة كل من يتغنى بها، لذلك فمن المرجح اغتياله بالسم من خلال مؤامرة تورط فيها أحد أصدقاء درويش”.
واستعرض الباحث صدام درويش بالاحتلال البريطاني في سنواته الأخيرة بدءا من عام 1919، حيث أثبت أن بديع خيري كتب للموسيقار الراحل “أغان حماسية تعبر عن روح الثورة”، وأراد أن يطبعها في كتاب، لكن وزارة الداخلية منعت ذلك، وهو ما يؤكد أن الرجل مات اغتيالا.