الطين مادة طبيعية تستخرج من التربة المنتشرة بشكل واسع على سطح الأرض ، وقد يرجع البناء بها الى القرن التاسع قبل الميلاد، حيث اكتشف في عام ٢٠٠٦م حائط من الطين في سوريا يرجع تاريخه إلى هذا العهد. واستخدم الطين في الجزيرة العربية في أنحائها المختلفة منذ القدم وتركت الأجيال المتعاقبة من سكانها أمثلة رائعة للبناء بالطين، تعتبر اليوم أعمال نموذجية للمحافظة على البيئة ومراعاة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية.
من هنا، يقوم المهندسون المعماريون بإعادة النظر في المباني القديمة المبنية من الطين، والتي لاتزال قائمة في بعض المدن، ودراسة ما تتميز به من هندسة معمارية طينية فريدة تتلاءم مع حرارة الصيف وبرودة الشتاء، هذه المباني المبنية من الطين جيدة بشكلٍ ملحوظٍ في إبقائنا باردين خلال الصيف ودافئين خلال الشتاء، كما تتحمل الطقس القاسي أيضًا.
من أجل مناخ أفضل
يؤكد العلماء أن تبديل الخرسانة بمواد أقل تلويثًا للمناخ أمر بالغ الأهمية لتحقيق الأهداف المناخية، فالخرسانة، وهي عنصر أساسي في البناء الحديث، لها بصمة كربونية هائلة؛ إذ يمثل البناء بالخرسانة حوالي 7% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، بينما تساهم حركة الطيران العالمية مثلًا بحوالي 2.5% من الانبعاثات.
يُنتج العالم سنويًا 4 مليارات طن من الأسمنت، المكوِّن الرئيس للخرسانة، وإذا نظرت لأي مصنع إنتاج أسمنت سترى مدى ضخامة الانبعاثات الخارجة منه. من هنا، لا يمكن للبشر الاستمرار في العيش في هذه المدن الخرسانية، وسيكون عليهم الأخذ في الاعتبار البيئة والمناخ والتنوع البيولوجي على كوكب الأرض؛ الأمر الذي يدفعنا تلقائيًّا نحو الطين، البديل المستدام المثالي للخرسانة، فالبناء بالطين له تأثير ضئيل للغاية في البيئة والمواد نفسها قابلة لإعادة التدوير بالكامل.
مميزات الطين
يرى البعض أن الطين هو بطل البناء المستدام في المستقبل، فهو المادة الوحيدة التي يمكننا إعادة تدويرها بقدر ما نحب، دون استخدام أي طاقة؛ بل إنه يتحسن ويصبح أفضل كلما استخدمته أكثر، بعكس الخرسانة التي يصعب إعادة استخدامها وتستنزف مع أول استخدام، الأمر هنا يشبه استخدام العجين، الذي يتغير ويستجيب لأي شيء تقوم به.
من أفضل صفات المباني الطينية أنها دافئة في الشتاء وباردة في الصيف؛ فالجدران الطينية لها كتلة حرارية عالية ما يعني أنها تمتص الحرارة ببطء وتخزنها، مما يمنع المنزل من أن يصبح شديد الحرارة، ويعني بالتبعية، خفض الحاجة إلى استخدام تكييفات الهواء، والتي تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء وتحتوي على المبردات التي تسبب انبعاثات قوية من غازات الاحتباس الحراري.
بالمقارنة مع المباني المشيدة من الخرسانة أو المعدن، تحافظ المباني المبنية من الطوب اللَّبِن على درجات حرارة داخلية مستقرة نسبيًّا خلال فترة 24 ساعة، وبالتالي تزود السكان براحة حرارية فائقة. ومن المزايا الإضافية أن جدران الطوب اللبن السميكة تقلل أيضًا من مستويات الضوضاء الصادرة من الخارج أو من المنزل المجاور.
أضف إلى هذا أن الطين له طبيعة يمكننا أن نصفها بأنها قابلة للتنفس؛ فالطين مسامي ويسمح للرطوبة بالدخول إلى المنزل، مما يحسن جودة الهواء الداخلي؛ إذ يتمتع الطين بالقدرة على امتصاص الرطوبة الزائدة من الهواء وإطلاقها، إذا لزم الأمر، ولهذا نقول إن هذه المنازل «تتنفس»، وبالتالي هي منازل أكثر صحية.
كما أن هياكل الطين قوية بشكلٍ لا يصدق ومقاوِمة للطقس القاسي، مثل موجات الحر والفيضانات والجفاف؛ كما أن العمارة الطينية يمكن أن تصمد أمام الأحداث الشديدة مثل الزلازل والرياح العاتية بسبب قدرة هيكلها على توزيع الحمولة التي تواجهها على سطحها، على عكس الخرسانة أو الأسمنت، مع ملاحظة أن مقاومة المباني الطينية للزلازل تعتمد على شدة الموجات الزلزالية والتربة التي بنيت فيها.
صنعاء القديمة.. وناطحات السحاب الطينية
إذا سافرت إلى مدينة صنعاء القديمة، ستلاحظ وجود بنايات عالية ترتفع في المدينة، لكنها ليست مبنية من الأسمنت والحديد، بل هي أبنية طينية بُنيت بالكامل من الأرض الصخرية ومزينة بأنماط هندسية مذهلة، لدرجة يمكن تشبيهها بناطحات سحاب طينية. تمتزج هذه المباني الطينية مع الجبال القريبة لتعكس صورة رائعة للمكان.
وتعتبر الهندسة المعمارية الطينية في صنعاء فريدة من نوعها لدرجة أن المدينة أُعلنت موقع للتراث العالمي لليونسكو، التي قالت في وصفها لمدينة صنعاء «مثال بارز على مجموعة معمارية متجانسة تعكس الخصائص المكانية للسنوات الأولى للإسلام، تتمتع المدينة في مناظرها الطبيعية بجودةٍ فنيةٍ وتصويرية غير عادية. تظهر المباني براعة استثنائية في استخدام المواد والتقنيات المحلية».
على الرغم من أن هذه المباني مصنوعة من مكونات محلية، فإنها استطاعت الصمود لآلاف السنين، بل إنها لا تزال تبدو معاصرة بشكلٍ لا يصدق، فبعكس المباني القديمة في كثيرٍ من دول العالم، لا تزال المباني القديمة في صنعاء مأهولةً بالسكان حتى اليوم، ولا يزال معظمها يمثل مساكن خاصة.
تتميز تلك المباني المصنوعة من الطين والحجارة بأنها معزولة جيدًا ومستدامة وقابلة للتكيف للغاية للاستخدام الحديث، وهذا هو ما يبحث عنه المهندسون في الوقت الحالي.
واحة سيوة.. عمارة الطين والملح
في وسط الصحراء الغربية لمصر، تقبع واحة منعزلة على ارتفاع ينخفض بمقدار 25 مترًا تحت مستوى سطح البحر. في هذه الواحة المنعزلة، يسكن مجتمع فريد بثقافته وتقاليده ولهجته ومعتقداته المميزة، والأهم من هذا كله هو ذاك النمط الفريد في العمارة المعتمد على الطين والملح.
في الجانب الشرقي للواحة تتواجد تلك البحيرات المالحة التي توفر العديد من الوظائف ليس فقط العلاجية، بل اكتشف أهالي سيوة في البحيرات هدية طبيعية استخدموها في بناء مساكنهم التقليدية. الملح الموجود في هذه المنطقة يتكون من طبقتين: الملح الأبيض أو الوردي وهو ملح الطعام التقليدي، وهو مغطى بطبقة واقية خارجية تسمى «كرشيف» التي تتكون من بلورات الملح المحتوية على شوائب من الرمل والطين نتيجة التأثيرات البيئية مما يجعلها تكتسب لونًا بنيًّا.
بعد استخلاص الكرشيف من البحيرات يضاف إلى الطين المستخدم في مواد البناء ليمنح البيوت هناك مميزات رائعة؛ تُبنى المنازل في سيوة باستخدام خليط من الطين والرمل والحجر الجيري وبلورات الملح وجزيئات الخشب والمعادن. يعمل هذا الخليط ملاطًا لربط كتل الطوب المكون من الكرشيف والطين، وطبقة تشطيب خارجية وداخلية للجدران؛ يمنح الملح في هذا الخليط بنية قوية ومتجانسة للحوائط.
هذا النوع من البناء يخلق كتلة حرارية عالية تعزل المبنى الداخلي عن الظروف الجوية الخارجية، مما يجعله باردًا في الصيف ودافئًا في الشتاء، كما يعمل مكيف هواء طبيعي في الظروف المناخية القاسية للواحة في الصحراء، لذلك استمر السكان المحليون في استخدام هذه المواد حتى العصر الحديث.
مدينة دجيني.. والمسجد الأشهر في مالي
تقع مدينة دجيني في منطقة دلتا النيجر بوسط مالي، تشتهر المدينة بهندستها المعمارية الطينية الرائعة، خاصةً مسجدها الكبير الذي يعد أكبر مبنى طيني في العالم، حيث يبلغ ارتفاعه حوالي 20 مترًا وهو مبني على منصة يبلغ طولها 91 مترًا. يجتمع سكانها كل سنة معًا لإصلاح وإعادة بناء المسجد، تحت إشراف نقابة من كبار البنائين. يحظى هؤلاء البناة الرئيسون بالتبجيل لخبرتهم وفنونهم في المجتمع المالي، إذ يُعرف هؤلاء البناة بقدراتهم الخارقة في جلب عناصر الحماية للمباني والأشخاص الذين يعيشون هناك.
أحد المظاهر المهمة في دجيني, هو إعادة طلاء المسجد بالطين الذي يمثل رمزًا مهمًّا للتماسك الاجتماعي هناك؛ فالكل يشارك في هذه العملية من فتيان وفتيات يخلطون الطين، ونساء يجلبن الماء، وبناؤون يقومون بالمهمة. المميز في هذه المدينة هو عملية تغير الهندسة المعمارية الطينية باستمرار، إذ يستخدم السكان الطين لإصلاح وإعادة بناء منازلهم بشكلٍ ديناميكي.
السر في هذا يعود إلى أن الطين مرن للغاية، ويستجيب للتغيرات الديموغرافية للمنزل؛ فإذا كبرت الأسرة، يمكن بسهولة إضافة مباني أو غرف إلى المنزل، وإذا تقلصت الأسرة، تترك المباني لتتحلل وتعود إلى التربة.
شمال الهند.. حيث أقدم مبنى في البلاد
في شمال الهند, يمكنك إلقاء نظرة على المباني الترابية المصنوعة من مادة بناء طبيعية تسمى «كوب – cob»، وهي عبارة عن مزيج من التربة الخام والماء والمواد الليفية مثل القش، وتتمتع بشهرةٍ عالميةٍ لعدة قرون؛ ستجد أن هذه كانت مادة رئيسة في بناء البيوت سواءً على ضفاف نهر النيل في مصر أم جبال الأنديز في بيرو أم على قمة التبت. لاتزال هذه المادة مستخدمةً في العصر الحديث الذي يعيش فيه أكثر من 1.7 مليارات شخص في جميع أنحاء العالم في منازل ترابية.
أحد مميزات هذه البيوت أنها موفرة للطاقة؛ فمن المعروف أن الجدران المبنية بهذه المادة تتمتع بكتلة حرارية جيدة، وعندما تدمج مع أسقف من القش أو أنواع بلاط معينة، فإنها تجعل من الداخل معزولًا جيدًا حتى في أكثر البيئات برودة.
مشروع مسكن الصحراء
هذا المشروع صممه ونفذه مكتب DUST الأمريكي، وهو عبارة عن مسكن تم بناءه في وسط صحراء أريزونا، وهو ذو عمارة حديثة. التصميم هنا يحاول أن يعالج عدد من المشاكل الاقتصادية والبيئية من خلال توجيه المبنى لتوفير التهوية الطبيعية، وتجنب أشعة الشمس المباشرة في فصل الصيف بحيث يحافظ المبنى على درجة حرارة مقبولة داخل فراغاته، كما تم إستخدام المواد المتوفرة في الموقع (الطين والماء والبحص) وبذلك يمكن التوفير في تكلفة النقل.