الدكتور أحمد عبد العال هو مؤسس مدرسة “الواحد”، في الفن التشكيلي، وهي مدرسة تنطلق من رؤية كلية للفن وتأطره في الرؤية توحيدية، فالفن في مدرسة الواحد يتجه بألوانه ورسومه وجماله إلى جلال الواحد الديان، وله رسالة تتجاوز القول العتيق “الفن للفن” فالفن والفنان -عند رائد مدرسة الواحد- هما لله وخدمة رسالة الإسلام، بكل ما فيها من فناء في الحق وحياة للحق؛ يقول عبد العال في بيانه (الرؤية والتجربة): “أجد في عملي التشكيلي كل الذي يتوقعه الإنسان من الفن، لكني لا أجد فيه تمامًا ما اتفق الناس عليه باسم “المتعة”! وعلى هذا فالمتعة في أعمق حالاتها عندي هي طرف قريب وبداية سرعان ما تتحول إلى مجال يتسع باضطراد، فيه ما فيه من الإدراك والتساؤلات والمقارنات، وفيه أيضًا من التحقق الفردي قدر أساسي”.
قبل ظهور عبد العال الذي رحل عن دنيانا يوم الخميس 23 أكتوبر 2008م، كان الفن التشكيلي حكرًا على اليساريين، حتى أصبح من المسلمات الفكرية الكبرى، أن الدين يحارب الإبداع ويجافيه، وشرط الفنان أن يكون مجافياً للدين وعُرف المجتمع، في مظهره وسمته وسلوكه، فلما ظهر عبد العال، أعاد الأناقة الإسلامية للفنان التشكيلي، وأضحى رمزًا للفن التشكيلي الراقي، وقد تحققت الرسالة؛ إذ اقتربت الذائقة السودانية المتدينة خطوات من الفن بعدما اختلط في مخيلتها العامة طويلاً بالوثنية الغليظة والعري الفاحش والجرأة التي لا تعرف الحياء.
ولد الدكتور أحمد إبراهيم عبد العال، في 4 يوليو 1946م، بمدينة كسلا شرقي السودان، درس عبد العال الجامعة بالسودان، ونال درجة الماجستير في الحضارة الإسلامية من جامعة بوردو بفرنسا برسالة (الحرف العربي، الخلفيات الروحية والجمالية) في 1983م، ثم من ذات الجامعة نال الدكتوراه بدرجة الشرف العليا في علم الجمال برسالة متخصصة في (المبادئ والأصول الجـمالية في الحضارة الإسلامية، دراسة في فكر الشيخ ابن عربي) في العام 1988م، كما نال دبلوما من معهد فيشي للغات الحديثة بفرنسا 1981م.
تولى عبد العال عددًا من المناصب المهمة، فقد تولى منصب عميد كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، ومنصب مدير إدارة التصميم الفني بوزارة الشباب والرياضة السودانية، ومنصب الأمين العام للهيئة القومية للثقافة والفنون ومنصب عميد المعهد العالي للموسـيقي والمسـرح “تكليف من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي”.
أقام عبد العال أكثر من (45) معرضًا تشكيليًّا، في السودان ولبنان، وألمانيا وفرنسا، وقطر، والإمارات والكويت ومصر وإيران.
قام في الفترة من 1970م – 2005م بتصميم أكثر من 150 شعارًا لمناسبات ولمؤسسات رسـمية وشعبية مختلفة، ومن هذه الشعارات: شعار مؤتمر التصوف في السودان، شعار تلفزيون جمهورية السودان، شعار الاتحاد النسائي الإسلامي العالمي، وتصميم الأوراق الـنقـدية للـعملة السودانية الـجديدة.
توجد مجموعة من أعماله ضمن مجموعات: الأميرة وجدان علي – المتحف الملكي بالأردن، مبنى منظمة الوحدة الإفريقية بأديس أبابا، متحف الفن العربي الحديث بدولة قطر، متحف الشارقة للفنون التشكيلية، المجلس الوطني بالسودان، المتحف البريطاني بلندن.
وقد أنجز عبد العال أواخر أيامه خط “البردة” ردًّا على الرسومة المسيئة للنبي الكريم، حيث تصطف الحروف رأسيًّا في حالة جهادية واضحة.
ونال عبد العال عدد من الجوائز والأوسمة منها: وسام الجمهورية للجدارة – السودان (1975)، الميدالية الذهبية لرواد الفنون التشكيلية العرب في القرن العشرين 1999، وسام الجدارة، إيران 2002، وسام الجدارة للجمهورية، السودان 2003. وقد كساه الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي “بردة” خادم القرآن.
على أثر دراسته الأكاديمية للفن الإسلامي وإنجاز رسالته للدكتوراه في جماليات الحضارة الإسلامية بوصفها حضارة توحيدية كونية، دعا عبد العال إلى تأسيسٍ جمالي جديد، يستفيد من الإمكانيات الجمالية والفكرية للحضارة الإسلامية وتجربتها التاريخية، التي امتدت عبر بيئات طبيعية وأمزجة قومية مختلفة مفضية إلى ضمير جمالي منسجم، وهذا التأسيس الجمالي هو البديل الإسلامي أو المشارك الإسلامي في مجال الفن التشكيلي، وقد أصدر عبد العال بيان هذه المدرسة في 1989م، للتعريف بـ”مدرسة الواحد”.
لهذه المدرسة مبادئ أساسية في نظرتها للفن وإنتاجها له وتقييمها للمخرج الجمالي؛ منها “التوحيدية”، وهي الفلسفة التي تحكم عمل عبد العال، فهو يستمد وجوده المادي من هذه التوحيدية، وتمام اللحظة المبدعة عنده، يكون عندما يتحقق التلازم بين الذات والموضوع، يقول: “وجودي وإنتاج عملي هما عمليتان متساندتان في تلازم، وأعني بوجودي الشروط الحياتية والروحية كافة واستقرارها في العمل الجمالي.. في التلوين أو النحت أو التصميم أو النص الإبداعي في الكتابة… وراء هذه المكابدة أجد شيئًا من رضا السعي نحو قدر من الـتـوازن بـيـن الخيال الـموضوعي وبين إرادتي، وإلحاحي علي تحقيق صورة “العمل” عـبر الوسـائط من ألوان وخامات أخرى، وكلمات وحروف”.
ويسعى إلى تكوين صورة فنية، يتوحد فيها الزمان والوعي، عبر استشراف آفاق التفكر، ومسيرة عبر مدارات الجمال فـ”المسعى التوحيدي في الفنون هو أن يتحول الزمان بأبعاده الثلاثة المعلومة من ماضٍ وحاضر ومستقبل إلى زمن واحد، إلى طاقة حية هي من محمولات الصورة بمعناها الأوسع وهي طاقة بطبيعتها تطلب الاتصال بوعي الآخرين بل تطلب أيضا الاتصال بوعي الفنان نفسه؛ لأنه يفعل هذه الطاقة الحية وحدها يتاح للفنان القدر الأعمق من تطوره”.
ومنها أيضا “لقاء الصورة والحرف” ظهرت هذه الخصيصة بوضوح في كتابه الرئيسي “أمشاج”، حيث تلتقي فيه “العلامة بالصورة في مستويات متعددة… بعد كل ميلاد لحرف تتخلق صورة في مجال حيوي، فيقع هذا الالتحام التوحيدي على معيار وقدرة في الخط واللون والتصميم وفي التماهي الولود الذي يستظل بالمنطق التصويري في هذه الأعمال”… وإذا ما تبقى شيء من حرف أو كتابة عربية تجاور “الصورة” أو تتخللها فتلك إشارة لهيولى الكتابة والحرف، وأبعد من ذلك، هي إشارة للسقف الوحيوي الأعلى لجمالية “الوجود/الكتاب”.
اكتملت مسيرة عبد العال الروحية، في العام 2002م، يوم قُلد شارة مشيخة الطريقة القادرية الصوفية بجبال الفاو، جنوب شرق العاصمة السودانية الخرطوم، وهي لحظة فاصلة بين مسيرة طويلة في السلوك والترقي الصوفي، بدأها عبد العال بتخصيص أطروحته لنيل شهادة الدكتورة في علـم الجمال (في المبادئ والأصول الجـمالية في الــحضارة الإسلامية، دراســة في فكر الشيخ ابن عربي) في جامعة بوردو بفرنسا، وقد عاش طوال فترة الدكتوراه (1983-1988)، مستلهما الفكر الصوفي عند ابن عربي، ويرى عبد العال أن تجربته الفنية هي بمعنى من المعاني تحمل روح العبادة، ولا مكان فيها للبطر والكبرياء؛ لأن “ثمة إملاء فكري هو الحاكم على الأداء التشكيلي في تجربتي، الأمر الذي يجعلني لا أرى فيها مخايل زينة أو تزيين أو حلية لطيفة لمساحة في المكان أو في الزمان، ظلت قناعتي تطرد نحو استلهام جديد لجوهر التجربة التاريخية للحضارة العربية الإسلامية بوصف أن هذه الحضارة هي آخر حضارة أقامها الناس على الكتاب الخاتم وعلى تـمظهر الوحي الكريـم في الحـيـاة الـنـبـوية الـشـريفة، وما تـلا ذلك –عبر قرون– من بناءات روحية وفكرية وعلمية وأدبية”.
وقد بدا ذلك واضحًا في تجاربه كلها، حتى قال الناقد العربي عمران القيسي، كما هو منشور في موقع ديوان الفنون: “أحمد عبد العال.. يتقدم قامة فارهة من قامات التعبيرية العربية المعاصرة، معلنًا ولاءه المطلق لتراثه الإسلامي بكل ما يحمل من آفاق عرفانية وتجليات ذاتية، نحن أمام مفكر يرسم وليس أمام رسام يفكر”.
يوجز عبد العال رسالته في (أنه لا قيمة لتعبير فني دون مدلول حضاري)، ويسعى لتمثّل عالم اليوم بأبعاده كافة وبمجريات أحداثه وشئونه “توحيديًّا” في صورة العمل.
وإن أفكاره وأعماله وتجاربه منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم لتفسير البيان الأساس “لمدرسة الواحد وغاية ما يبتغيه عبد العال من وراء ذلك كله هو استكشاف القدرة على إنجاز جمالي يعبر عن الذات المسلمة، ويقول الدكتور أحمد عبد العال”، وهو أمر يظل أيضًا على ارتباط بوعي هذه الذات برسالتها وبوجودها تاريخًا وحاضرًا ومستقبلاً، وهو أمر يظل أيضًا على ارتباط بقدرة هذه الذات على تجديد منطقها الحضاري والثقافي اليوم وغداً”.
ومضى عبد العال إلى ربه فقيرًا إليه بعد أن أغنى الحياة السودانية بفنه وعلمه، وتدينه وستبقى جدارياته القرآنية في العاصمة السودانية شاهدة على ريادته الإسلامية للفن التشكيلي وقدرة الفنان صناعة الحياة على طريقته الخاصة.
وليد الطيب
نقلا عن إسلام أون لاين