كثيرون منا نحن المصريون والعرب أصبح يعرف ليفربول بوجود اللاعب المصري محمد صلاح في فريقها لكرة القدم، لكن الذي لا يعرفه الكثيرون منا، هو أن ليفربول كانت موطنا لقصة تأسيس أول مجتمع للمسلمين البريطانيين، وأعني هنا المسلمين الذين اختاروا الإسلام طواعية وليس ميراثا من والديهم، وهي قصة بدأت فصولها من عيد الكريسماس لعام 1889، أي منذ أكثر من 133 عام، عندما اختار عبد الله كويليام Abdullah Quilliam (أحد أوائل البريطانيين الذين تحولوا للإسلام في العصر الحديث) البناية المعروفة باسم “بروجام تراس” وتحديدا تلك التي تحمل رقم 8، ليؤسس فيها أول مسجد معروف في تاريخ بريطانيا.
Table of Contents
قصة إسلام عبد الله كويليام
لكن هذا التاريخ له ما قبله وما بعده، في حياة ويليام هنري كويليام (10 أبريل 1856 – 23 أبريل 1932)، والذي صار يعرف باسم “عبد الله كويليام” منذ إسلامه عام 1887، فمن هو عبد الله كويليام؟ وما هي قصته وقصة مجتمع المسلمين الذي كان له الفضل – بعد الله – في تأسيسه؟
عبد الله كويليام، هو ابن لأسرة ميسورة تنتمي لأحد تفريعات الكنيسة الميثودية في مدينة ليفربول، عمل منذ عام 1878 محاميا جنائيا كما عمل صحفيا في المدينة، كما كان جيولوجيا مرموقا، وكان من مؤيدي ما يسمى بحركة الاعتدال the temperance movement، وهي حركة اجتماعية بريطانية قامت بحملة ضد بيع الكحوليات وحضت على الامتناع التام عن تعاطيه، باعتباره خطرا على رفاهية المجتمع، مما يؤدي إلى قضايا اجتماعية مثل الفقر إهمال الأطفال والفساد والتدهور الاقتصادي، وهي أمور عاينها كويليام بنفسه وهو يعمل محاميا جنائيا في ليفربول، وقد كانت من أكثر المدن البريطانية الموبوءة بكل تلك الأمراض الاجتماعية/ الاقتصادية بسبب التباين الشديد لدى سكانها بين الثراء الشديد والفقر المدقع، وقد صار كويليام بعد ذلك واحدا من خطباء الحركة المفوهين الداعين والمدافعين عن مبادئها.
عبد الله كويليام والسفر إلى فرنسا
وفي عام 1882، ونتيجة الإرهاق من ضغط العمل، سافر كويليام إلى فرنسا للاستجمام، ومنها سافر إلى الجزائر والمغرب، وفي المغرب اعتنق الإسلام في سن الواحد والثلاثين، وعاد مسلما إلى ليفربول عام 1887. وهناك، في ليفربول، بدأ كويليام سلسلة من الأعمال الرائدة في تاريخ الإسلام والمسلمين في بريطانيا:
– تأسيس أول مسجد معروف في بريطانيا:
حيث بنى كويليام مصلى للمسلمين الذين وصل عددهم بعد خمس سنوات لما يقارب 250 مسلم بريطاني، وهو المصلى الذي عرف باسم “مسجد ليفربول”، وفيه تكونت نواة أول مجتمع للمسلمين في البلاد. ومن شرفات بناية ذلك المسجد كان يصدح المؤذن بالآذان لأول مرة في بريطانيا باللغتين العربية والإنجليزية (حتى يفهم السكان ماهية ما يقال).
– تأسيس أول معهد لتعليم الإسلام في بريطانيا:
والذي حمل اسم معهد مسلمي ليفربول Liverpool Muslim Institute وبه قاعة محاضرات، ومكتبة وقاعة للمطالعة، ومتحف، ومعمل للعلوم، وهناك تم تنظيم دروس للمسلمين وغير المسلمين. كما أسس الكلية الإسلامية Muslim College، وهي جمعية للمناظرات الأسبوعية.
– تأسيس أول صحيفة إسلامية في بريطانيا:
وهي صحيفة “ذا كريسنت The Crescent” والتي صدرت أسبوعية بانتظام من يناير 1893 حتى مايو 1908، الصحيفة التي كانت تطبع في مطبعة بنفس المباني التي استأجرها كويليام للمسجد والمعهد كانت سجلا أسبوعيا للإسلام في إنجلترا والجزر البريطانية، وهي بذلك أول وأقدم إصدار منتظم يعكس ويخدم أوائل من اعتنقوا الإسلام في بريطانيا. وإضافة لآلاف النسخ التي وزعت من الصحيفة في الجزر البريطانية، فقد حظيت بألاف المشتركين في العديد من بلدان العالم المسلم ومنه وغير المسلم في معظم قارات العالم. صحيفة “ذا كريسنت” هذه كانت تطورا لمجلة شهرية سبقتها حملت اسم “ذا إسلاميك وورلد The Islamic World”، والتي أصدرها كويليام منذ عام 1889. وقد جرت محاولتين لإعادة إصدار الصحيفة بنفس الاسم، أولاهما كانت عام 2003، لكنها فشلت بسبب عبء نفقات طباعة وتوزيع الصحيفة. كما تمت محاولة لإحيائها كموقع إلكتروني من عام 2021.
– أول مدرسة:
حيث افتتح مدرسة داخلية للبنين، وأخرى نهارية للبنات من الأطفال غير الشرعيين، الذي لم يستطع آباؤهم رعايتهم، وقد عرفت تلك المدرسة باسم “دار المدينة Medina House”.
– أول كتاب للتعريف بالإسلام يكتبه بريطاني مسلم: والذي حمل اسم “الإيمان الإسلامي The Faith of Islam” وطبعت منه 2000 نسخة عام 1889، و3000 نسخة عام 1890، وقد ترجم الكتاب لاحقا إلى 13 لغة، كما ألف كتابا للأناشيد الإسلامية باللغة الإنجليزية.
– اعتناق عدد من الأعيان للإسلام:
بفضل الجهود الدعوية لعبد الله كويليام، تأسس كما قلنا مجتمع يزيد عن 250 من المسلمين البريطانيين ويصل البعض بالرقم إلى 500، وقد تمثل في هذا المجتمع جميع الطبقات، شمل عددا من الأعيان في زمانهم، كان من بينهم البروفيسور نصر الله وارين، والبروفيسور هاشم وايلد، إضافة إلى روبرت رشيد ستانلي، أحد قضاء الصلح المعينين من قبل التاج البريطاني، والذي عمل كعمدة سابق لبلدة ستاليبريدج، إحدى بلدات مانشستر. كما ضم هذا المجتمع واحدة من أوائل النساء البريطانيات اللائي اعتنقن الإسلام وهي فاطمة إليزابيث كيتس، والتي عملت كأمين صندوق في مشاريع كويليام، وكانت أيضا من مناصري حركة الاعتدال قبل إسلامها. كما شمل ذلك المجتمع مايكل هول، وهو واعظ ميثودي سابق، اعتنق الإسلام عام 1891، والذي توفي لاحقا وأقيمت له أول مراسم دفن إسلامي في ليفربول.
التعرض للأذى
لم يسلم هذا المجتمع البريطاني المسلم الصغير من الأذى، تماما كما تعرض مجتمع المسلمين الوليد في مكة للأذى. وشمل هذا الأذى، الأذى اللفظي، والبدني متمثلا في قذف الحجارة والطين والروث، والخضروات الفاسدة، وتكسير نوافذ المسجد والمعهد وتلطيخهم، والتهديد بحرق كويليام حيا. وهو الأذى الذي تعرض له معظم أفراد ذلك المجتمع. وكان من بين الأذى المعنوي الذي تعرض له المسلمون في ذلك المجتمع هو عرض مسرحية مسيئة للرسول ماهوميت Mahomet، وهو الاسم المسيء الذي اعتاد الغربيون إطلاقه على الرسول، وقد استدعت المسرحية أن ينظم كويليام احتجاجات ضد عرضها عام 1890.
سفريات وتكريمات عبد الله كويليام
سافر كويليام كثيرا، ونال العديد من التكريمات من قادة العالم الإسلامي. حيث منح السلطان عبد الحميد الثاني، الخليفة العثماني السادس والعشرون، كويليام لقب شيخ الإسلام للجزر البريطانية. كما اعترف به أمير أفغانستان باعتباره شيخ المسلمين في بريطانيا كما منحه ولي العهد الأفغاني نصر الله خان تبرعا كبيرا بمعايير ذلك الزمان ساعده في تأسيس مشروعاته، وفضلا عن ذلك فقد عينه الشاه نائباً للقنصل الفارسي في ليفربول. وكان كويليام كذلك على اتصال بمسلمي غرب إفريقيا الناطقين باللغة الإنجليزية وقام بجولة في المدن الساحلية في المنطقة في طريقه إلى لاغوس لحضور تأسيس مسجد شيتا باي في عام 1894.
مواقف سياسية
كانت لعبد الله كويليام مواقفه ضد السياسات الخارجية للإمبراطورية البريطانية، ومنها موقفه حملتها ضد المسلمين ممثلين في السلطة العثمانية، حيث استغل فرصة وجود رئيس الوزراء البريطانية ويليام جلادستون لليفربول وإلقائه خطابا يقول فيه إن بريطانيا سوف تتخذ إجراءات ضد الدولة العثمانية بسبب موقفها من الأرمن، ليلقي خطابا مضادا متهما الحكومة بازدواجية المعايير، فعندما يلقي أرمني قنبلة في شوارع إسطنبول ويقتل النساء والأطفال يعتبر بطلا قوميا، أنا إذا قاتل الأفغاني في ممر خيبر من أجل وطنه فيعتبر خائنا ومتمردا. كما هاجم مشاركة المسلمين من أهل المستعمرات البريطانية في الحرب في السودان ضد إخوانهم من المسلمين. وقد توترت علاقة كويليام بالصحافة البريطانية بسبب مشاركاته النقدية بالرسائل في المواقف المختلفة، معبرا عن آراء لم تكن ترق للمزاج البريطاني العام حينها.
كغيرها من التجارب البشرية، لم تكن تجربة المجتمع البريطاني المسلم في ليفربول مثالية، فقد شابتها بعض العيوب، وتعرضت للانتقادات خاصة من بعض من زاروا ليفربول في سنوات التجربة، وإذا كان عبد الله كويليام قد استطاع قيادة المجتمع الأول لتحقيق الإنجازات السابق ذكرها، فقد كان لنمط قيادته دورا في تلاشي المجتمع، وذلك عندما سافر كويليام لعدة سنوات من عام 1908 حتى عام 1914، فكان أن أغلق المسجد، وتفرق المجتمع، فعندما غادر كويليام بريطانيا بشخصيته الكاريزمية، أخذ معه الطاقة التي حافظت على مهمته الفردية بنجاح كبير.
وبغيابه عن إدارة ما بناه من مؤسسات ومن عمل، تراجعت المؤسسات التي أقامها، وانتهى الأمر بالمسجد في النهاية في أيدي مجلس مدينة ليفربول.
ولا تشير المصادر إلى سبب سفر عبد الله كويليام، ولا لماذا عاد إلى المملكة المتحدة قبل ديسمبر 1914 تحت اسم آخر هو إتش إم ليون أو هنري مصطفى ليون، ولا لماذا لم يعد إلى موطنه في ليفربول، ولا لماذا أمضى الكثير من وقته في جزيرة مان، وهي الجزيرة التي كان قد قضى فيها قسما من طفولته والتي تنتمي إليها جذور عائلته.
مشاركة عبد الله كويليام بجمعية مسلمي بريطانيا
لكن أحد المصادر يشير إلى مشاركته في عضوية “جمعية مسلمي بريطانيا British Muslim Society” عام 1914، ولكن ماذا فعل فيما بقي له من حياة إلى أن توفي في لندن عام 1932؟ لكن الشاهد أنه ظل وفيا لإسلامه حتى وفاته، كما أشار كتاب سيرته. والمعلوم المؤكد أنه دُفن في قبر غير مميز في مقبرة بروكوود الشهيرة بالقرب من ووكينغ، حيث دفن بالقرب منه في وقت لاحق المسلمون البريطانيون البارزون عبد الله يوسف علي، ومحمد مرمادوك بيكتال (الذي ترجم كل منهما القرآن)، واللورد هيدلي.
وقد حظي تراث عبد الله كويليام بعناية المؤرخين ومجتمع المسلمين في بريطانيا، والذي وصل وفق إحدى الإحصائيات إلى 3.5 مليون نسمة تقريبا، على الرغم من تشكيك البعض في دقة تلك الإحصائيات.
فقد تأسست عام 1997 جمعية عبد الله كويليام Abdullah Quilliam Society، والتي قامت بشراء المباني رقم 8 و10 من “بروجام تراس” من البلدية في عام 2000، وأعادت افتتاحه كمسجد عام 2014 بعد مرور حوالي 105 عام على افتتاح كويليام للمسجد الأول واعتنت بأرشيف كويليام.
كما نشر عالم الأديان المقارنة البريطاني رون جيفز Ron Geaves أول كتاب يحمل سيرة حياة عبد الله كويليام عام 2010، وهو الحدث الذي حظي بتغطية كبيرة من الإعلام، وأحدث موجة من الوعي بتاريخ الإسلام في بريطانيا. ثم قام أحد الكتاب والأكاديميين من المسلمين البريطانيين بالاهتمام بتراث كويليام، وهو الكاتب والباحث المسلم يحيى بيرت Yahia Birt، حيث شارك في عدد من الأعمال لتوثيق تاريخ هذا المجتمع المسلم الذي أسسه كويليام منها:
– الكتاب الذي شارك في ترجمته والذي يحمل عنوان “الإسلام في ليفربول في العصر الفيكتوري وعنوانه: تقرير عثماني حول مجتمع المسجد الأول في بريطانيا Islam in Victorian Liverpool: An Ottoman Account of Britain’s First Mosque Community” والصادر في عام 2021، وهو كتاب أعده الصحفي العثماني/ المصري يوسف سميح أصمعي Yusuf Samih Asmay كتقرير شاهد عيان على مجتمع ليفربول المسلم.
– الكتاب الذي شارك في إعداده حول فاطمة كيتس، والذي يحمل عنوان “فاطمة ليفربول: قصة فاطمة كيتس، المرأة الفيكتورية التي ساعدت في تأسيس الإسلام البريطاني Our Fatima of Liverpool: The Story of Fatima Cates, the Victorian woman who helped found British Islam ” والذي صدر في يناير 2023.
– الكتاب الذي شارك فيه مع رون جيفز وضم قصائد عبد الله كويليام The Collected Poems of Abdullah Quilliam والصادر عام 2021.
وإذا كان عبد الله كويليام هو أبرز شخصيات المسلمين البريطانيين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فقد كانت هناك شخصيات أخرى في غير ليفربول اختارت الإسلام طواعية، وقد حظوا بعناية المؤرخين حديثا، وهو ربما ما يتاح لنا تناوله في مقالات أخرى إن شاء الله.
د. مجدي سعيد