عروة بن أذينة أحد شعراء الحجاز المعدودين، وهو واحد من العلماء المشهورين الذين يُرجع إليهم في باب الفقه وعلم الحديث، وقد برز عروة وذاع صيتُه في الشعر كما اشتُهر في باب الفقه ورواية الحديث؛ فكان شعره آية في الحسن والرقة والعذوبة يهز النفس هزا ويملأ القلب إعجابا وطربا، ويشبه أسلوبه أسلوب عمر بن أبي ربيعة والعرجي وعروة بن حزام ومجنون ليلى وغيرهم من شعراء الغزل، وربما لهذا السبب اختلطت أشعاره بأشعارهم فنُسبت إليه بعض تلك الأشعار كما نسبت إليهم بعض أشعاره، وكان عروة مَرْضِيًّا عند العلماء والمحدثين والفقهاء وعامة الناس؛ فقيل: إن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه روى عنه في الموطأ بعض الأحاديث، ومدحه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأثنى على علمه وخلقه ودينه، وإن كان له على أشعاره بعض المآخذ، وكان لعروة مجلس يقصده الشعراء والعلماء وعامة الناس، وقد وفد عليه في هذا المجلس الفرزدق والأحوص، كما وفد عليه جرير وأنشده عروة من شعره فأشاد به، وقد أشاد به الأصمعي كذلك واعتبره من طبقة الشعراء الكبار، وتدل آراء النقاد والأدباء على تقديرهم لشعره وجودته وتقدمه، وبخاصة في الغزل، ويمكن الرجوع في ذلك إلى ما كتبه عنه الأصفهاني والآمدي والبكري وابن عبد ربه وغيرهم.
Table of Contents
عروة بن أذينة والشعرُ الحجازي
والشعرُ الحجازي كما هو معروف يمتاز برقة الحاشية وبظرفه وطرافة موضوعاته، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على شعر عروة بن أذينة وشعراء الغزل قاطبة، ولست ممن يستبعد تأثير البيئة وسلطانها على الشاعر؛ فمهما حاول النقاد وسعوا إلى عزل النص عن سياقه ومرجعياته الخارجية مكتفين بالنص ودراسته دراسة محايثة، يبقى أثر البيئة واضحا جليا في إبداع الشعراء بصورة أو بأخرى، فلا عجب إذًا أنْ جاء شعر عروة رقيق العبارة، لطيف المعنى، غنيا بالصور الشعرية المبتكرة، متأثرا في ذلك ببيئته والاتجاهات السياسية والاجتماعية والأدبية السائدة فيها، ومستجيبا لطبيعته ونزوعه الشخصي في الوقت ذاته.
عروة بن أذينة والدراسات النقدية
وعلى الرغم من تميزه ونبوغه وذيوع صيته خاصة في مجال الشعر الغزلي، فإنه لم يحظ بما يستحق من دراسات نقدية تسلط الضوء على شعره وشخصيته المميزة، باستثناء محاولات يسيرة لا تنهض أبدا للوفاء بحق هذا الشاعر الكبير؛ لعل من أهمها ما قام به محمد بن المبارك بن ميمون البغدادي صاحب منتهى الطلب من أشعار العرب؛ حيث جمع كثيرا من قصائده في هذا الكتاب الموسوعي، ودراسة الدكتور يحيى جبوري بعنوان: شعر عروة بن أذينة الصادرة عام 1970م، وقد جمع فيها معظم أشعاره وكتب مقدمة طويلة عن الشاعر وخصائص شعره، وبعض الأبحاث القصيرة التي تناولت علاقة الأخلاق بالشعر واتخذ بعضها من شعره نموذجا للدراسة، ودراسة قصيرة أخرى تتناول معاني الغزل وصوره في شعر عروة، ولولا هذه الجهود الفردية لضاع أكثر هذا الشعر ولظل مفقودا وطيَّ النسيان، ولا شك أنه لولا جودة هذا الشعر وتميزه لما لفت الأنظار إليه، وما استحق تلك المحاولات المضنية التي تُبذَل من أجل جمعه وإحيائه ودراسته.
عروة بن أذينة وتصحيح الصورة المغلوطة
ولا شك أن علاقة الإسلام والأخلاق بالشعر بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر؛ حيث شاع بين كثير من النقاد أن تأثير الإسلام على الشعر كان سلبيا، وأن أغلب شعر العلماء والفقهاء ما هو إلا شعر وعظي ومفتعل، ولا تحرك صاحبَه عاطفةٌ صادقةٌ، وقد زعم ذلك ابن خلدون ونقاد آخرون غيره، وهذا تعميم غير مقبول؛ فشعر عروة بن أذينة وغيره من الشعراء العلماء كفيل بتصحيح تلك الصورة وتفنيد هذه المزاعم، وهو يؤكد على أن قوة الشعر وضعفه لا يتعلقان بالموضوع الذي يعالجه الشاعر، وإنما بصدقه وموهبته ومعاناته وامتلاكه لأدواته الفنية، كما أن شعر عروة يصحح الصورة المغلوطة عن الأدب في صدر الإسلام والدولة الأموية، ومدى التطور الذي أحرزه الشعراء في مضمون القصيدة وشكلها واتساع مدى الرؤية لديهم، ويؤكد أن الإسلام لم يصادر على حرية الإبداع كما يزعم بعضهم، ولم يضيِّق على الشعراء، أو يجعل الشعر في الهامش بعد أن كان في القلب، ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى الدراسة التي كتبها الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط رحمة الله عليه عن الشعر في صدر الإسلام والدولة الأموية لتصحيح هذه الصورة المغلوطة.
أخبار عروة بن أذينة
والأخبار التي تُروى عن عروة – على قلتها وعلى اختلاف مشاربها – تتفق جميعها على جمال شعره ورقة لغته وبراعة صوره الشعرية وصدقه، خاصة شعره الغزلي، وتُظهر افتتان أهل زمانه به وبشعره حد الهوس؛ فقد روى صاحب الأغاني قصة تؤكد هذا المعنى؛ وخلاصتها: أن أعرابيا دخل على أحد أقارب عروة بن أذينة واستنشده أبياتا مشهورة له، فأنشده إياها فلما وصل إلى قوله:
حجبتْ تحيّتها، فقلتُ لصاحبي: ** ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا فقال: لعلها معذورة ** من أجل رِقبتها، فقلتُ: لعلها
فقال الأعرابي: أحسنَ واللهِ شاعركم، هذا واللهِ الدائمُ العهدِ الصادقُ الصبابةِ، لا الذي يقول:
إنْ كان أهلك يمنعونك رغبة ** عني فأهلي بي أضن وأرغب!
فلما أراد الأعرابي الانصراف عرض عليه الرجل الطعام فقال: لا والله ما كنتُ لأخلط بهذه الأبيات طعاماً حتى الليل! وواضح أن استحسان الأعرابي لأبيات عروة تلك يرجع إلى رقتها المتناهية التي لا تخطئها الأذن، وصدق الشاعر في البوح والتعبير عن عاطفته دون خجل!
ويُروى أن السيدة سكينة بنت الحسين قابلت الشاعر في موسم الحج ومعها بعض جواريها فقالت له: يا أبا عامر، أنت الذي تزعم أن لك مروءة، وأن غزلك من وراء عفة، وأنك تقي؟ قال: نعم، قالت: أفأنت الذي تقول:
قالت وأبثثتُها سري فبحتُ به: ** قد كنتَ عنديَ تحت الستر فاستتر
ألستَ تبصر مَن حولي؟ فقلتُ لها: ** غَطَّى هواكِ وما ألقى على بصري
قال لها: بلى، قالت وهي تشير لجواريها: هن حرائر إن كان هذا الكلام خرج من قلب سليم! وتعليق السيدة سكينة على شعر عروة وهي الأديبة والناقدة صاحبة المواقف المشهودة مع الشعراء، يؤكد على أن شعره كان يلمس شغاف القلوب، ويعتقد سامعه أنه نابع من قلب محب، وأنه نتيجة معاناة حقيقية. (الخبر مذكور في الأغاني، والكامل، والعقد الفريد، وزهر الآداب)
ويقال: إن امرأة وقفت عليه وحوله تلامذته، فقالت: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح؟ وأنت القائل:
إذا وجدتُ أوار الحب في كبدي ** عمدتُ نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ** فمن لنار على الأحشاء تتقد؟
لا والله، ما قال هذا رجل صالح قط! والقصص التي على هذه الشاكلة كثيرة ومبثوثة في المراجع التي أشرنا إليها، وهي تظهر مكانة شعر عروة في نفوس الناس وتأثيره البالغ فيهم.
عروة بن أذينة ومكانته في المجتمع
والحقيقة، إن لشعر عروة بن أذينة نكهة خاصة ومذاقا مختلفا بالفعل، حتى وإن لم يخرج أسلوبُه عن الأساليب التقليدية المعهودة في الكتابة الأدبية، وربما يرجع السبب في ذلك إلى مكانته في المجتمع، ونظرة الناس لما ينبغي أن يكون عليه العالم والفقيه من وقار وكتمان وإخفاء للمشاعر، فجاء شعره مخالفا لهذه الصورة، ويتسم بالصدق والرقة والعذوبة المتناهية، يأخذ بمجامع القلوب ويتسلل إليها في سهولة ويسر، بعيدا عن التصنع والتكلف والزخرفة اللفظية وسائر أشكال المبالغات، واستطاع أن ينفذ من خلال تجربته الخاصة إلى صميم تجربة الإنسان في كل مكان، بكل ما فيه من ضعف وانكسار وعجز أمام الأقدار؛ الإنسانِ الذي كُتب عليه حَظُّه من المعاناة والآلام والمتاعب البدنية والنفسية، خاصة حين يعيش في بيئة محافظة لا يرضيها أن يَستذِل سلطانُ العشق والشعر عالِما عابدا زاهدا مثلَه، بينما هو يرفض كتمان مشاعره ويقرر أن يبوح ويعترف بولهه وعشقه دون خجل، ويصرخ بأعلى صوته على الملأ: إنني أعشق الجمال وأتعبد في محرابه، ولا أجد غضاضة ولا تناقضا في الجمع بين الاشتغال بالعلم وتدريس الفقه والاستجابة لسلطان الشعر، لكن المجتمع الذي ينطوي على تناقضات لا حصر لها يجيبه: إما أن تكون فقيها مَرْضِيًّا عندنا وتترك هذا النوع من الشعر، وإما أن تكون عاشقا تبث الشعر نجواك وآلامك وتتخلى عن دور الفقيه والمُحَدِّث! لكنه يظل ثابتا على موقفه وقناعته لا يعبأ بغمزهم ولا بلمزهم ولا يستجيب لتوجيهاتهم، ويواصل عمله الحثيث في جمع الأحاديث الشريفة وإفتاء الناس في أمور دينهم ودنياهم، والتحليق مع الشعر والاستجابة لأشواق النفس وتحليقها.
وربما كان موقف المجتمع المتشدد هذا هو الذي دفعه في مطلع شبابه إلى أن يصنع الألحان وينحلها غيره هروبا من المساءلة، فالمهم عنده أن تشيع تلك الألحان في الناس وتُغَنَّى ويطرب مع غيره بسماعها حتى وإن لم يعرف الناس أنه هو قائلها، وكم من أديب وشاعر يشبه موقفه موقف عروة بن أذينة ذاك! وفي العقد الفريد أن عروة بن أذينة كان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها غيره من المغنين، ومن ذلك قوله:
يا ديار الحي بالأجمة ** لم تكلم سائلا كلمة
أين من كنا نُسَرُّ به ** فيك والأهواء ملتئمة
وهذه اللوحةُ الشعريةُ الرقيقةُ كانت هي أول ما قرأتُ لهذا الشاعر الجميل؛ وهي بديعة في مفرداتها ومعجمها، بديعة في صورها وتشبيهاتها، بديعة في موسيقاها وتأثيرها الهائل في النفس، وهي تعكس شخصية قائلها بكل وضوح وصدق، ولا غرو أن يختار أبو تمّام بعض أبياتها ليُضَمِّنَها حماسته، لرقتها وجمالها وعذوبتها. يقول عروة:
إن التي زعمتْ فؤادك ملّها ** خُلِقتْ هواك كما خُلقتَ هوى لها
فبك الذي زعمتْ بها، وكلاكما ** يُبدي لصاحبه الصبابةَ كلها
ويبيت بين جوانحي حُبٌّ لها ** لو كان تحت فراشها لأقلَّها
ولَعَمْرُها لو كان حبُّك فوقها يوما ** وقد ضَحِيَتْ إذًا لأظلها
وإذا وجدتُ لها وساوسَ سلوةٍ ** شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
بيضاءُ باكرها النعيم فصاغها ** بلباقة فأدقّها وأجلّها
لما عرضتُ مُسلِّما لي حاجة ** أرجو معونتها وأخشى ذلها
حجبتْ تحيّتها، فقلت لصاحبي: ** ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا فقال: لعلها معذورة ** من أجل رِقبتها، فقلت: لعلها
وعروة في هذه اللوحة البديعة يعترف بأن العشق قد تمكن منه ومن صاحبته، وإن كان الظاهر عليهما ليس كذلك، بسبب ضغوط الواقع وتقاليد المجتمع ومن أجل صرف الأنظار عنهما؛ فهي بصدها وتمنُّعِها إنما تفعل ذلك هروبا من مساءلة المجتمع لها، وهو على النقيض منها لا يقدر على كتمان عشقه وهيامه بها؛ فلذلك يبدو مستسلما لحبها استسلامه لقدره؛ فقد خُلقتْ لأجله كما خُلق هو لأجلها، فكيف لهما أن يعاندا أقدارهما؟ واستخدام الشاعر هذا الفعل (زعمت) يؤكد على ثقته بما تضمره صاحبته له من محبة، فما يجري على لسانها لا يعبر عما هو مستقر في قلبها، ولذلك فهو لا يأخذه على محمل الجد، وهذا الزعم لا يزيده إلا تمسكا بها، والتماس الأعذار لها، وعدم الاستجابة لوساوس النفس، فهي فتاته الحسناء الرقيقة المنعمة، التي نشأت في النعيم ولم تعرف خشونة العيش قط، وقد عبر عروة عن هذه المعاني بلغة رقيقة عذبة للغاية تصل إلى القلب بسهولة ويسر، وهو ما يؤكد على حاجته إلى مزيد من الدراسات وتسليط الضوء عليه.
ولم يخرج عروة في شعره الغزلي عن طريقة شعراء الغزل من قبله؛ فتضمنت قصائده الحديث عن حبه ووفائه وصونه للعشرة، وصوّر عذابه ومعاناته، ووصف هزاله وسقامه ودموعه التي لا تجف بسبب هجْر الحبيب وصدوده، كما لم يخل شعره من التعريض بالوشاة والعذال والحاسدين والشامتين ودورهم في تفريق الأحبة، وذكر عفته وصدقه وصونه لحبيبته، وغير ذلك من المعاني التي درج عليها شعراء الغزل.
ففي هذه اللوحة يظهر عروة مدى معاناته بسبب تعلقه بسعدى؛ فهو يتألم في غيابها ويتألم إن وصلته، وكم حاول الوشاة أن يصرفوه عنها لكنه لا يطيعهم، فهو لا يخون وده في كل الأحوال، يقول عروة:
لا بُعْدُ سُعدى مُريحي من جوى سقم ** يوما ولا قربُها إنْ حُمَّ يشفيني
أمست كأمنيةٍ سعدى مُلاوِذة ** كانت بها النفس أحيانا تُمنِّيني
إذا الوشاة لحوا فيها عصيتُهم ** وخلت أنَّ بسعدى اللوم يغريني
وما اجتنابك من تهوى تُبَاعِده ** ظلما وتهجره حينا إلى حين
إني امرؤ لم يخن ودي مكاذبة ** ولا الغنى حِفْظَ أهلِ الود ينسيني
ويقول:
لما وقفتُ بهنَّ بعد تأنس ** ذرفت دموعُك في الرداء رشاشا
ولرب سالٍ قد تذكَّر مرة ** شجوا فأجهش أو بكى إجهاشا
أمسى إذا ذُكرتْ يحادث نفسه ** وإذا نأتْ لقي الهموم غشاشا
شوقا تذكَّرَه فحَنَّ صبابة ** لما أراد عن الصبا إفراشا
وعلا به الرأي الجسيم وزاده ** حلما فعِيشَ به كذاك وعاشا
تمت مروءته وساور همُّه ** غَلَبا وأتبع رأيَه إكمــــــــــــاشا
يبني مكارم ذاهبين جحاجح ** كانوا ثمالَ أراملٍ ورياشا
ومن جميل ما قاله في هذا الباب:
صرمت سُعيْدة ودَّها وخِلالَـــــــها ** منا وأعجبها البعــــــــاد فما لَها
سمعتْ من الواشي البعيد بصرمنا ** قولا فأفسدها وغير حالَها
وإذا المودةُ لم تكن مصدوقـــــة ** كره اللبيبُ بعقله استقبالَها
ولقد بلوتُ وما ترى من لــــــذة ** في العيش بعدك قربَها ووصالَها
عَصْرَ الشبابِ وما تُجِدُّ مودة ** للغانيات ولا هوىً إلا لَها
حتى رأينا للصريمة آيــــــــــــــة ** مثل النهار وعددت أشغالَها
ولم يقتصر شعر عروة بطبيعة الحال على الغزل وإن كان هو الغالب عليه كما ذكرنا؛ فقد كان عروة مشاركا في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية، فكتب في الزهد والنسك والعبادة، وله شعر في المدح والحكمة والزهد والدفاع عن الإسلام وغيرها من الأغراض الشعرية، وكان عروة على صلة طيبة بولاة المدينة، فكان يغشى مجالسهم وينشدهم شعره ويمدح أخلاق بعضهم إذا كانوا ممن يستحقون ذلك. ومن هذا النوع من الشعر ما قاله في هشام بن إسماعيل المخزومي، الذي عُزل عن الولاية فكتب عروة يواسيه ويخفف عنه:
فإن تكن الإمارة عنك زالت ** فإنك للمغيـــــــــــــرة والوليــــد
وقد مر الذي أصبحتَ فيه ** على مروان ثم على سعيد
ولم تكن صلته بالولاة والحكام الأمويين من أجل المال كما هو حال كثير من الشعراء، فقد كان عروة عفيفا ذا أنفة واعتداد شديد بالنفس؛ فقد روي أنه وفد على هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: ألست القائل؟
لقد علمتُ وما الاسراف من خُلُقي ** أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّينـــــــــــــــــــي تطلّبـــــــــُــــه ** ولو جلستُ أتاني لا يعنّيــــــــــــني
فقال عروة: بلى أنا قائلها، قال هشام: فما أقدمك علينا، أفلا قعدتَ في بيتك حتى يأتيك رزقك؟ قال: سأنظر في أمري، وخرج من فوره فانصرف عائدا إلى الحجاز، فأُخبِر بذلك هشام، فأتبعه جائزته وقال لعامله: قل له: أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك؟ فمضى العامل فلحقه فأبلغه رسالة هشام ودفع إليه الجائزة، فقال له عروة: قل له: قد صدقني ربي وكذبك، ففرض له هشام فريضتين وخصص له راتبا. والأبيات التي استشهد بها هشام بن عبد الملك أبيات جميلة، وهي من قصيدة طويلة للشاعر مليئة بالفخر والحكمة والزهد، ومنها:
لا خير في طمع يدني لمنقصة ** وغُبَّر من كفاف العيش يكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبُه ** ولا يعاب به عرضي ولا ديني
كم من فقير غنيّ النفس تعرفه ** ومن غنيّ فقير النفس مسكين
وَمِن عَدُوٍّ رَماني لَو قَصَدتُ لَهُ ** لَم يَأخُذِ النِصفَ مِنّي حينَ يَرميني
وَمِن أَخٍ لي طَوى كَشحاً فَقُلتُ لَهُ ** إِنَّ اِنطِواءَكَ عَنّي سَوفَ يَطويني
إنّي لأنطق فيما كان من أربي ** وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ** ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
ومن شعره في الفخر:
غلبنا على الملك الذي نحن أهله ** معدًّا، وفضَّضنا ملوك الأعاجم
وأنسابنا معروفة خِندفية ** فأنى لها بالشتم ضرُّ المُشاتم
سبقنا أضاميم الرهان فقد مضى ** لنا السبقُ غاياتِ الذكور الصلادم
ونحن أكلنا الجاهلية أهلها ** غِوارا وشذبنا مجير اللطايم
وكان لنا المرباغ غير تنخل ** وكل مُعَدٍّ في جلود الأراقم
مضرين بالأعداء من كل معشر ** نُهينُ معاطيس الأنوف الرواغم
إذا رامنا عرِّيضُ قومٍ بشغبة ** تذبذب عن مِرداة مجد قماقم
ونحن على الإسلام ضاربَ جمعُنا ** فأُعطيَ فَلْجا كلُّ جمع مصادم
ونحن ولاة الأمر ما بعد أمرنا ** مقال ولا مغدى لخصم مخاصم
ورثنا رسول الله إرث نبوة ** ومخلاف ملك تالد غير رايم
وعلياء من بيت النبي تكنفت ** مناسبها حومات أنساب هاشم
وملكا خِضَمًّا سلَّ بالحق سيفه ** على الناس حتى حاز نقش الدراهم
وقام بدين الله يتلو كتابه ** على الناس منا مرسل جِدُّ قايم
ففينا الندى والباع والحلم والنهى ** وصولات أيد بادرات الجرايم
بقلم/ أ.د وجيه يعقوب السيد – قسم اللغة العربية – كلية الألسن – جامعة عين شمس