عبقريات علمائنا الموتى لا تموت، إنها تُطّل علينا وتقدم العون. جابر بن حيّان، مؤسس علم الكيمياء، وابن الهيثم، أول عالم فيزياء حقيقي في التاريخ، وأبو الريحان البيروني الذي حقق سبقاً علمياً تاريخياً في تحديد الكثافة النوعية للمعادن والأحجار، وأبو يوسف الكندي مؤسس “علم التشفير” المستخدم في أمن مراسلات ملايين الشركات والأفراد في الإنترنت، وأبو بكر الرازي الذي يقول عنه مؤرخون أوروبيون: “الطب كان غائباً قبل أن يبدعه هيبوقريط، وميتاً قبل أن يحييه غيلين، ومشتتاً قبل أن يجمعه الرازي، وناقصاً قبل أن يستكمله ابن سينا”. كما أن “كل من يريد أن يكون طبيباً جيداً ينبغي أن يكون ابن سيناوي”، حسب مثل أوروبي في القرون الوسطى عن ابن سينا.
علماء ومهندسون وأطباء وفلاسفة وفنانون من العراق، وسوريا، ومصر، والمغرب، والأندلس، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، وأوزبكستان، وحتى الصين؛ تُطّل عبقرياتهم في معرض “ألف اختراع واختراع” في “متحف العلوم” بلندن. رسوم ولوحات عن حياتهم تتوزع جدران المعرض التي تنفتح فيها نوافذ تعرض صور فيديو لنساء ورجال علم بملابس عربية قديمة؛ يستوقفون الزائر، ويدعونه لسماع حكاياتهم. وتتوسط باحة المعرض هياكل وقباب، وبينها ساعة “الفيل” التي ابتكرها المهندس بديع الزمان الجزري قبل نحو ألف عام.
ويتنافس آباء مع أطفالهم داخل قبة فلكية تستجيب لإيماءات أصابع المشاهد الباحث عن برجه، وتعرض شاشةٌ عريضةٌ فيلماً سينمائياً تجري أحداثه داخل مختبر مدرسي، ويمثل فيه النجم العالمي المشهور “بنغ كينغزلي” شخصية الجزري. ويبدع الفيلم الذي فاز بأربع جوائز في تصوير مشهد طيران عباس بن فرناس، المبتكر الأندلسي الذي هوى إلى الأرض عندما حاول التحليق بجناحين مصنوعين من ريش وألياف. ويحظى بن فرناس في الفيلم برعاية طبية لم يحصل عليها في حياته، حيث يُهرع لإسعافه الجراح الأندلسي أبو القاسم الزهراوي الذي ابتكر قبل عشرة قرون أوتار خياطة الجروح المستخدمة حالياً، وطوّر نحو مائتي أداة جراحية، بعضها مستخدم حتى اليوم.
وإذا كان تاريخ العلوم هو العلوم نفسها، فإن كتاب “ألف اختراع واختراع” الذي قام عليه المعرض هو تاريخ العرب والمسلمين وأفكارهم، وسجالاتهم، وإبداعاتهم، وأدواتهم، وفنونهم الذكية، في العمارة والهندسة والموسيقى والبستنة والملاحة والمواصلات والعمارة والتخطيط والتجارة، والملاحة البحرية والاستكشافات الجغرافية… وكأن مئات العلماء العرب والمسلمين يشيرون عبر الزمان والمكان إلى مفارقات صور الكتاب الذي يعرض أصول وقواعد ابتكروها تُستخدم اليوم في أحدث الأدوات والمعدات.
فصول الكتاب الذي يقع في نحو 400 صفحة من القطع الكبير مقسمة حسب استخدامات العلوم في حياة العرب والمسلمين في المنزل، والمدرسة، والمستشفى، والسوق، والمدينة، والعالم، واستكشاف الكون. فنعثر مثلا في صفحات متفرقة على المغني زرياب الذي كان يسحر الخليفة هارون الرشيد بشدوه الرخيم: “يا أيها الملك الميمون طائرُهُ، هارون راح إليك الناس وابتكروا”. وعندما راح زرياب إلى الأندلس ابتكر ما يعجز عنه المغنون وصناع الموسيقى العالمية الحديثة، ليس في فنون الغناء والموسيقى فحسب، بل في تصميم الملابس، وطبخ الطعام، وأصول وآداب المائدة. لقد علّم الأوروبيين استخدام فوطة السُفرة، والأكل بالملاعق والشوكة والسكين، وتقسيم وجبات الطعام اليومية إلى ثلاث؛ فطور وغداء وعشاء، واستخدام “المسواك” لتنظيف الأسنان، وارتداء ملابس خاصة بكل فصل من فصول السنة الأربعة.
وحوّل زرياب مدينة “قرطبة” إلى عاصمة الأزياء، والتجميل، وقص الشعر، وأسس أول معهد أكاديمي موسيقي في القارة الأوروبية، لتدريس النوتة والألحان، وأدخل ريشة العزف، وآلة العود ذات الأوتار الخمسة، وأعاد تنظيم المقاييس اللحنية، وابتكر طرقاً جديدة للغناء، كالموشحات والأزجال. وبعد أكثر من ألف عام سيقول عنه المؤرخ الفرنسي هنري تيريس: “لقد هبّت من قرطبة، عندما حلّ فيها هذا الشرقي، نسائم الغبطة وحياة الترفه”.
ولا يكفي حيز هذه المقالة لذكر أسماء منتجات وأدوات مختبر جابر بن حيان الذي قال لأول مرة في تاريخ العلم “كمال الصنعة العمل والتجربة، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبداً”. قائمة مكتشفاته تضم أحماضا مستخدمة في الصناعات اليوم، كحامض “الكبريتيك”، وكان يسميه “زيت الزاج”، وحامض “النتريك”، ويسميه “ماء النار”، و”الكلوريك” ويسميه “روح الملح”، و”النتروهيدروكلوريك”، ويسميه “الماء الملكي” لأنه يذيب الذهب. وبعد وفاته بقرنين عُثر في أنقاض قبو منزله في مدينة الكوفة على عشرات الأدوات المختبرية، بينها منضدة، وموقد، وهاون، وملقط للأنابيب الساخنة، وملاعق، ومقارض، ومراجل، وأجهزة تقطير، ومبارد، وأقماع، ومناجل، وكرة معدنية لسحق المواد الصلبة، وأنابيب وأحواض، وموازين.
زار معرض “ألف اختراع واختراع” في الأسابيع الأولى من افتتاحه نحو 100 ألف شخص، وحظي فيلمه المعروض في “يوتيوب” بمليون مشاهدة. وهذا تقدير يفوق توقعات مشروع تربوي وضع فكرته المهندس العراقي سليم الحسني، الأستاذ في جامعة مانشستر، والذي تفرغ منذ سنوات للإشراف على تحرير الكتاب وتطوير موقع الإنترنت، وحظي المشروع أخيراً بدعم “مؤسسة عبداللطيف جميل” الخيرية السعودية. ويستقبل الحسني يوم السبت المقبل زوار المعرض لتوقيع نسخ الكتاب الذي اقتناه ملوك ورؤساء دول وحكومات وشركات عربية وإسلامية وغربية حضروا تقديمه خلال دورة الأمم المتحدة الخاصة بحوار الحضارات. وسأحمل للحسني نسخة من الكتاب، شاركت خمس فتيات من العراق واليمن في جمع ثمنه البالغ نحو 40 دولاراً. وهذا مبلغ قد يصعب تأمينه على فتيات وأمهات عربيات ومسلمات، لاحظت حضورهن خلال زيارتي المعرض. لماذا لا تصدر طبعة شعبية بسعر مناسب، ومتى تصدر طبعته العربية؟
كتاب “ألف إبداع وإبداع” 1001 Inventions دليل تعليمي ساحر مصنوع بالحب الذي تستحقه، بل تلهمه، واحدة من أجمل المغامرات الحضارية في تاريخ البشرية. مغامرة تنبسط وتتوسع عبر موقع الكتاب في الإنترنت، كما لو كانت تستطرد في حكايات منسية، لكنها في الواقع تقترح مقرراً نموذجياً لتعليم تاريخ العلوم في مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، وهو تاريخ شامل في الإرشاد والتهذيب، والتربية الاجتماعية والفنية والأخلاقية والوطنية، وحتى الدينية بمفهومها العميق.
و”ألف إبداع وإبداع” كالفكرة التي يقول عنها الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي هنري بوانكاريه: “ليست سوى ضوء خاطف بين ليلين طويلين، لكنه كل شيء”. وفي الصيف القادم يحمل المعرض في رحلة سبع سنوات حول العالم الفكرة التي تومض كضوء خاطف بين ليلين طويلين؛ ليل سبع سنوات من احتلال العراق، مهْد العلوم العربية، وليل البشرية الباحثة عن ضوء في نهاية النفق.
محمد عارف
* نقلا عن “الاتحاد” الإماراتية