- “الباز”: مجموعي في “الثانوية” لم يسمح لي بدخول كلية الطب.. وكانت هذه أول “صدمة” في حياتي
- زار عشرات المناجم خلال دراسته في أمريكا وجمع 3 أطنان من الصخور وكان يشحنها إلى مصر
- فشل في إنشاء معهد عال للجيولوجيا هو الأول من نوعه في العالم العربي.. فأصبح مهاجرا إلى الأبد
- أرسل 100 طلب توظيف إلى شركات أمريكية إلى أن قبلته وكالة “ناسا” للعمل بها
- رائد الفضاء نيل آرمسترونغ اصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة “الفاتحة” تقديرا لـ”الباز”
- شعاره دائما: “المعرفة تولد الثقة.. وأنا لا أقول شيئا أبدا إلا بعد دراسته جيدا”
لم يكن مشوار نجاح الدكتور فاروق الباز، عالم الفضاء العربي الأشهر في العالم الآن، سهلا، ولا مفروشا بالورود، فقد هاجر الرجل “سرا” ذات يوم إلى الولايات المتحدة، وأرسل 100 طلب توظيف إلى شركات أمريكية، حتى قبلته وكالة “ناسا” الفضائية للعمل بها، فصار فيما بعد واحدا من أكثر العلماء شهرة على المستوى العالمي.
ويعتز الباز على الدوام بكونه أول “فلاح مصري” يعمل في وكالة ناسا، ويمارس مهامه العلمية بدأب لا نظير له، وهو يؤكد أن “المعرفة تولد الثقة.. وأنا لا أقول شيئا أبدا إلا بعد دراسته جيدا”.
وُلد الباز في 2 يناير 1938 بقرية “طوخ الأقلام” شمال دلتا مصر، من أسرة بسيطة مكونة من الأب الذي كان يعمل بالزراعة، وكان أول من حصل على تعليم أزهري في قريته، والأم، وكانت ربة منزل، وطفلين فقط هما “فاروق” وشقيقه الدكتور أسامة الباز، السياسي المعروف الراحل.
وعاش “فاروق” الشاب فترة من حياته مع الأسرة في القرية، ثم انتقل إلى القاهرة بصحبة أخيه للدراسة، حيث كانا يعيشان على الكفاف، وكان والدهما المزارع يرسل لهما القليل من المال لكي يتعيشا منه، ما كان له بالغ الأثر في نفس الشقيقين اللذين اشتهرا طوال حياتهما بالتواضع رغم المكانة الكبيرة التي حققها كل منهما على حدة.
“الصدمة” الأولى
لقي الباز من والديه تشجيعا كبيرا على التفوق في مراحل التعليم المختلفة، حيث كانا يؤمنان دائما بقدراته ونبوغه، وكانت أمه على وجه الخصوص – رغم بساطتها- عونا له في اتخاذ قراراته المصيرية، حيث كانت تمتلك “ذكاء فطريا” بتعبير الابن.
ويتذكر الباز طفولته قائلا: “كان أملي وأنا صبي في المدرسة الإعدادية أن أدخل كلية الطب لأصبح جراحا متميزا، وأتخصص في جراحة المخ تحديدا، ولكن مجموعي في الثانوية لم يسمح لي بدخول الطب، وكانت هذه أول صدمة في حياتي، فالتحقت بكلية العلوم جامعة عين شمس، مرغما أخيك لا بطل”! (1)
واختار الباز جامعة “عين شمس”، شمال شرق القاهرة، لأنها كما قال كانت أقرب إلى مسكنه، ويستغرق المشي إليها ساعة ونصف، حفاظا على “القروش” القليلة من الإهدار في المواصلات العامة.
وعلى الرغم من التحاقه بكلية العلوم على غير إرادته، إلا أن الباز حصل على شهادة البكالوريوس بتفوق من الكلية في تخصص “كيمياء- جيولوجيا” عام 1958، وقام بتدريس مادة “الجيولوجيا” بجامعة أسيوط في صعيد مصر حتى عام 1960.
وسافر إلى الولايات المتحدة للحصول على درجة الماجستير في الجيولوجيا عام 1961 من معهد المناجم وعلم الفلزات بولاية “ميسوري” الأمريكية، ثم نال درجة الدكتوراه في عام 1964م وتخصص في” الجيولوجيا الاقتصادية”.
وزار خلال هذه الفترة عشرات المناجم في أمريكا، وجمع آلاف العينات من بلاد العالم التي زارها آنذاك، حتى أنه تمكن من جمع 3 أطنان من الصخور والأحجار وشحنها أولا بأول عبر الطائرات إلى مصر.
الهجرة السرية
كان الرجل يأمل في إنشاء معهد عال للجيولوجيا هو الأول من في العالم العربي، ولكن بعد عودته قال له المسئولون بجامعة عين شمس: “عليك أن تتسلم عمل كمدرس للكيمياء في المعهد العالي بمدينة السويس، ليس لدينا ميزانية كافية لإنشاء معهدك”!
غير أنه رفض الذهاب لاستلام عمله في هذا المعهد، وقر العودة إلى أمريكا. وفي ديسمبر من عام 1966، قرر أن يسافر سرا إلى الولايات المتحدة بسبب الظروف السياسية الشائكة السائدة في مصر آنذاك، حيث كان العداء المتبادل يسيطر على العلاقة بين البلدين وقتها.
وهناك، في أمريكا بدأ في رحلة شاقة للبحث عن عمل كمدرس لمادة “الجيولوجيا”. ولكن، نظرا لوصوله بعد بدء العام الدراسي، فلم تقبله أي جامعة من الجامعات؛ فأخذ يبعث طلبات توظيف إلى الشركات جاوزت المائة عددا، إلى أن أرسلت له “ناسا” التي كانت تطلب “جيولوجيين متخصصين في القمر” إشعارا رسميا بالموافقة على التحاقه بها.
ولم يكن الباز يعرف شيئا عن جيولوجيا القمر، والتحق بالعمل في “ناسا” وهو لا يعلم أنه سيكون له فيما بعد شأن كبير فيها. وأثناء أحد المؤتمرات الجيولوجية والتي تحدّث فيها علماء القمر عن فوّهاته ومنخفضاته وجباله. لم يفهم شيئًا، وسأل الباز أحد العلماء الجالسين عن كتاب يجمع هذه التضاريس، فأجابه قائلاً: “لا حاجة لنا إلى أي كتاب فنحن نعرف كل شيء عنه”.
ودفعته هذه الإجابة الواثقة إلى البحث والمعرفة، فدخل مكتبة “ناسا” المليئة بصور قمرية يعلوها التراب، وعكف على دراسة 4322 صورة طيلة ثلاثة أشهر كاملة، وتوصل إلى معلومات متميزة، حيث اكتشف أن هناك ما يقرب من 16 مكانًا يصلح للهبوط فوق القمر.
وفي أثناء المؤتمر الثاني الذي حضره، صعد الباز إلى المنصة ليعرض ما توصل إليه وسط تساؤل الحاضرين عن ماهيته، حتى إن العالم الذي قال له من قبل “نحن نعرف كل شيء عن القمر”، نهض من مقعده قائلا: “اكتشفت الآن أننا لم نكن نعرف شيئًا عن القمر”!
وأُوكلت له مهمتين رئيسيتين في رحلة اكتشاف الفضاء “أبوللو” عام 1967 إلى عام 1972م، وهما اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر، وتدريب طاقم رواد الفضاء على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية، وجمع العينات المطلوبة، وتصويره بالأجهزة الحديثة المصاحبة.
وتقديرًا لأستاذه، الباز، بعث رائد الفضاء الشهير نيل آرمسترونغ برسالة إلى الأرض مكتوبة باللغة العربية، واصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة “الفاتحة” ودعاء من معلمه بالنجاح والتوفيق.
وعمل بين عامي 1967 و1972 كمشرف على التخطيط للدراسات القمرية واستكشاف سطح القمر. وخلال هذه الأعوام، اشترك في تقييم برنامج ناسا” للرحلات المدارية، وسطع نجمه عالميا بعد مشاركته في برنامج “أبوللو” الفضائي من عام 1967 إلى 1972، فبدأ اسمه يأخذ المكانة التي يستحقها في الصحافة الدولية.
وفي عام 1986، انضم إلى “مركز الاستشعار عن بُعد” باستخدام تكنولوجيا الفضاء في مجالات الجيولوجيا بجامعة “بوسطن”.
عاشق الصحراء
اتجه الباز بعد ذلك إلى دراسة الصحاري عبر العالم. وخلال 25 عامًا قضاها في هذا المجال حتى الآن، اهتم بتصوير المناطق الجافة خاصة في صحراء شمال أفريقيا، وجمع معلوماته من خلال زياراته لكل الصحراء الأساسية حول العالم.. كان أكثرها تميزًا زيارته للصحراء الشمالية الغربية في الصين. وكان مما يميز الباز استخدامه التقنيات الحديثة في دراسة الصحراء، حيث استخدمها أولاً في الصحراء الغربية بمصر، ثم صحراء الكويت، قطر، الإمارات، وغيرها.
وفندت أبحاث الباز المعلومات المغلوطة التي كانت متداولة في الماضي، عن أن تكوّن الصحراء كان بفعل الإنسان، وأثبتت أنها تطور طبيعي للتغيرات المناخية على كوكبنا الأرضي.
ونادى الرجل دائما بتخصيص “قمر اصطناعي للصحراء”؛ لأن كل الصور الفضائية المعمول بها إنما تكون لدراسة الغطاء النباتي، ولكوننا أولى الناس بدراسة أراضينا الصحراوية من الغرب الذي لا يمتلك شيئًا منها، وقد عمل على إنشاء مراكز تدرس التصوير الفضائي والاستشعار عن بُعْد في كل من قطر، مصر، السعودية، الإمارات.
وأعطى الصحراء اهتماما خاصا، فراح يفتش عن كنوزها ويكشف عن أسرارها في دراساته العديدة فكان بحق “عاشق الصحراء الأول”.
ويعرب العالم الكبير في معظم تصريحاته ولقاءاته الصحفية والتليفزيونية عن “ألمه” من أن الحكومات العربية في ذيل البلاد النامية، ويرجع ذلك إلى عدم تقدير العلم في بلادنا العربية، وعدم إفساح المجال للإبداع الإنساني. ويقول: إن الدول المتقدمة تنفق ما لا يقل عن 2% من دخلها القومي على البحث العلمي، ونحن ننفق أقل من ½%، والغريب – حسب تعبيره- أننا ننفق 98% من هذه الأموال على تغطية الرواتب والأمور الإدارية وليس العلمية!
وانتُخب عام 1979 عضوا في “الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم” بعد أن جمع من خلال زيارته إلى الصحاري الأساسية في العام، بيانات تفيد في دراسته الخاصة بأصل ونشوء الجفاف في المناطق الطبيعية في العالم، حيث نسق الدكتور الباز الرحلة الأولى التي قام بها العلماء الأمريكيون إلى صحاري جنوبي بحر الصين، التي استغرقت ستة أسابيع، ولكن وجد العالم أن هذه الرحلات تستغرق وقتلا طويلا، لذلك قام بتحليل الصور الفضائية للصحاري بصورة أكثر تفصيلا باستخدام تقنية “الاستشعار عن بعد”، واستخدم طريقته في دراسة الصحراء الغربية المصرية وصحاري الكويت وقطر والإمارات وسلطنة عمان والهند، وكانت تلك الطريقة أهم ما ميز أبحاث د. الباز خلال دراسته للصحراء؛ حيث توصل إلى اكتشافات بالغة الأهمية.
وعمل الباز خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي كمستشار علمي للحكومة في عهد الرئيس السادات، حيث تم تكليفه باختيار المناطق الصحراوية للتنمية.
والباز عضو نشط في العديد من المنظمات والجمعيات العلمية والتي يشغل مناصب رفيعة فيها، فهو رئيس أو عضو لما يقرب من 40 جهة علمية، منها “أكاديمية العالم الثالث للعلوم”، وأصبح من مجلسها الاستشاري عام 1997م ، وعضوا في “مجلس العلوم والتكنولوجيا الفضائية”، ورئيسا لمؤسسة الحفاظ على الآثار المصرية، وعضوا في “المركز الدولي للفيزياء الأكاديمية في اليونسكو”، ومبعوث “الأكاديمية الأفريقية للعلوم”، كما أنه زميل “الأكاديمية الإسلامية للعلوم” بباكستان، وعضو مؤسس في “الأكاديمية العربية للعلوم” بلبنان، ورئيس “الجمعية العربية لأبحاث الصحراء”.
وحصد الباز ما يقرب من 31 جائزة دولية، منها: “جائزة إنجاز أبولو، الميدالية المميزة للعلوم، جائزة تدريب فريق العمل من ناسا، جائزة فريق علم القمريات، جائزة فريق العمل في مشروع أبولو الأمريكي- السوفييتي”، فضلا عن “وسام الاستحقاق” المصري من الطبقة الأولى ومنحه له الرئيس الراحل أنور السادات، كما أنشأت الجمعية الجيولوجية في أمريكا جائزة سنوية باسمه أطلق عليها “جائزة الباز لأبحاث الصحراء”.
أصدر الباز 12 كتابا منها: “أبوللو فوق القمر، الصحراء والأراضي الجافة، حرب الخليج والبيئة، أطلس لصور الأقمار الصناعية للكويت، ممر التعمير في الصحراء الغربية في مصر”، وهو يشارك في المجلس الاستشاري لعدة مجلات علمية عالمية. ونشر ما يقرب من 540 ورقة علمية، سواء قام بها وحيدا أو بمشاركة آخرين، وهو يشرف حاليا على العديد من رسائل الدكتوراه في مصر والولايات المتحدة.
وهو متزوج من سيدة أمريكية، وله أربع بنات هن: “منيرة، ثريا، كريمة، وفيروز”، ويعيش بين أمريكا ومصر ودول العالم التي مازال يجري بها أبحاثه حتى الآن، وشعاره دائما: “المعرفة تولد الثقة، أنا لا أقول شيئا أبدا إلا بعد دراسته جيدًا”.