على الرغم من أن المهاتما غاندي كان قد أعلن صراحة أنه: “لا يوجد شيء اسمه الغاندية Ghandism، ولا أريد أن أترك أي مذهب من بعدي، ولا أزعم أنني اخترعت مبادئ أو تعاليم، كل ما فعلته ببساطة أنني حاولت بطريقتي تطبيق الحقائق الأبدية على حياتي ومشكلاتي اليومية، والآراء التي كونتها والخلاصات التي توصلت إليها ليست نهائية، وربما أغيرها غدا، ومن ثم فليس لدي جديدا أعلمه للعالم، فالحقيقة واللاعنف هي مبادئ قديمة قدم التلال”.. على الرغم من ذلك فقد أنبتت البذور الطيبة في فلسفته ونموذج حياته شجرة وارفة الظلال من ثنائية الفكر والحركة التي تستهدف أنسنة العالم، شجرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
Table of Contents
لويس كامبانا.. الشجرة التي تنفع الناس
والكاتب وصانع الأفلام الوثائقية والناشط الفرنسي لويس كامبانا Louis Campana هو أحد ثمار تلك الشجرة، والتي لا تفتأ تنفع الناس. ولد لويس في ماروستيكا بإيطاليا في يوليو من عام 1946، وفي عام 1947 هاجرت أسرته إلى فرنسا، وهناك بدأت علاقته بفكر غاندي عام 1970 بعد قراءته لكتاب الإيطالي الفرنسي لانزا ديل فاستو Lanza del Vasto عن فينوبا بافى Vinoba Bhave أحد أهم أتباع غاندي المباشرين، فقرر بعده الالتحاق بـ”مجتمع السفينة Community of the Ark” الذي أسسه لانزا في فرنسا، كان لانزا نفسه تلميذا لغاندي، حيث التقى به عام 1937 في الهند، وعندئذ طلب منه غاندي تعزيز ثقافة اللاعنف في أوروبا.
لويس كامبانا ومجتمع السفينة
أمضى لويس في “مجتمع السفينة” – والذي عرف أيضا بمجتمع الغانديين في الغرب – مدة ثماني سنوات (1970 – 1978)، وخلال هذه الفترة شارك في مظاهرات غير عنفية وفي صوم منظم للاحتجاج على التجارب النووية الفرنسية وتوسيع معسكر للجيش في لارزاك بفرنسا، وقد عاش في المجتمع معتمدا على الحكم الذاتي الكامل لنفسه، ومساهما في الاكتفاء الذاتي للمجتمع، كما أوصى غاندي، حيث كان مسئولا عن الإنتاج الزراعي للمجتمع، وخلال تلك الفترة أيضا قام بدراسة فلسفة غاندي ودراسة الميتافيزيقا في فلسفة أفلاطون، وأرسطو، والقديس توما الإكويني. وفي عام 1978 أنشأ جمعية Mosaic، التي كانت مهمتها استقبال ورعاية “الأشخاص المعاقين اجتماعياً” (من مدمني المخدرات والكحول، والبغايا، والمشردين)، حيث كانت الجمعية تستقبل ما بين 700 و 1000 شخص كل عام.
لويس كامبانا وأول رحلة للهند
وفي عام 1999، قام كامبانا بأول رحلة له إلى الهند، حيث أنتج فيلمًا وثائقيًا بعنوان “الإرث الغاندي اليوم في الهند”، والذي تم بثه على قناتي التلفزيون الفرنسيتين. وفي عام 2001، أسس جمعية شانتي Shanti Association للترويج لفكر غاندي من خلال الأفلام الوثائقية بالتعاون مع فرانسوا فيرليهFrancois Verlet ، والذي شارك معه في نفس العام في إخراج الفيلم الوثائقي “يمام الظل Doves of the Shadow” حول اللاعنف في إسرائيل وفلسطين. وفي عام 2003، أنتج فيلما عن لانزا ديل فاستو، كما شارك في صيام احتجاجي لثمانية أيام في درجة حرارة عشر درجات تحت الصفر أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك، للضغط على الدبلوماسيين لمنع القصف الأمريكي للعراق.
لويس كامبانا والعمل اللاعنفي
وفي الفترة من 2003 إلى 2007، أدار وكتب في “أخبار من السفينة”، المجلة نصف الشهرية لمختلف فروع مجتمعات السفينة. وبصفته عضو ناشط في لجنة المجتمع لتنسيق العمل اللاعنفي، أنتج الفيلم الوثائقي “أفريقيا المنتهكة، أفريقيا المنكسرة، ولكن أفريقيا المحررة؟” حول الناشطين غير العنفيين في بوركينا فاسو، وكان وراء إنشاء جمعية شانتي أوريسا بوركينا، وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى مساعدة القرى الفقيرة في بوركينا فاسو، بدعم مشروع تعليم غاندي لـ 500 طفل.
غاندي الإيثارية
وفي عام 2004، شارك في المنتدى الاجتماعي العالمي في بومباي والتقى فيه مع الغانديين من جميع أنحاء العالم، والتقى أثناء إقامته للمرة الثانية مع بابا أمتي Baba Amte؛ أحد تلامذة غاندي، وأعجب بتجربته المعروفة باسم أناندوان Anandwan، وأخرج عنهم فيلمه الوثائقي “غابة بهيجة.. أو عالم آخر ممكن”، والذي يدور حول مجتمع مرضى الجذام هناك، حيث يقوم مجتمع أناندوان بتجريب فلسفة غاندي الإيثارية لصالح مجموعة بشرية عادة ما تكون منبوذة من قبل المجتمع الهندي. وما بين عامي 2004 و2005 شارك إلى جانب خوسيه بوفيه في ستة فعاليات احتجاجية ضد الأغذية المعدلة وراثيا مع متطوعين قاموا باقتلاع الذرة المحورة وراثيا، وعن هذا الموضوع أخرج فيلمه: “العصيان المدني هو نفس الديمقراطية”. وفي عام 2005 شارك في مؤتمر السلام واللاعنف الذي نظمه معهد الدراسات الغاندية في واردا Wardha بالهند، وفي العام التالي، اقترح على قادة المعهد مؤتمرًا دوليًا للاعنف احتفالا بالذكرى الستين لرحيل غاندي، وفي هذه المناسبة أسس جمعية غاندي الدولية Ghandi International Association.
مسيرة المعدمين
وفي عام 2008 انعقد المؤتمر الدولي للسلام واللاعنف الذي اقترحه، والتقى فيه أكثر من 150 ممثلا للحركات غير العنفية في العالم من أجل التعرف على بعضهم البعض، والتواصل، والتضامن وتخطيط الإجراءات المشتركة الرئيسية للتدريب في مجال اللاعنف والاستراتيجية اللاعنفية لمقاومة انتهاكات العولمة وإيجاد حلول غير عنيفة لمشاكل البؤس والاستبعاد والاستيلاء على الموارد.
وفي غضون ذلك، التقى كامبانا براجاجوبال، زعيم الحركة الهندية للمزارعين بلا أرض إيكتا باريشاد Ekta Parishad، وشارك في عام 2007 في مسيرتهم اللاعنفية الكبيرة، والتي أخرج عنها مع فرانسوا فيرليه فيلمه “مسيرة المعدمين The March of the beggars”، والذي تم عرضه عدة مرات في أوروبا في السنوات التالية؛ وكان الفيلم نقطة البداية لصداقة قوية وتعاون طويل مع راجاجوبال، حيث نظم جولات محاضرات مع الزعيم الهندي في أوروبا، وشارك معه لعدة سنوات في منتدى Ekta Europe. وفي الرابع من نوفمبر عام 2008، حصل لويس كامبانا على جائزة جامنالال باجاج Jamnalal Bajaj لمساهماته في الترويج لفلسفة غاندي حول العالم.
نحو اقتصاد غير عنيف
وفي عام 2009 التقي في كولومبو مع إيه تي آريارنتى AT Ariyaratne زعيم حركة Gandhian Sarvodaya Shramadana، في سريلانكا؛ والتي أعد عنها فيلمه الوثائقي الجديد مع فرانسوا فيرليه: “سارفودايا شرامادانا، نحو اقتصاد غير عنيف”، والذي عرض في السنة التالية.
وفي عام 2010، اقترح لويس كامبانا على إيكتا باريشاد تعزيز الصلة مع جمعية غاندي الدولية من خلال التنظيم المشترك لمنتدى دولي كبير في بوبال بالهند بعنوان “نحو اقتصاد غير عنيف”، ضم أكثر من 180 شخصًا من عشرين دولة مختلفة. وفي يونيو 2011 نظم نسخة ثانية من هذا المنتدى بفرنسا للإجابة على سؤال تلبية الاحتياجات والجشع المتنامي، وما هو الطريق لاقتصاد غير عنيف؟ مع أكثر من خمسين متحدثًا أوروبيًا.
كامبانا.. مسيرة ضد البؤس
وفي عام 2012، شارك كامبانا في مسيرة ضد البؤس استغرقت شهراً واحداً شارك فيها أكثر من 100 شخص للتحدث عن المشكلة الغذائية العالمية، مشيراً إلى الخلل في طريقة تخصيص الأراضي في فرنسا، وكان هذا الحدث موضوعا لفيلم وثائقي آخر مع فرانسوا فيرليه: “1001 انتصار للعالم”، صدر في عام 2013. وفي عام 2016، وبعد تبادل لإطلاق النار في ولاية آسام (الهند) ، نشر لويس كامبانا وفرانسوا فيرليه فيلمهما “أوتونوميا..عنف الدولة والإرهاب”، وهو فيلم وثائقي عن تحويل الجماعات شبه العسكرية إلى اللاعنف في شمال شرق الهند.
على مدى 48 عاما إذا، لم يكل لويس كامبانا ولم يمل، وتحرك حاملا مبادئ الفلسفة الإنسانية للمهاتما غاندي سواء في شقها الخاص بالحقيقة واللاعنف أو في قيمها الاقتصادية، إن بالكلمة المكتوبة أو بالفيلم الوثائقي، أو بإنشاء المؤسسات، أو بالفعاليات التي تسعى من أجل عالم أكثر إنسانية وعدلا وأقل عنفا وظلما.
د/ مجدي سعيد