مايك روسيتر في «الجاسوس الذي غير العالم
يعتبرُ البعض ان الحدث التكنولوجي والسياسي الأهم في منتصف القرن العشرين كان صناعة القنبلة الذرية في المعسكر الغربي وإنتقالها إلى الاتحاد السوفييتي الشيوعي، خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، لكون علاقات الدول الكبرى ببعضها تغيرت بعد هذا الحدث وأصبحت الصراعات والحروب أكثر خطورة. فمن كان كبار صانعيه وكيف تم ذلك؟
صدر مؤخرا كتاب بالانكليزية يتحدث عن دور عالم ألماني هاجر إلى بريطانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، بسبب ميوله الشيوعية المعادية للنازية، حيث أتاح له نبوغه العلمي القيام بالدور الرئيسي بعد ذلك في صناعة القنبلة الذرية بعد إنتقاله إلى أمريكا، ونقله أسرار هذه الصناعة إلى بريطانيا والاتحاد السوفييتي.
هذا العالم، كلاوس فوكز، الذي روى قصته مايك روسيتر، الكاتب البريطاني البارز في صحيفة «صنداي تايمز» في كتاب بعنوان «الجاسوس الذي غير العالم». عن دار «هيدلاين» البريطانية، بذل مجهوداً كبيراً لانتصار قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على النازية وحلفائها ولكنه ربما ألبسَ ثوبَ الجاسوس وقضى تسع سنوات من حياته في السجن في بريطانيا قبل الإفراج عنه وانتقاله إلى ألمانيا الشرقية حيث توفي عام 1988.
السؤال الأهم الذي يطرحه الكتاب هو: هل كان فوكز بالفعل جاسوساً للاتحاد السوفييتي خلال عمله في مراكز الأبحاث النووية الأمريكية والبريطانية في أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات، أم أنه ظن انه يخدم جميع الدول التي كانت متحالفة مع الحلفاء وأمريكا في الحرب ضد النازية والتي تشمل الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وغيرها؟
والسؤال الثاني الذي يركز عليه روسيتر في الفصول الأخيرة من الكتاب هو التالي: إذا كان كلاوس فوكز قدّم المعلومات النووية الدقيقة والهامة إلى قادة الاتحاد السوفييتي ولزملائه في مراكز الأبحاث النووية في بريطانيا فلماذا تم غض الطرف عما فعله في فترة مطلع الاربعينيات، وانطلقت محاكمته في أواخرها بإيعاز وتدخل من «مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي ومديره المتشدد جي ادغار هوفر، وتقديم أدلة ضده كانت متوافرة سابقا ولم تُستخدم؟ ولماذا قدّم فوكز اعترافاته الكاملة بكل صراحة لجهاز الاستخبارات البريطاني؟ وهل فعل ذلك ظناً منه ان هذا الجهاز والحكومة البريطانية كانا مدركين أن بريطانيا استفادت من أبحاث ومعلومات فوكز التي قدمها لها، علناً وسراً، عن أسرار صنع القنبلة النووية وخصوصا بعدما منحته الحكومة الجنسية البريطانية وانه إذا كان جاسوساً بالفعل، فربما تجسس لبريطانيا ولروسيا الاتحاد السوفييتي لأسباب أيديولوجية وبسبب ما عاناه في مطلع الثلاثينيات في ألمانيا من تصاعد دور هتلر والنازية وتنكيلهما برفاقه الشيوعيين الألمان؟
في مقدمة الكتاب يتساءل روسيتر عما إذا كان كلاوس فوكز بالفعل جاسوساً هاماً في تاريخ العالم الحديث؟ ويستند في جوابه بنعم على زيارة قام بها المؤلف في السنوات الماضية إلى جهاز الاستخبارات الروسي الحالي والذي كان اسمه (NKGB) آنذاك، في مطلع الأربعينيات. كما يحاول الغوص في وثائق وكالة الاستخبارات البريطانية المتوافرة حول دور فوكز في تلك الحقبة ويتوصل إلى نتيجة أن هذا العالم الألماني النابغة لعب دوراً رئيسياً في صناعة القنبلة النووية ومن بعدها الهيدروجينية للدول الثلاث التي كانت متحالفة في الحرب العالمية الثانية. وقام فوكز بذلك من خلال دوره كعالم في الفيزياء والعلوم الحسابية متفوق على غيره، وأصبح ضحية وسُجنَ عندما خشيت هذه الدول أن تطوّر إحداها صناعتها النووية على حساب الأخرى. وبرغم ذلك ظل اختصاصيو وخبراء الصناعة النووية في الغرب يستشيرونه وهو داخل السجن بين عامي 1950 و1959 نظراً لأنه كان أهم عالم و»جاسوس» في القرن العشرين: الجاسوس الذي غير العالم!
في أول استجواب أمني أجري مع فوكز بعد عودته من أمريكا للعمل في مركز هارويل للأبحاث النووية في مقاطعة اوكسفوردشاير البريطانية وذلك في 19 كانون الأول/ديسمبر 1949 سأله المحقق ويليام جيمس سكاردون عن نشاطات شيوعيين ألمان هاجروا إلى بريطانيا وعن مكان وجود والد فوكز وعمله، في تلك الحقبة، وسبب إقامته في الجزء الروسي من ألمانيا، وعن حضور فوكز الابن مؤتمرات نظمتها الأحزاب الشيوعية الأوروبية في أماكن مختلفة من أوروبا الغربية وفي كندا وأمريكا، ثم فاجأه بسؤاله عما إذا كان التقى مسؤولاً سوفييتيا دبلوماسياً خلال زيارته نيويورك مطلع أربعينيات القرن الماضي وسلمه معلومات عن عمله وأبحاثه فأجاب فوكز بالنفي. كما سأله عما إذا كان يعرف موظفاً في السفارة السوفييتية في أوتاوا انتقل إلى المعسكر الآخر وذكرَ اسم باحث انتمى إلى الحزب الشيوعي الكندي وكانت في حوزته مذكرة تحمل اسم فوكز. وادعى هذا الموظف ان الباحث المذكور كان جاسوسا. فنفى فوكز معرفته بالدبلوماسي والباحث، وأدرك ان الشبهات تحوم حوله، فقرر انه إذا استجوب في أي مقابلة ثانية فإنه سيعلن الكثير من معلوماته ظناً منه أن المؤسسة الأمنية النووية البريطانية لن تتخلى عنه بسبب دوره الأساسي في أبحاثها، وأنها تدرك أنه لن يخونها.
في الفصل السابع من الكتاب وعنوانه: «السر الأكبر» يقول المؤلف انه وبعد اتخاذ فوكز القرار بتزويد سكاردون بمعظم معلوماته بصراحة اعترف لمستجوبه أنه التقى عميلا في الاستخبارات العسكرية السوفييتية اسمه سيمون كرايمر، كان سكرتيراً للملحق العسكري السوفييتي في لندن، في مكان ما في لندن وأنه لم يكن يدرك أهمية دوره الاستخباراتي، وطلب منه نقل المعلومات التي سيزوده بها إلى الزعيم السوفييتي جوزف ستالين شخصياً، وأن توضع هذه المعلومات على طاولة ستالين. كما أبلغ فوكز كرايمر في اللقاء انه يقدم هذه المعلومات لأسباب أيديولوجية وليس لأي منفعة مادية شخصية. ويشير المؤلف إلى ان تاريخ هذا اللقاء مع كرايمر كان على الأرجح بعدما أصبح الاتحاد السوفييتي حليفاً لبريطانيا في قوات الحلفاء (أي بعد عام 1941) وبعدما تعرض الاتحاد السوفييتي لغزو ألماني من قوات هتلر. أي ان فوكز ربما فعل ما فعله للمساهمة في هزيمة عدوه اللدود هتلر ونظامه النازي الذي حَرمَه من العيش وممارسة معتقداته في مسقط رأسه ألمانيا. وقد جعل فوكز الاتحاد السوفييتي ثاني دولة نووية في العالم، بعد أمريكا، ناقلاً إلى قادته أهم أسرار القرن العشرين.
ويتطرق الكتاب في الفصلين (12) و(13) إلى المداولات في القيادة الأمريكية، بعد التأكد من صناعة القنبلة النووية عما إذا كان في الإمكان استخدامها ضد أهداف مدنية ومدى الأضرار والضحايا التي ستحدثها في المدن المأهولة التي ستقصف بها. ويُظهر الكاتب أن مثل هذه القرارات لم تتخَذ من منطلق إنساني متحفظ بالنسبة لإمكان إزهاق عشرات الآلاف من الأرواح، بل كان الأمر الأهم هو ما إذا كانت القنبلة فاعلة وإذا ما كانت ستؤدي إلى إنهاء الحرب مع اليابان بسرعة أكبر! وبالتالي فان ما فعله فوكز يكتسب أهمية إضافية، فلو لم يحصل الاتحاد السوفييتي على القنبلة الذرية ومن بعده دول أخرى لربما استخدمتها أمريكا في أماكن أخرى من العالم خلال وبعد الحرب «الباردة» وحولتها إلى حرب «ساخنة» مدمرة، وخصوصا في وجود أشخاص يفكرون بطريقة الرئيس الأمريكي السابق هاري ترومان، الذي أمر بالقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان.
وفي الفصل (25) وعنوانه «المُحاكمة» لم يجرؤ محامي فوكز ديريك كيرتس براون، على طرح إمكانية ان يكون عميل الاستخبارات سكاردون استدرج فوكز لأن يقدّم اعترافات مفصلة جاعلاً إياه يشعر أن يريطانيا تقدّر ما فعله لها وما زودها بمعلومات قيّمة لتنتج قنبلتها النووية فيما بعد. كما تردد المحامي في إدراج الوقائع في مداخلته عن أن فوكز اعتقد انه يقدّم المعلومات النووية لدولة صديقة وحليفة (الاتحاد السوفييتي) كان عليها ان تواجه هجوماً نازياً سيؤدي ربما إلى هزيمتها. كل ما قاله المحامي دفاعاً عنه كان ان إنتماء فوكز الشيوعي كان حافزه الأساسي. وخشي المحامي أيضا غضب الاستخبارات البريطانية وردّة فعل مكتب الأبحاث الفدرالية الأمريكي إذا طرح مثل هذه الأسئلة التي قد تؤدي لإضطرار القاضي المتشدد اللورد غودارد إلى إعلان براءة فوكز ومحاسبة وكالة الاستخبارات على استخدامها له في مشروع دقيق وحساس كمشروع التسلح النووي بالرغم من ماضيه وتعاطفه مع الشيوعية. كما ان أمريكا، في مطلع الخمسينيات، فضلت ان يذهب فوكز إلى السجن، بعد إنطلاق الحرب الباردة، على ان يستمر في تزويد الاتحاد السوفييتي بمعلومات عن القنابل النووية والهيدروجينية، وربما خشيت أيضا ان يستمر في تزويد بريطانيا بمثل هذه المعلومات، من دون موافقتها. فحكَمَ القاضي على فوكز بالسجن 14 عاماً بدلاً من الإعدام، الذي يُحكَم به المتهم لدى اثبات تهمة الخيانة العظمى، وقضى تسع سنوات في السجن من أصلها ثم عاد إلى ألمانيا الشرقية. وبالتالي اعتقدت أمريكا تقديمه المزيد من المعلومات السرية لخصومها ولحلفائها وضمنت بقائه مسجوناً ومتوافراً لتقديم المزيد من المعلومات العلمية النووية القيمّة في حال إحتياجها لها، حيث انه كان وبقي أهم عالم نووي في العالم رغم ما تعرض له، كما تجنبت بريطانيا الوقوع في أزمة دبلوماسية مع أمريكا حول الموضوع. ويؤكد الفصل (26) من الكتاب ان فوكز وُعِدَ بعدد من الأمور لتسهيل اعترافاته، ولكن العكس تماما حدث إذ أن جنسيته البريطانية التي كانت أعطيت له، سُحبت منه. كما يشير الفصل (27) إلى ان أبحاث كلاوس فوكز النووية ساهمت في إنتاج القنبلة الهيدروجينية لاحقاً، في أمريكا (1953) والاتحاد السوفييتي (1955) وبريطانيا (1957) كما انه حتى عندما كان مسجونا طلبت مشورته في قضايا نووية دقيقة. وقد تبين في فترة بحث لاحقة للمؤلف أنه ربما أعطى السوفييت المعلومات عن القنبلة النووية، ولكنه أبقى معلوماته عن إمكان صناعة القنبلة الهيدروجينية سرية، ربما تحوطاً لما قد يحدث في المستقبل.
ولم يكرّم الغرب فوكز، كما لم يكرمّه الاتحاد السوفييتي، كما كرّم جواسيس آخرين بقوا على قيد الحياة وعادوا لاحقاً إلى المعسكر السوفييتي.
ويؤكد المؤلف ان جميع الأسرار عن فوكز مدفونة في بريطانيا وليس في روسيا وأنه لم يعتبر نفسه جاسوساً ضد بريطانيا، لدى وجوده في أمريكا، بل على العكس اعتقد انه يخدم بريطانيا أيضاً بتوفير معلوماته لها وللاتحاد السوفييتي، حليفها آنذاك. واعتقد ان مستجوبيه أدركوا هذا الأمر! فماذا حدث بالفعل؟
القدس العربي, سمير ناصيف