عشرات السنين وهو يعمل بين جنبات واحته التي كانت مدينة مهمة عبر التاريخ فقد شهدت اعتداءات كثيرة في العصر الحديث، وتمثل أعماله لتاريخ من النحت المصري القديم والمعاصر، الذي قدم فنانا قادرا علي السيطرة الكاملة والظاهرة علي مصادر الحس الفني والعناصر المكونة له، ولأن النحات عليه أن يدرك مدى الرقة والرهافة المطلوبتين لتنغيم الفراغ مع الأشكال المجاورة، وصناعة حوار تشكيلي يملك من البلاغة ما يمكن أن تملكه اللغة، كان مبروك إسماعيل نموذج لذلك الفنان القادر على تشكيل لوحات تجمع بين الرقة والحوار.
عرض مبروك إسماعيل أكثر من أربعين قطعة نحتية من الصلصال تجسد كل واحدة منها روحا شديدة الصدق والشفافية في آخر معارضه التي أقيمت في القاهرة، حتى لتكاد مسجماته أن تتحرك، والجديد في تلك المنحوتات هو تلك التفاصيل التي تغيب عادة عن الأعمال التكوينية الجصية، غير أننا لدي مبروك إسماعيل نلمح عروق اليد، وتجاعيد الجبهة وتفاصيل الشارب واللحية، وحركة العين وأوضاع القدم وثنيات الجلباب وكرمشاته والضحكات وتأثيرها علي حركة عضلات الوجه، وذلك في صورة شديدة السلاسة والصدق، جعلت المسافة التي تربط بين المشاهد والمنحوتات شديدة التقارب.
لقد اختار مبروك إسماعيل شخوص منحوتاته من قلب الريف المصري فمعظم الوجوه فلاحية ترتدي الطاقية والجلباب والكوفية أو العمامة، وذلك في أوضاع وصور مختلفة، كما أن التفاوتات البادية علي ملامح الشخوص ليست كبيرة، فتجمعها صفات عامة مثل خشونة وكبر حجم الكفين، وسمرة البشرة وجهامتها في معظم الحالات، والنحافة.
من جانب آخر ينقل مبروك إسماعيل فلاح الواحات من صورته الغامضة إلي واقع الحياة العامة الضاجة بالحركة، فيقدم نماذجه في حالات مختلفة مرة خلال جلسات السمر الليلي، ومرة علي سجادة الصلاة، ومرة أثناء التقاط صورة عائلية، وامرأة تختفي خلف ثوب عريض لترضع ابنها، وعازف العود الذي يرتدي القبقاب والبيجامة المتواضعة والطربوش القديم.
وعلي الرغم من أن مبروك إسماعيل لم يختر الأحجام الكبيرة لتماثيله، إلا أن مناسبة كتلته لمساحة الفراغ تعكس قدرة فنية رفيعة ورهيفة في الوقت نفسه، ويتضافر ذلك مع الكثير من الدقة والصدق مما جعل العمل الفني يتقدم إلى قلب المشاهد دون وسائط. ويشير الدكتور صبري منصور إلى أن عبقرية الفن الفرعوني دفعت الكثيرين إلى البحث خلف أصابيره، مثلما فعل المصور الفرنسي الشهير بول بوجان ، ويعتقد منصور أن الفنان الفرعوني وصلت مهارته إلى استعمال الخطوط بدرجة أذهلت المتخصصين والناسخين لنماذج الفن الفرعوني، وتقول الرسامة نينادافيز :
إن عمل الفرشاة الدقيق للمصريين القدماء ليثير الدهشة، حينما ننظر إلي وسائلهم في التنفيذ، ومن المؤكد أنهم قد حصلوا علي هذه الدقة في الخطوط بواسطــة استعمال أعواد البوص المبري، وينقل صبري عن الرسامة تساؤلا: كيف كان يمكن رسم أطوال مستمرة غير منقطعة بخطوط متساوية في السمك علي السطح المعد للتصوير، وتجيب بأن ذلك سيظل سرا غامضا بالنسبة للناسخ الحديث.
ولم يكن مبروك إسماعيل فقط هو آخر الفنانين الذين تأثروا بالمنحوتات الفرعونية، إذ انطلقت الرحلة قبله بكثير، لا سيما مع انطلاق مدرسة الفنون الجميلة التي انطلقت عام 1908 وخرجت أولي دفعاتها عام 1911، حيث وضع محمود مختار أولي لبنات استعادة فن النحت المصري ثم وصل به إلي مستواه الرفيع الذي تمخض عن عدد من الأعمال المهمة التي يأتي علي رأسها تمثال نهضة مصر، ثم جاء بعد ذلك رعيل من الفنانين الكبار والمجايلين مثل محمود موسي في الإسكندرية وعبدالبديع عبد الحي في القاهرة.
ولا شك أن فن محمود مختار ومن أتي بعده استفاد من التجسيم الفرعوني استفادة قصوي نظرا لما ميز هذا الفن من سمات لها طبيعة المعاصرة حسبما يشير الدكتور صبري منصور الذي يقول ان الطريقة التي التزم بها الفنان في إنشاء الوجه والأقدام والصدر هي الطريقة الأمامية، وهي ـ كما يقول جان كابارت الذي ينقل عنه منصور ـ حيث يعتمد علي إبراز الشكل علي أكمل وجوهه، فخير شكل يبدو عليه الوجه هو من جانب، وخير شكل تبدو عليه العين هو أن تكون ناظرة إلي الأمام فترسم بأكملها علي جانب الوجه بالرغم من قواعد المنظور، ويضيف أن أفضل شكل للجذع هو أن يكون متجها إلي الأمام، وأجمل شكل للقدمين يكون في وضعها الجانبي لكي يتسنى للمشاهد أن يراها كاملة، ويري أن الأصل عند الفنان ليس محاكاة الواقع علي حقيقته، وإنما إبراز الأشكال في أجمل وأكمل أوضاعها.
ويؤكد الدكتور صبري منصور أن الفن الفرعوني في مجال النحت حقق إنجازا هو بكل المقاييس الفنية إعجاز بشري في مجال هذا الفن ولا يدانيه أي طراز نحتي من نتاج أية حضارة أخري سواء كان نحتا مجسما قائما في الفراغ، أو كان نحتا بارزا أو غائرا أو متصلا بالبناء المعماري ويضيف انه قد تحقق فيه كل ما ينبغي أن يتحقق في عمل فني نحتي، والعظمة والجلال صفتان لازمتان للنحت الفرعوني وقد تلازمه والرقة والعذوبة.
ويبدو الفنان المصري الذي قدم منحوتاته عبر التاريخ مؤكدا ـ بصفة مستمرة ـ علي تلك المعاني التي نجحت في تطوير المعايير التي يعتمد عليها الفن الفرعوني لا سيما في جانبه الكهنوتي المقدس الذي أثر علي شكل وحجم المنحوتات، وانتقل الفن مع التطور العلمي والتقني والحضاري الي مناطق اكثر تفاعلية، فعبر عن طبقات اجتماعية مهمشة ومؤثرة في الوقت نفسه كما يتبدي بشكل جلي في أعمال مبروك إسماعيل مبروك.
وقد أقام مبروك العديد من المعارض في مصر والخارج منذ عام 1971 حيث بدأ أول معرض له بنقابة الصحافيين، ثم المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة، ومعرض المركز الثقافي للدبلوماسيين الأجانب، معرض المركز الثقافي اليوغسلافي، ومعرض المركز الثقافي الالماني غوته، ومعرض نادي التحرير في عام 1987.
كذلك أقام إسماعيل مبروك عددا من المعارض خارج البلاد منها معرض زغرب بيوغسلافيا عام 1973، وبلجيكا عام 1980، وكندا ومونتريال وكيبك وتورنتو عام 1981 و1982، والولايات المتحدة ولوس انجلوس وكاليفورنيا ولاس فيغاس، وهوليود وشيكاغو عام 1983، وفرنسا ومدينة نيس، وألمانيا وفرانكفورت وروما.
وقد قام الفنان إسماعيل مبروك بتكليف من وزارة الثقافة بتنفيذ أعمال المتحف التراثي الشعبي والحضاري بالواحات الداخلية، كما أقام تمثالا نصفيا للفنان الشعبي زكريا الحجاوي.
وقد حصل مبروك علي العديد من الجوائز وشهادات التقدير، منها الشهادة التقديرية من الدولة في عيد الفن والثقافة 1982، كما حصل علي منحة التفرغ من الدولة لمدة ثلاث أعوام من 75.
وكتبت جريدة الكورييري ديلاسيرا عن معرض مبروك بروما تقول: انه فنان يتمتع بأصالة جعبته، إن تماثيله الفخارية بمسحتها الفنية العريقة لتنطق بمهابة كهنوتية تلقائية، من يتأملها يخيل إليه أن الرمال قد صهرت أجسادها مع عدم المساس برأسها وذلك يوضح لنا رسالة الحكمة والوداعة التي تزخر بها حياة تلك الأماكن، وهو فنان يتمتع بالخيال الخصب والإبداع التلقائي الشعبي الذي ينم عن أصالة وتفرد.
وتضيف الجريدة قائلة: انعكست حياته في الواحات وتأمله لما حوله من الطبيعة الخلابة علي أعماله الفنية التي ترك عليها بصماته البسيطة الطيبة فكان لها من الثراء الفني والأصالة الفنية ما لا يباريه أحد فيه، وتختتم الجريدة حديثا عن مبروك بالقول:
فكل قطعة نحتها الفنان مبروك أخلص لها وأعطاها من روحه وإحساسه الصادق العميق تكاد تنطق لتحكي لنا موضوعا من الموضوعات في حياة الواحات بكل تلقائية وتدقق بل إنها صارت توثق بعضا مما كان يحدث قديما.