محمد مارمادوك بيكتال | كان نسيجا وحده، وصفه كاتب سيرته بيتر كلارك بأنه “كان بلا موجه، وبلا تلاميذ، ولم يكن جزءا من حركة، لكنه كان مراقبا نزيها وواعيا، ومتواصلا واضحا ونشطا، وعلى الرغم من وقوعه في بعض الأحيان في سوء التقدير، لكن إدراكه لم يشوهه النجاح، ولا التحقق ولا الرضا عن النفس”، إنه مارمادوك بيكتال أو محمد مارمادوك بيكتال Mohammad Marmaduke Pickthal الأديب والكاتب الصحفي، الذي يعرف أكثر ما يعرف بترجمته لمعاني القرآن، والتي كانت أول ترجمة يقوم بها بريطاني مسلم، حيث نشرت عام 1930، وكان كل ما سبقها من ترجمات قد قام بها مستشرقون.
Table of Contents
مولد محمد مارمادوك بيكتال
ولد مارمادوك في لندن في أبريل من عام 1875، لأب ينتمي إلى رجال الدين الأنجليكانيين، وأم من أصول أيرلندية، وعاش طفولته في ريف مقاطعة سوفولك إلى الجنوب الشرقي من لندن، وعندما توفي والده وهو ابن خمس سنوات، انتقلت الأسرة إلى لندن، وهو ما مثل صدمة نفسية للصبي الصغير من بلد شاعري إلى منزل بارد ومدينة بائسة، وهو ما كان بمثابة ضربة عميقة للروح كما عبر عبد الحكيم مراد في السيرة الموجزة التي كتبها عن بيكتال.
محمد مارمادوك بيكتال.. وتعلم اللغات
وفي لندن ازداد خوف مارمادوك من الأماكن المغلقة المقيدة الحرية عندما أدخلته أسرته مدرسة هارو الداخلية، وقد كانت من أسوأ تجارب حياته، لكن الأصدقاء فيها كانوا عزاءه الوحيد. وفي خلال تلك الفترة اكتسب شغفه بتسلق الجبال، وظهرت موهبته الفائقة في تعلم اللغات، والتي بدأها بتعلم اللغات الويلزية والأيرلندية، وبسبب تفوقه في اللغات كان يتطلع إلى الحصول على وظيفة في وزارة الخارجية، ولما لم ينجح في الحصول عليها، عاش فترة من الإحباط إلى أن دعاه أحد المعارف إلى الالتحاق به في فلسطين ليتعلم العربية على أمل أن يساعده ذلك في الحصول على عمل، وقد عاش عامين هناك من سن 18 إلى 20 عاما، يتجول بحرية بين أهالي فلسطين ولبنان وسوريا، فكأنما أشرقت روحه من جديد، حيث ملك حب الشرق وشعوبه عليه قلبه، وهناك أتقن العربية، وافتتن بالإسلام، وبشعور عامة الناس بالحرية والرضا.
محمد بيكتال.. وحبه للضوء
وفي عام 1896 عاد بيكتال إلى لندن، وتزوج ومن ثم سافر إلى جنيف، وهناك تابع أوساطها الأدبية، وافتتن بجمال طبيعتها، يقول عبد الحكيم مراد عن تأثير تلك الفترة عليه:
عند شواطئ بحيرة ليمان، اكتسب الروائي المنتظر حبه للضوء، والذي أصبح فيما بعد أحد نقاط القوة والسمات المميزة لنثره الناضج. وهنا أيضا، طور هذا الإحساس بهشاشة، وحتى عدم واقعية، الطبيعة المرصودة، والطبيعة السطحية لمرور الإنسان إليها، بما أثري رواياته، وزاد من استعداد قلبه للإسلام”.
محمد بيكتال وبداية النشر
وفي عام 1898 وبعد عودته إلى بريطانيا نشر أول قصصه القصيرة، ونشر أولى رواياته من وحي إقامته في سويسرا، لكنها لم تلق نجاحا، واضطر لسحب نسخها. وفي عام 1903 نشر ثاني رواياته والتي كانت من وحي سفره الأول لفلسطين وما حولها وهي رواية “الصياد سعيد” Said The Fisherman، والتي لاقت نجاحا كبيرا، وأثنى عليها المجتمع الأدبي حينئذ، ومن ثم توالت أعماله الأدبية التي عبرت عن أجواء الشرق، أو عن موطن طفولته في سوفولك.
محمد بيكتال في مصر
وفي عام 1907 دعته أسرة من رجال إدارة الاحتلال البريطاني لمصر إلى زيارتهم، ومن ثم جال في شمال مصر وجنوبها، ليخرج بمجموعة من القصص القصيرة ورواية “أبناء النيل” Children of the Nile. وبداية من عام 1909 بدأ مسيرة جديدة من خلال كتابة مقالات حول شئون الشرق الأوسط في عدة صحف، أبرزها صحيفتي “أثينيوم” Athenaeum و”نيو إيدج” New Age متناولا فيها أحدث الكتب والأعمال الأدبية عن تركيا وفلسطين ومصر، كما قام بمراجعة وتحرير كتاب صديقه القس الإنجيلي في دمشق جيمس هاناور James Hanauer والذي يتضمن مختارات من الحكايات الإسلامية والمسيحية واليهودية بعنوان “فولكلور الأرض المقدسة” Folklore of the Holy Land.
محمد مارمادوك بيكتال والتعاطف مع أمم الشرق
في مقالاته عن الشرق الأوسط أبدى بيكتال اهتماما وتعاطفا مع أمم الشرق، وخاصة الدولة العثمانية، وانتقد سياسات بلاده الخارجية التدخلية تجاهها، كما انتقد تناول الصحف البريطانية لتلك القضايا، خاصة ما يتعلق منها بالبلقان والأرمن. وفي عام 1913 أراد بيكتال أن يرى بعينيه ما يجري على الأرض، ومن ثم سافر إلى تركيا حيث أقم هناك بضعة أشهر يتجول في عدة مناطق، ويلتقي بشخصيات من الأتراك الجدد والاتحاديين، ومن الأجانب المقيمين هناك، ومن ثم نشر عدة مقالات في “نيو إيدج” جمعها عام1914 في كتاب بعنوان “مع الأتراك في زمن الحرب” With the Turk in Wartime ومع اقتراب الحرب انخرط بيكتال مع مجموعة من السياسيين والناشرين الذي أبدوا قلقهم مما يجري وبخاصة من سياسة بريطانيا تجاه الدولة العثمانية، والذين كونوا معا الجمعية الإنجليزية العثمانية Anglo-Ottoman Society في نفس العام. وخلال الحرب استمر في الكتابة داعيا للرجوع لسياسة دزرائيلي في الحفاظ على الدولة العثمانية، ومهاجما للأطماع الروسية فيها، وتبرأ من فكرة طلب مسيحيي البلقان الحماية البريطانية، وتكلم عن المزايا الإيجابية للأتراك ولثورة 1908، والتي ستعيد تجديد العالم الإسلامي، ومن ثم وبسبب مقالاته اعتبر من قبل الحكومة خطرا أمنيا.
إيماء إلى الأتراك
كانت تلك الفترة من الفترات العصيبة في حياته، حطمه مزاج الانتصار، وكما يعبر عبد الحكيم مراد فقد كان المزاج الإنجليزي المعبأ بالحرب المقدسة هو الذي أخرجه أخيرًا من إيمان آبائه. لقد كان يشعر دائمًا بعدم الارتياح مع تلك الترانيم الإنجليزية التي تلعن الكافر (إيماء إلى الأتراك).
العودة للكتابة الأدبية
في تلك الفترة أفرغ بيكتال همه في العودة للكتابة الأدبية، وفي دراسة الإسلام والقرآن، وفي محاضرة له في نوفمبر من عام 1917 أعلن بصراحة ووضح عن إسلامه، ومن ثم شيئا فشيئا أخذ مكانه وسط المجتمع المسلم في بريطانيا آنذاك، فألقى المحاضرات والخطب، وتولى إدارة الصحيفة الأسبوعية “ذا مسلم أوتلوك” The Muslim Outlook والتي كان يصدرها مجموعة من الهنود المسلمين في بريطانيا المخلصون لفكرة الخلافة، والتي اعتبرها الحكم البريطاني في الهند تهديدا خطيرا، ومن ثم فتح وضعيته تلك آفاقا للانتقال إلى المرحلة الأهم في حياته، حيث انتقل عام 1919 إلى الهند ليتولي تحرير صحيفة “بومباي كرونيكل” Bombay Chronicle في غضون ستة أشهر من توليه رئاسة تحرير الصحيفة، قلبها وضاعف تداولها، من خلال دعوة حكيمة ولكن حازمة للتطور الهندي نحو الاستقلال، كان بيكتال شريكا مقربا لغاندي، أيد رفض العلماء للمقاومة العنيفة للحكم البريطاني، ومعارضتهم للهجرة المتزايدة للمسلمين الهنود إلى أفغانستان المستقلة، وعندما عندما ظهرت الرابطة الإسلامية تحت قيادة شخصية جناح العلمانية، انضم بيكتال إلى السواد الأعظم من علماء الهند في رفض فكرة التقسيم، معلنا أن ملايين المسلمين العظماء في الهند هم أسرة واحدة، ويجب ألا يتم تقسيمهم أبدا. وهكذا أصبح هذا الإنجليزي المسلم زعيما قوميا هنديا، يجيد اللغة الأردية، ويحضر صلاة الفجر في المسجد، مرتديًا زي غاندي المصنوع منزليا والمزين بهلال الخلافة الأرجواني.، واستمر ذلك إلى أن أغلقت سلطات الاحتلال البريطاني الصحيفة عام 1924.
محمد مارمادوك بيكتال وخدمة الإسلام في الهند
ذهبت وظيفة بيكتال، لكن رغبته في خدمة الإسلام بالهند جعلته يقبل وظيفة مدير مدرسة للبنين في حيدر آباد التي كانت آنئذ إمارة مستقلة كأحد بقايا إمارات الحكم المغولي. في ذلك الوقت، كان أمير حيدر آباد منشغلا بتحويل عاصمته إلى واحة للثقافة والفن. وقد كان حماس أميرها وكرمه هو الذي مكّن بيكتال من إطلاق مجلة “إسلاميك كالشر” Islamic Culture، والتي حررها بيكتال لمدة عشر سنوات، وهي لا تزال مستمرة حتى الآن، تنشر في المدينة كواحدة من المجلات الأكاديمية الرائدة في العالم الإسلامي. وتحت إدارته، نشرت المجلة لمجموعة واسعة من العلماء المسلمين وغير المسلمين في مجموعة كبيرة ومتنوعة من الموضوعات. وخلال تلك الفترة أيضا وجه بيكتال مدرسة موظفي الخدمة المدنية في حيدر أباد، وفي في خضم نشاطه التعليمي والصحفي، تمكن من إيجاد الوقت لكتابة روايتين من وحي حياته في الهند.
الجانب الثقافي للإسلام
وفي عام 1926، وفي العام التالي قام بإلقاء مجموعة محاضرات في مدراس، نُشرت بعد ذلك في كتاب بعنوان “الجانب الثقافي للإسلام” The Cultural Side of Islam، والذي لا يزال يُقرأ على نطاق واسع في شبه القارة الهندية. لكن أهم ما أنجزه في فترة حياته الهندية والتي امتدت 16 عاما، هو قيامه بترجمة معاني القرآن الكريم بتكليف من الأمير وذلك حينما طلب منه التفرغ لذلك الأمر بداية من عام 1928، وبعد أن أتم ترجمته لمعاني القرآن حرص على السفر إلى مصر لاعتمادها من الأزهر الشريف، وبعد معركة فكرية مع الشيخ محمد شاكر الذي كان رافضا لمبدأ الترجمة، لكنه استطاع كسب المعركة عندما خاطب، باللغة العربية، حشدا كبيرا من العلماء، بمن فيهم الشيخ رشيد رضا، موضحا الوضع الحالي للإسلام في العالم، والإمكانيات الهائلة لانتشار الإسلام بين الناطقين بالإنجليزية، ومن ثم فقدت فازت حجته واستطاع أن يحظى بدعم شيخ الأزهر الأسبق الشيخ مصطفى المراغي.
معاني القرآن المجيد
ومن ثم طبعت الترجمة في الولايات المتحدة أولا ثم في بريطانيا، عام 1930 تحت عنوان “معاني القرآن المجيد” The Meaning of the Glorious Koran وحظيت بقبول واسع من المسلمين، وطبعت منها 7 طبعات حتى عام 2011، على الرغم من أن لغتها اليوم صارت لغة أحفورية بعض الشيء كما يقول الدكتور محمد عبد الحليم في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم.
في عام 1935 بدأت صحة بيكتال في الاعتلال، ومن ثم عاد إلى بريطانيا ليتوفى في مايو من عام 1936 عن عمر يناهز 61 عام، ويدفن في مقبرة بروكوود الشهيرة قرب لندن، تاركا خلفه تراثا كبيرا من الأعمال الروائية والقصصية والمقالات والمحاضرات فضلا عن أجل أعماله وهو ترجمته لمعاني القرآن الكريم.
د. مجدي سعيد