مصطفى جبر، حكاية عالم مصري وصفوه بأنه أعظم من أنجبت مصر في علم الطيران؛ رفض أن يعمل في أوروبا وأمريكا، أنه الدكتور مصطفى جبر، أستاذ هندسة الطيران بجامعة القاهرة، العالم الشاب الذي غيبه الموت، الشهر الماضي، فاكتست صفحات طلابه بالسواد.
يحكي عنه أحد تلاميذه قائلا:
عن رجل لن يتكرر:
لما كنا طلبة في هندسة طيران القاهرة، كنا نسمع عن طالب قبلنا أسطورة اسمه مصطفى عبد الله. لم يكن فقط الأول على القسم، بل على الكلية والجامعة كلها. القسم قديم وتم قفله وقت الحرب وافتتح ثانية. له تاريخ كبير. ومع ذلك لم نسمع عن طالب أسطورة إلا واحد فقط عبر السنين. عموما الأساطير التي كنا نسمعها كانت عن أساتذة من الزمن القديم: إبراهيم الدمرداش (من عائلة الدمرداش صاحبة المستشفى ومحطة القطار) والدكتور إسماعيل راشد والدكتور سيد دسوقي. كلهم أعلام بحق (مش مجرد دكاترة شاطرين). كان اسم “الطالب” مصطفى يوضع بجانب هؤلاء الأعلام.
لم نكن نعلم لماذا بالتحديد هو أسطورة. أي شئ سيقال من هذا القبيل سينقصه حقه. سيصوره كأول دفعة شاطر. هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة. لكني سأقول أنه كان في مرحلة البكالوريوس يقرأ ويعلم نفسه من تلقاء نفسه كتب الديناميكا الغير خطية لنايفة. في مرحلة البكالوريوس. تلك الكتب التي تعلمتها أنا في مرحلة الدكتوراة. ثانية، هذه النقطة غير كافية بالمرة ولكنها تعطيك فكرة عن سبقه الفكري والمعرفي لمرحلته.
Table of Contents
مصطفى جبر والالتحاق بجامعة فرجينيا
أين مصطفى يا شباب؟ تخرج وذهب للالتحاق بجامعة فرجينيا تك بالولايات المتحدة ثم رحل مشرفه إلى جامعة دلفت العريقة في هولندا وأكيد لم يكن ليفرط في جوهرته فاصطحبه معه حيث حصل مصطفى رسميا على شهادة الدكتوراة من دلفت. وطبعا عينوه أستاذا في دلفت التي هي من أعرق جامعات أوروبا في الطيران.
زار مصطفى مصر في واحدة من إجازات الصيف أثناء مناقشة مشاريع التخرج. جلس بجانبي وتعرفنا. قلت له “هو انت بقى مصطفى عبد الله اللي بيقولوا عليه؟!” ابتسم بتواضع جم. المهم. تحادثنا. اشتكيت له صعوبة الحصول على منحة دكتوراة. قال لي “انت بتاع كونترول. كلم كريج وولسي في فرجينيا تك”. بعثت لدكتور وولسي. رد وولسي
I’m curious how you know Mostafa? I have a great deal of respect for him — a wonderful student and a wonderful person.
المهم لظروف التمويل لم يأخذني وولسي ساعتها. ويشاء السميع أن ألتحق بفرجينيا تك في السنة التالية لأعمل مع العلامة الأكبر علي نايفة. ولحبي لشغل وولسي تعاونت معه في كثير من الأبحاث. ولم نتحدث عن مصطفى قط. إلا مرة واحدة. كنت ساعة التقديم على الوظائف. وولسي اقترح علي وظيفة في غير تخصصي. فقلت له هذه بعيدة عني. قال لي: “انت ينفع تشتغل في أي تخصص زي مصطفى ممكن يبحث في أي فرع من فروع العلم”. كانت سعادتي لا توصف. هو من تذكر علامتنا النابغة من تلقاء نفسه. إذا مصطفى الطالب طبع في ذهن وولسي أنه “طالب موسوعي”. نحن نسمع عن العلماء الموسوعيين في عصور ما قبل التخصص. لكني لم أسمع قط عن طالب موسوعي. ها هو ذا مصطفى يسطر مفهوما جديدا في طلب العلم. مفهوم يستحيل أن تباريه في العصر الحالي. الطلبة بالكاد تستطيع إتقان تخصصها هذا إن فلحوا أصلا. لكن أن تلم بخيوط اللعبة من أعلى. أن تعلم فلسفة وماهية كل تخصص وكيفية ارتباطهم ببعضهم دون الغرق في التفاصيل (التي تستطيع أن تحصلها وقتما احتجت لها). هذا هو المصطفى عبد الله.
جامعة زويل
وكان هذا جليا في جامعة زويل بعد رجوعه من هولندا. كان شايل القسم حرفيا: تحتاجون لمن يدرس لكم تحكم أمثل optimal control. حسنا سنجد الشخص المناسب من الجامعات المصرية. إن فشلنا سيدخل مصطفى ليدرس كأحسن دكتور في هذا التخصص. أنا أذكر مثال حقيقي وليس افتراضيا. من منكم يعلم أستاذ هياكل يدرس تحكم أمثل ويثبت مبدأ بونترياجين في التحكم الأمثل في محاضراته؟!
المبهر أن مصطفى لم يكن عالم موسوعي في الهندسة فحسب. وهذه هي معضلة أي منشور يتحدث عنه أو يحيي ذكراه. مصطفى معنا كان عالم الهندسة ومع محمد العدوي كان ذواقة الأدب والشعر ومع العوا وسيد دسوقي كان القارئ في التاريخ الإسلامي وتاريخ الحضارات ومع غيرهم كان دارس الفقه والسياسة وما خفي كان أعظم. فإذا تحدث منشور عنه سيذكر واحدة ويهمل الباقي. هذا بالضبط ما يستحيل تكراره في العصر الحالي لسرعة وتيرة الحياة التي تحول دون القراءة الغزيرة المتشعبة فضلا عن ثبات هذه المعلومات وربطها ببعضها البعض للوقوف على مبادئ حاكمة في الهندسة والتاريخ والسياسة . كما قال أستاذنا العلامة مختار النمرسي أن قاعدة البيانات data base تختلف عن قاعدة المعرفة knowledge base.
إذا كانت هذه المعرفة الفذة المتنوعة هي نقطة تفرد مصطفى لكفى. لكن الحقيقة أن روحه كانت أكثر تفردا.
النزعة الصوفية لـ مصطفى جبر
كان صوفي النزعة متجرد من كل مظاهر الدنيا. انظر لصوره على وسائل التواصل لتدرك هذا في الحال، إن استطعت أن تجد له صورا أصلا. عندما كان في دلفت كنا ننتقده أنا وزملائي أنه كان يساعد طلاب الدكتوارة في دلفت دون أن يضع نفسه في لجنة الإشراف. كنا نظن أن مشرفه (الذي أصبح زميلا له) يستغله كما هو شائع في عالم الأكاديميا. وإذا كان هذا تصرفه مع الأجانب في شبابه (عندما يريد الشخص أن يصنع اسما لنفسه في العالم الأكاديمي) فكيف حاله مع طلبة مصر في مرحلة ما بعد رجوعه من هولندا حيث تركيزه على ترك الأثر أكثر من أي شء آخر. كانت الطلبة في زويل تجلس في مكتبه بالساعات حرفيا. إذا أراد أن يعلمهم شيئا يجلسون سويا يقرأون أحد الكتب في هذا الموضوع (كان بيذاكر مع طلبته).
كانت طلبته يسمون أنفسهم: “طلبة الإمام مصطفى عبد الله”. هذا يستحيل تكراره في العصر الأكاديمي الحديث خاصة في بلد رأسمالي في العلم كالولايات المتحدة مثلا حيث اللهث وراء التمويل وعمل الفرقعة العلمية حتى تستطيع الحصول على تمويل أكبر. لا تدعوني أفتح في هذا الصدد. المهم من استطاع منكم أن يلتصق بأستاذه يرتشف منه فليفعل. لن أغفل أبدا تأثير أستاذنا مختار النمرسي في وزملائي. كنا نقابله أسبوعيا خارج العمل الأكاديمي. نتحدث عن كل شء في الحياة. وسأحكى لاحقا عن تأثير هذه اللقاءات في حياتي الأكاديمية.
كان لا يغضب لنفسه قط. لم أرى في حياتي في إخلاص مصطفى وتجرده. وهذا هو أعظم درس تعلمته منه واستفقت له ساعة موته رحمه الله. لماذا يعنيك كلام الناس؟ لماذا تحزن عند رفض بحث أو proposal؟ كما قال الشعراوي: “الجوارح تعمل والقلب متعلق بالخالق”. من دروس مصطفى سأمشي في الدنيا أكثر اطمئنانا بعد الآن. كانت همه المصلحة العامة وفقط. أما ماينفع الناس فيمكث في الأرض. ولذلك ترك دلفت في هولندا وهي ما هي ورجع. رجع في أحلك اللحظات. في نهاية 2013 بعد أسوأ لحظات الأمة. وكان ذو رأي سياسي متفرد. هو الوحيد من كان يحب الجيش والإخوان معا حبا حقيقيا. حتى في أكثر اللحظات الحرجة من قتل ودماء كان يرى أن البلد لن تستقيم إلا بهما معا. هذا الاتزان وقت الاستقطاب هو ما كان يميز المصطفى عبد الله. وكان يسمع أيا كان بهدوء. حتى أولئك المتطرفين من الطرفين.
في الأول (في 2012) تردد في رجوعه لعدم وضوح الرؤية في البلد والقسم (انظر منشوره في أول تعليق). ثم لما ازدادت الأمور تعقيدا وازداد الليل ظلمة قرر الرجوع. كل من أعرفهم رجعوا في 2011 و2012. رفض هو ساعتها الرجوع. ولم أعرف أحد رجع في نهاية 2013 وبعدها. فعلها هو. وأنا أيدت قراره 100% ولازلت (انظر تعليقي على منشوره). ولما نوى الرجوع، رفض قسم الطيران بجامعة القاهرة!! إذا أراد مصطفى الرجوع عليه أن ينزل لدرجة مدرس وكان أستاذ مساعد (أو أستاذ) ساعتها. سيقولون لي “كان يجب ألا تذكر هذه النقطة”. الحقيقة أن غرض المنشور هو التطرق لدروس من سيرة رجل بأمة حتى نستفيد والشباب من سيرته العطرة. كيف ضيعنا من أيدينا جوهرة بهذا الحجم؟ لماذا لم يصبح مصطفى عبد الله مستشارا لوزير التعليم العالي أو المستشار العلمي لرئيس الجمهورية؟
الحمد لله أنه ذهب لجامعة زويل ليعوضهم (معنويا على الأقل) عن فقد زويل نفسه. ولقد نعى طلبة دكتور مصطفى في جامعة زويل قائلين أن “خسارته لا تقل عن خسارة زويل شخصيا”. وأوافقهم 100%. فمن السهل التعرف على قيمة زويل من صدى أبحاثه وجوائزها. ولكن الأغلى أن تعرف قيمة من معك. فكان رحمه الله جوهرة مكنونة. لا يحب الصخب ولا الأضواء. نزعته الصوفيه تجعله يعمل في صمت. ووالله قيمته العلمية والأدبية بقامة زويل. لا أتحدث عن تأثير الأبحاث والاكتشافات العلمية (ليس هذا ما يهم في التعليم بالمناسبة) ولكن عن الأصالة والرسوخ والتأثير والإلهام. وأنا أكاديمي وأعلم عما أتحدث. في الحقيقة، أنني مشهور بالمبالغة. لكن مشكلتي مع هذا المنشور أني كلما حاولت المبالغة وجدتها حقيقة. فخرج المنشور بشكل غير مرضي لي.
ومع كل هذا التجرد واللامبالاة بوضع اسمه على الأبحاث وتفرغه التام للطلبة في مصر في آخر 10 سنين بدلا من اللهث وراء الأبحاث فإن ألقيت نظرة على google scholar ستفاجأ أن مؤشر الـ h-index له 39. قارنته بأستاذ في قسمي هنا في جامعة كاليفورنيا وهو خريج كالتك من تحت أكابرة العلماء وفي بيئة مناسبة تماما للنشر والبحث والرجل لم ينزل البحث العلمي من أولويات حياته فوجدت مصطفى يتفوق عليه. فتعلم أن الله له تدابيره.
الجميل أن مصطفى لا يجبر زملاؤه وطلبته بالاقتداء بمساره ويلوم من يخالفه. يعني كان يبعد عن الأضواء والسلطة. لكن كان يشيد بالعوا وقربه من السلطة. فمثلا ستجد في التعليقات منشور له عن قيمة دكتور اسماعيل راشد وكتب بعض الدروس المستفادة: منها “لازم تكون معروف لدى متخذى القرار”. لم يتهمهم بأنهم طالبوا سلطة أو أضواء مع أن هذا ضد مبادئه التي ارتضاها لحياته الشخصية. لكنه يعلم أنها ضرورة لإقامة البلاد. إذا فليقوم بها شخص غيري.
لما عملنا نظرية الرفع، كنت متلهفا لأسمع تعليقه. هو تقريبا الوحيد في مصر الذي يمكنه فهم الموضوع بشكل عميق وأيضا تذوقه لجمال روحه رحمه الله. فالنظرية بها ما بها من جمال دمج الرياضيات بالطيران وهو بارع في كلاهما. حرفيا كنت مستنى أنزل إعلان النظرية لأعرف تعليقه. لم يعلق قط. فقط اكتفى ببعض الـ likes. هذا أحزنني في الحقيقة. بالرغم من أنه لم يدرس لي أبدا إلا أن حالي كان كطالب بعد عن أستاذه، ثم حل مسألة كبيرة جدا فرجع بها لأستاذه يتوقع أن يقول له “أحسنت بني”. لكنه لم يفعل. ولتعلموا مدى قيمة الدكتور مصطفى، أتدرون ماذا ظننت؟ بما أن البحث أكاديميا بحتا (لن يتم تطبيقه في المستقبل القريب) وبما أن العظيم مصطفى عبد الله كان يشغله حقا ما ينفع البلاد في الوقت الحالي، فكان لا يرى ضرورة إلهاء الناس بهذه الضجة التي لن تفيد البلاد في هذا الوقت. والله هذا ما جال بخاطري. فأنا في بلاد الرخاء والسعة عندنا من الرفاهية أن نعمل على أبحاث لن نرى مردودها الآن. وهذا يضمن لبلاد القمة أن تظل في القمة. لكن في بلاد القاع، لن تنهض بمثل هذه الأبحاث. يمكننا التحدث لاحقا في هذا الأمر. وقد يكون ما جال بخاطري صحيحا، لكن رحمة الله عليه كتب في منشور قبل وفاته:
“أنا مدين لدكتور هيثم بتعليق طويل على بحثه المنشور حديثا عن تحديد قوة الرفع. لكن ظروفي الصحية مؤخرا لم تسمح. فبما أني أدرس الديناميكا الهوائية فى الفصل الدراسي الجاري فسأفعل ما يفعله أي أستاذ و أكلف الطلبة بكتابة بحث عن بحث د. هيثم!”
هذا هو مصطفى عبد الله. إذا أراد التعليق لن يكون كالآخرين. سيكون شافيا وافيا. وهذا يتطلب وقتا ومجهودا لم يسمح بهما مرضه.
أخيرا أنا أستدعي مقولة أستاذنا كبير العلماء سيد دسوقي (واصفا العلامة علي هاشم): “فيه ناس موجودين في الحياة لإقامة الحجة على البشر. علشان لما تيجي في الآخرة وتقول يا رب أصل الظروف مساعدتنيش، يقولك معملتش زي فلان ليه؟!” قطعا حياة المصطفى عبد الله كانت كالـ asymptote لمنحنى رياضي. يقترب المنحنى من الـ asymptote أكثر وأكثر لكنه لن يصل إليه إلا في المالانهاية. كذلك نحن يجب الاهتداء بحياته لكننا نعلم يقينا أننا لن يمكننا الوصول. رحمة الله عليه كان له من اسمه. كان حقا مصطفا، ونشهد أنه كان نعم العبد. فكان المصطفى، عبد الله.
آخر كلمات الدكتور مصطفى جبر
كانت آخر كلمات الدكتور مصطفى جبر “حيطان المستشفيات سمعت دعاء أكثر من حيطان الجوامع.. يا رب لا تحرمنا من الالتجاء إليك وحسن الانكسار بين يديك”، بعدها بأيام أسلم مصطفى جبر روحه لخالقه، وهو في ريعان شبابه بعد معاناة من قصور في وظائف الكلى.