ابحاث علميةابحاث بسيطة

هل هناك علاقة بين الشعور بالغباء والفضول في مجال البحث العلمي؟

في مقال علمي مثير للاهتمام, نشر في مجلة journal of cell science يجادل الدكتور (مارتن شوارتز  Martin Schwartz بقسم الميكروبيولوجي بجامعة فيرجينيا) بأهمية الشعور بالغباء في البحث العلمي: “إذا لم نشعر بالغباء، فهذا يعني أننا لا نحاول حقًا”. حيث لخص مقاله أيضاً في أنه يجب أحياناً الشعور بالغباء لزيادة نسبة التعمق والفضول في المجال البحثي، فلو أحس الباحث نفسه ذكيا وعالم زمانه، فحتمية عدم تعمقه في البحث العلمي وحب الاكتشاف ستكون كائنة لا محالة ..

قد كتب مارتن هذا المقال في عام ٢٠٠٨ بعد مقابلته لزميلته التي كانت تدرس معه الدكتوراة ثم تركت الدراسة من فترة طويله لتدرس القانون في جامعة هارفارد. سألها وماذا تفعلين الآن. أجابته وبكل هدوء: أعمل كمحامية في منظمة حكومية مهمة خاصة بالحفاظ على الطبيعة والبيئة. ولما سألها لماذا تركتي البحث العلمي والدكتوراة !!!. كانت إجابتها قاطعة ومُفاجِأة وهي شعورها بالغباء كلما ازدادت قراءة وأجرت تجربة بحثية. وكانت هذه المقابلة سببا في دفع مارتن أن يفكر في الأمور بطريقة مختلفة عما قبل.

وعندما فكر شفارتز في إجابتها لاحقا وجدها بالفعل على حق ولكنه في الوقت نفسه اكتشف بالتحليل المنطقي للأمور أن الوصول إلى درجة الغباء في البحث العلمي له فائدة كبيرة بل هو المفتاح للإكتشافات العلمية الكبرى. وتعريف الغباء في البحث العلمي – على حسب قوله – يختلف عن الغباء في مواضيع أخرى. فهو ليس تخلف في استيعاب المعلومة أو تحليلها أو ربطها بالظواهر الحياتية. وليس هو بعدم القدرة على الحفظ والتخلف الدراسي مقارنة بالآخرين. وليس هو عدم القدرة على حفظ وفهم دروس العلوم وتحليل شواهدها. بل الغباء في البحث العلمي هو أن تقرأ وتقرأ وتقرأ وتفهم وتفهم وتفهم ثم تصيغ فرضية علمية في موضوع ما يحتاج حلاً علميا. ثم تفاجأ بأن ما تريد الوصول إليه وإثباته عملياً هو ضرب من المحال، ببساطة لأنك تكتشف أن المعلومات التي لديك غير كافية بالمرة لترسم خريطة علمية تستطيع بها أن تؤكد أو تنفي فرضيتك العلمية التي قمت بصياغتها بنفسك. حتى عندما تتواصل مع أحد الخبراء في المجال تكتشف أن علمه هو الآخر غير كاف لحل المعضلة العلمية التي تواجهك.

وهذا بالفعل ما حدث مع مارتن شيفارتز عندما وقف مكتوف الأيدي أمام معضلة لنظرية علمية صاغها بنفسه وأراد وقتها أن يفهم جوانبها ليختبرها ولكنه فشل وشعر أمامها بالغباء. وعندما عرض المعضلة على أحد أساتذته وقتها وهو بروفيسور هنري توبي Henry Taube لم يستطع هنري هو الآخر بكل ما أوتي من علم في مجاله أن يحل المعضلة – مع العلم بأن هنري فاز بجائزة نوبل بعد هذا الموقف بعامين. وما كان أمام مارتن إلا ثلاثة احتمالات لا رابع لهم. أولهما أن يفعل مثل ما فعلت زميلته عندما هجرت البحث العلمي ودراسة الدكتوراه. ثانيهما أن يُقلع عن الفكرة لشعوره بالغباء أمامها ويبحث عن فكرة أخرى لرسالة الدكتوراه. وثالثهما أن يعيد القراءة والتفكير في جوانب الفرضية العلمية مرات ومرات حتى يصل إلى طريقة يربط بها معلوماته بعضها ببعض ويصل إلى حل اللغز Puzzle. ورغم شعوره بالغباء المطلق أمام الفرضية أو المعضلة التي صاغها هو بنفسه بناءا على معلوماته، إلا أنه إختار الحل الثالث وهو مزيد من القراءة والتحليل وربط المعلومات بعضها ببعض لعله يخرج بخيط فكري جديد يساعده في حل المعضلة.

وبالفعل نجح مارتن بعد وقت قصير – على حد قوله – في الوصول إلى سيناريوهات علمية واضحة ومتسلسلة منطقياً والتي عندما إختبرها وجد النتائج تنساب بين يديه في المختبر بسهولة ومنطقية أكثر مما كان يتوقع. وحينئذ تعجب مارتن من العقل البشري، فها هو يستخدم معلوماته ليصيغ فرضية علمية ثقيلة استعصى عليه التيقن من بعض جوانبها فيشعر بالغباء ويقف عقله مكتوف الأيدي أمام حلها حتى يصل إلى درجة قد يتسرب إليه فيها الشعور بالفشل والغباء المطلق. ثم يقوم نفس العقل بعد شيء من القراءة والتحليل والتنظيم والتفكير المنطقي أن يصل إلى الحل وبكل بساطة. حينئذ شعر مارتن بأن الغباء المبني على العلم هو أعلى درجات الذكاء (إن اعتبرنا الذكاء هنا هو الوصول إلى الحل الأمثل في أسرع وقت ممكن).

– الخلاصة:

لا تغضب حين يصفك أحدهم بالغباء أو حين يسيطر عليك شعور بأنك تعرف أقل من الآخرين، ولا تتأثر حين تجد أنك مستفز أمام كمية المعلومات الموجودة أمامك فهذه هي حصيلة مجهودات الكثيرين وهي حصيلة إنتاج بشري علمي لسنوات طويلة وليس متوقع منك أنك أنت أيها الفرد أن تعرفها كلها في دقيقة. لا تقف مكتوف الأيدي وكأن الطرق سدت في وجهك حين لا تجد إجابة منطقية على سوالك العلمي بل اجتهد في البحث والتعلم وتذكر أن وسائل التعلم والمعرفة متاحة لك ولا تخجل من جهلك أو عدم معرفتك فمن منا يعرف كل شيء ولديه كل الإجابات؟

الاستنتاجات

* الشعور بالغباء لا يرتبط مباشرة بالغباء، إنه شعور شائع في البحث العلمي، إذا شعرت بهذا الشعور، فأنت لست الوحيد.

* السؤال الغبي الوحيد هو الذي لم يُطرح سابقاً.

* إن طرح أسئلة جيدة أصعب بكثير من إعطاء إجابات جيدة.

كما قال ألبرت أينشتاين:

إن مجرد صياغة مشكلة هو في كثير من الأحيان أكثر أهمية من حلها، والذي قد يكون مجرد مسألة مهارات رياضية أو تجريبية، لطرح أسئلة جديدة، والنظر في المشاكل القديمة من زاوية جديدة يتطلب الخيال الإبداعي وهي علامات التقدم الحقيقي في العلم.

زر الذهاب إلى الأعلى