كشفت دراسة حديثة أجريت في ” معهد البحوث الاجتماعية والنفسية ” بجامعة القاهرة، النقاب عن أن الطفل يستمع إلى نحو 16 ألف ” كلمة سيئة ” من أقرانه وزملائه في المدرسة حتى سن المراهقة، وهذه الكلمات السيئة هي عبارة عن شتائم وألفاظ نابية قد تصل إلى أذن الطفل –في الغالب- عبر أصدقائه أو حتى أفراد أسرته وجزء غير قليل منها يتعلمه الصبي من وسائل الإعلام وخاصة الأفلام والمسلسلات والأغاني الشعبية!
وتشير الدراسات التربوية إلى أن عملية نقل اللغة والمعاني للأطفال تتم بشكل معقد، حيث يستقبل الطفل الأصوات ويقوم مخه باستخلاص المعاني منها، ويقوم عن طريق الربط بين الأصوات والمعاني، وتبدأ هذه العملية قبل أن يبدأ الطفل عامه الأول، وببلوغه العام الثاني يلتقط مخه بمعدل كلمة كل ساعتين، وما أن يصل إلى عامه السادس حتى يكون قد اكتسب نحو 13 ألف كلمة، وبعد عملية جمع الكلمات ومعانيها، تبدأ عملية وضع المجموعات التي تضم عددا من الأصوات مع بعضها لخلق تواصل فكري مع الآخرين، ويبلغ التطور اللغوي ذروته لدى الأطفال في مرحلة الروضة، حيث يبدأ في التواصل مع العالم من حوله وتكوين جمل معقدة وذات معنى من خلال الربط بين الأصوات والأفكار والمعلومات.
وتشير دراسة أخرى إلى أن 50% من الأطفال يقعون ضحية للسلوكيات الخطيرة والألفاظ النابية، والتي تنتج كرد فعل وتصبح وسيلة للدفاع عن النفس في مواجهة سلوكيات مشابهة كالإهانات الكلامية، والشتائم القبيحة، والتهديد بالضرب، الصفع على الوجه ، والسرقة وغيرها من السلوكيات العدوانية التي تمارس ضد الأطفال.
ويلتقط الطفل منذ ميلاده السلوكيات والألفاظ من المحيطين به ويمكن أن يكون الآباء والقائمون على التربية مصدرا رئيسيا لهذه السلوكيات السيئة ، فحسب ” فاتن أحمد” – لديها ثلاث أطفال – فالمشكلة أن الجد يشجع الطفل على عمل السلوكيات السيئة تجاه الكبار بأن يأمره بالبصق على والدته أو والده ويكافئه على هذا التصرف، على سبيل الدعابة التشجيع والمكافأة وكأنه قام بعمل جيد وحميد، والجد يرى أنه عندما يقوم بذلك يعلم الأطفال الشجاعة والجرأة وعدم الخوف من الكبار، وهذا أسلوب سيئ في التعليم والتربية، والطبيعي أن الطفل يقوم بالفعل لم يترتب عليه من ردود فإذا لاقى التشجيع عليه أصبح فعل جميل وإذا لاقى عكس ذلك، أصبح هذا الفعل سيئا ولن يكرره مرة أخرى، فالأمر يرجع لأسلوب التربية في المنزل ولا يمكن أن يأتي الطفل بلفظ من الخارج إلا أذا كان طفلا مهملا.
ومن جهتها أصيبت الأم ” سارة محمود” بصدمة كبيرة عندما سمعت طفلها الصغير يشتم أخاه الأكبر بكلمة قبيحة وبسرعة نهرته وعاقبته على ذلك، لأنها حريصة على ألا يسمع طفلها ألفاظ بذيئة، وتشعر بالضيق عندما تسمع الألفاظ البذيئة التي يرددها أطفال الجيران، ولكن من جاور الحداد فلابد أن ينكوي بناره كما تقول، فلقد التقط طفلها من جيرانه هذه الألفاظ وأخذ يكررها، الأمر الذي جعلها تشعر بأن وجود الطفل في بيئة تنقل إليه الألفاظ ولذلك قامت بتعنيفه والتأكيد على أن هذه الألفاظ سيئة ولا يصح أن يكررها.
وينتقل السلوك اللفظي العدواني من الكبار إلى الصغار بشكل لا إرادي، فالطفل يحاول تقليد المواقف التي تواجهه فعندما يرى أبيه أو أمه أو أخيه الأكبر يردد لفظا بذيئا أو سلوكا سيئا ويلاقي خلاله التشجيع والنجاح، كأن يتشاجر مع أحد ويفوز عليه بالشتائم والضرب ، فينتقل ذلك “كخبرة” إلى الطفل الذي يسعى إلى تنفيذها في أي موقف مشابه ، يقول ” محمد محمود” –موظف– : أطفالي عندما يتشاجرون أشعر أنهم يقلدون الكبار في شجارهم فأحدهم يقول للآخر “سأقتلك أنت وأبيك” وغيرها من الألفاظ التي قد يكون سمعها في أحدى الشجارات التي حدثت في الشارع أو حتى في التليفزيون ، وأنني في مثل هذا الموقف الذي يمكن أن يكون مضحكا، اضطر إلى تخليصهم من الشجار وإفهامهم إنهم أخوة ولابد أن يحترموا وجودي وسطهم ، ولا يتلفظون بمثل هذه الألفاظ السيئة .
وربما يتجه الأطفال إلى الشتائم والألفاظ النابية دفاعا عن النفس ضد شتائم الأقران، ويرى ” منصور علي ” –مدرس– أن الطفل قد يتعرض للشجار مع أقرانه في المدرسة، وعندما يشتم فلابد أن يلاقي ذلك برد فعل، وبعض الأطفال يعتقدون أن الشتائم تعطيهم القوة والاحترام من الآخرين، وقد يكون استعمال الشتائم منقولا من وسائل الإعلام، كأن يشاهد الطفل أحد مشاهد الشجار في أحد المسلسلات المعروضة في التلفزيون والتي تتخزن بذاكرته ويكررها عند وقوعه في موقف مشابه، فالطفل في كل الأحوال أداة تحركها البيئة المحيطة به ويتعلم منها، ولذلك لابد من التعامل بهدوء مع الأطفال في مثل هذه المواقف وتعليمهم بالحوار المقنع البعد عن مثل هذه الألفاظ بشكل إيجابي وليس بالضرب أو العنف الذي قد يؤدي إلى العناد والإصرار على مثل هذه الأفعال السلبية.
ورغم حرص ” ناصر عبد الحميد” – محاسب- على التربية الصحيحة لأبنائه، وعلى انتقاء الكلمات الطيبة في التعامل معهم حتى لا يتعودوا على الألفاظ النابية والسلوكيات السيئة تجاه الآخرين، إلا أنه يعاني من التقاط أطفاله لهذه الألفاظ من الشارع والأقران في المدرسة وحتى من الأقارب وأبنائهم ، ويجد صعوبة بالغة في محو مثل هذه السلوكيات والألفاظ من ذاكرتهم، ولذلك على الآباء-في تقديره- الاهتمام بتربية الأبناء وإكسابهم المعاني الصحيحة والأخلاق الحميدة حتى يكونوا قادرين على مواجهة مثل هذه السلوكيات التي يتعرضون لها، ولا تؤثر في شخصيتهم في المستقبل، وعلينا أن نعترف أننا لا نستطيع فصل أطفالنا عن المجتمع الذي يعيشون فيه، ولكن علينا أن نحضهم أخلاقيا ضد الأخلاقيات السيئة التي قد يتعرضون لها.
وعلى الأب والأم أن يكونوا مثالا وقدوة حسنة لأطفالهم في كل الأفعال والألفاظ التي يتلفظون بها ، فحسب ” شيماء محمد” – مدرسة – فإن الأطفال يمارسون كل الأفعال التي يمارسها الكبار ويتلفظون بالألفاظ التي يتلفظ بها الكبار، ولذلك لتعريف الأطفال بالصواب والخطأ فلابد من ممارسة الثواب والعقاب ضد كل فعل أو سلوك يقومون به فينبغي مكافأتهم على الأعمال الخيرة والحسنة ، وتحذيرهم عند عمل فعل خاطئ أو سلوك سيئ أو لفظ مشين، وإذا تكرر الفعل أو اللفظ فعلى الآباء علاج ذلك السلوك والبحث عن مصدره وتأثيره وتعريف الطفل أنه أخطأ دون تجريح، وعلى الأم أن تلاحظ تصرفات أبنائه مع بعضهم ومع زملائهم حتى تستطيع القضاء على الخطأ قبل استفحاله, وللمدرسة دورها الكبير في التربية قبل التعليم، كما أن وسائل الإعلام يجب أن تهتم بذلك أو يهتم الآباء بنوعية الرسائل التي يقدمها الإعلام وعدم تعريض أطفالهم للوسائل التي قد تؤثر سلبيا في سلوكياتهم.
في هذا السياق حيث تؤكد الدكتورة “منال عمر” – استشارية طب نفس الأطفال- أن الأطفال يتأثرون بكل المؤثرات المحيطة بهم، فهم عبارة عن صفحة بيضاء يتم تشكيلها حسب البيئة التي ينتمون إليها، ويكتسبون من البيئة المعلومات والخبرات والأخلاق، وعندما يتعلم الطفل الألفاظ يقوم بتوصيل أفكاره بسهوله إلى من حوله، وقد يتجه إلى العدوانية اللفظية بأن يشتم أقرانه وذويه، ولكن ذلك لم يأتي من فراغ فأنه يرجع لأسلوب التربية والمثيرات التي تعرض لها عندما قام بهذا السلوك ، فالطفل في البداية يقلد الألفاظ دون أن يفهم معانيها أو ما تحمله من دلالات، وتعتبر السلوكيات السيئة التي يتعرض لها الطفل في المنزل أو في الشارع أو عن طريق وسائل الإعلام مواقف ومؤثرات يتأثر بها ويقلدها دون وعي وتتخزن في ذاكرته ليستخدمه في الوقت المناسب، والآباء والأمهات يمارسون دورا كبيرا في تخزين مثل هذه السلوكيات أو محوها من ذاكرة الأطفال، وعليهم أن يبحثوا عن مصادر الألفاظ وتقديم البديل الجيد لها، كأن نبعدهم عن مصادر هذه الألفاظ ونبدأ في تقديم “العلاج المناسب” بالكلام الطيب والسلوكيات الحسنة والتشجيع على ذلك والمكافأة على الأفعال والكلمات الجميلة، وأن يعتذر الطفل عن ما قام به من سلوك سيئ تجاه أخيه الأكبر أو قرينه أو والدته، الأمر الذي يخلق بداخله الاعتراف بالذنب والبعد عنه وعدم تكراره.
ولابد من تعليم الطفل الارتباط بقيم دينه وتعاليمه، كأن يقول الأب لطفله “إذا فعلت شيئا جيدا ستنال الثواب من الله والرضا من المجتمع الذي يتمثل في الأسرة والأهل والأقارب والجيران، وإذا فعلت الأشياء القبيحة ستنال العقاب من الله”، وأن يشعر الطفل بالثواب من الأب والأم على الأشياء الجميلة التي يقوم بها ويعاقب بالحرمان من شيء يحبه إذا تلفظ بلفظ سيئ أو قام بسلوك عدواني ضد أخيه أو أحد أقرانه، وتوضح د. “سامية خضر” -أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس– أسباب مشكلة الألفاظ النابية والعنف اللفظي لدى الأطفال بأنها ترجع إلى الرغبة لديهم في الرد على ما يواجهونه من عنف مضاد سواء من الآباء أو الأقران، حيث تظهر هذه الألفاظ عندما يرفض الطفل شيء ما أو عند إحساسه بالغضب من فعل ما، وغالبا ما يستخدمون الألفاظ التي تعرضوا لها والتقطوها داخل الأسرة أو من الأقران والأقارب ، وعلى الآباء ألا يظهروا الانزعاج المبالغ فيه تجاه هذه السلوكيات حتى لا يشعر الطفل بتأثير الألفاظ والمعاني على الآخرين ، مما يشبع رغبته في عقابهم ، وعلى القائمين بالتربية استخدام الهدوء والحكمة في التعامل معها بأن تشرح للطفل مدى سوء هذه الألفاظ والمعاني على الآخرين، وتدريب الطفل على التعبير عن الغضب بطريقة حسنة.
لا يترك الطفل الألفاظ التي تعلمها بسهولة، لأنها وصلت إلى ذاكرته عبر عملية معقدة وارتبطت بألفاظ ومواقف أخرى، لذلك فهي أيضا تحتاج إلى عملية مشابهة للتخلص منها، ولذلك تنصح د. “سامية خضر ” الآباء بالاهتمام بمنع تعرض الأطفال لمثل هذه الألفاظ، وعدم استفحال مثل هذه المعاني والقيم بداخل أطفالهم لأنها مع الوقت قد تشكل أفكارا في الذاكرة يصعب محوها، ولذلك عملية نسيان مثل هذه الألفاظ والسلوكيات تأتي بشكل تدريجي وبطئ، وتحتاج إلى مجهود أكبر من القائمين على التربية لمحوها، مع الأخذ في الاعتبار أن العنف في مواجهة مثل هذه الألفاظ لن يأتي بنتيجة إيجابية فقد يزيد عناد الطفل وتمسكه بما اكتسبه ألفاظ، ولذلك فالأسلوب الأمثل هو حسب سن الطفل فإذا كان يعي بما يقول يتم حرمانه من أشياء يحبها لأنه قام بسلوك سيئ، وإظهار التشجيع لأخيه الذي لا يقوم بمثل هذه الأفعال، أو إلغاء هذا الحرمان على وعد بأن لا يعود لمثل هذه الفعل مرة أخرى، والمهم أن تظهر الأسرة الرفض الواضح لمثل هذه الأفعال، ويظهر الآباء والأمهات الاستياء منها، على أن يتم تعليمه “الألفاظ البديلة” إذا تعرض لمواقف تثير غضبه.
وينبغي على القائمين بالتربية أن يضعوا في اعتبارهم أن الطفل عنصر مهم داخل الأسرة، وعليهم وقايته من العوامل التي قد تؤثر سلبيا على شخصيته بالمعاملة الحسنة، واستخدام الكلمات الطيبة التي تولد بداخله مشاعر الحب والمودة تجاه الآخرين، وهناك الكثير من الأطفال عندما يتلفظون بالألفاظ النابية لا يعرفون مدى تأثيرها ولذلك فأساليب التربية الصارمة والقائمة على الضرب والإهانة للطفل غير مجدية في تعليمه فلابد من تفهم شخصية الطفل واستخدام الأساليب الصحيحة في تعليمه الالتزام تجاه المجتمع المحيط به بتقديم القدوة الحسنة التي يتعلم منها التفريق بين الصواب والخطأ، من خلال سير الأنبياء والصحابة والقصص التي تربي بداخل الأطفال الصفات الحميدة والقيم والمفاهيم الصحيحة.
محمد صلاح