على مدار القرون المتتابعة، ومنذ أن أسس جابر بن حيان مبادئ علم الكيمياء، لا يفتأ العلماء يضعون التفاعلات الكيميائية نصب أعينهم، فهي عصب الحياة، وجزء لا يتجزأ من التكنولوجيا الحديثة. وفي الواقع، يشق علينا إدراك جل التفاعلات الكيميائية المعقدة من حولنا، فعلى الأرض، وفي عملية البناء الضوئي، وما يقع بين ثنايا طبقات الغلاف الجوي من تفاعُل بين الغازات المختلفة واحتفاظها بمياه الأمطار، وكذلك احتراق الوقود، وصدأ الحديد، وإنتاج الزجاج، والصناعات الغذائية، هناك الكثير والكثير من التفاعلات الكيميائية، على اختلاف أنواعها وشروط حدوثها. لذا كان من الضروري من المنظورين العلمي والاقتصادي أيضًا تتبُّع مسار التفاعلات الكيميائية لفهم كيفية تشكُّل الأشياء من حولنا في هذا العالم، ولتعظيم الاستفادة من ذلك.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها، كشفت دراسة نُشرت في دورية “نيتشر كوميونيكيشن” Nature Communication عن إنتاج أول فيديو يوضح مسار التفاعل الكيميائي، الذي لم يكن من اليسير -سابقًا- على الباحثين الإلمام به في كل مراحله وتفاصيله الغامضة. وكما صرح الباحثون القائمون على الدراسة لوسائل الإعلام، فإن العلم بتلك المراحل ربما يسهم في إحكام السيطرة على مسار التفاعلات بدقة بالغة، ومن المحتمل أن يفضي إلى تطور في صناعة شديدة الأهمية كصناعة الدواء، وكذلك الحال فيما يتعلق بتطبيقات علوم المواد.
يقول إيتشي ناكامورا -الأستاذ في قسم الكيمياء في جامعة طوكيو، والباحث الرئيسي في الدراسة- لـ”للعلم”: “منذ 200 عام مضت، تمنى العلماء رؤية الذَّرَّة رأي العين، وفي عام 2007 فقط بات الأمر حقيقة، والآن ذهب حلمنا إلى أبعد من ذلك؛ إذ نجحنا أخيرًا في إنتاج أول مقاطع فيديو تعرض مسار الجزيئات الدقيقة في أثناء التفاعل الكيميائي، وفي جميع مراحله المختلفة”.
تقنية جديدة
وبالرغم من أهمية دراسة المراحل المؤقتة أو الوسيطة في أي تفاعل كيميائي، فالتقنيات الحالية لم تتمكن من التركيز إلا على نتيجة التفاعل فحسب، ولم تستطع إلقاء الضوء على المراحل الأولية لعملية التنوِّي، العملية التي يتكوَّن عندها مركب جديد (في ما يُعرف بالمرحلة الوسيطة للتفاعل)؛ وذلك لصعوبة تتبُّعها ورصدها”، فهناك دائمًا المرحلة الوسيطة أو المؤقتة، التي تتوسط مرحلة إدخال المتفاعلات الكيميائية ومرحلة إخراج النواتج من التفاعل الكيميائي.
يوضح “كوجي هارانو” –الباحث المشارك في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم” أن “التقنيات الحالية لأجهزة تحليل المركبات الكيميائية -مثل مطيافية الرنين المغناطيسي النووي، ومطيافية الأشعة تحت الحمراء، وجهاز الأشعة السينية لدراسة البلورات- تفسر لنا تكوين المركبات وبنيتها الكيميائية التي تنتج في نهاية التفاعل الكيميائي فحسب، ولا تمدنا بمعلومات عن المراحل الوسيطة أو المؤقتة التي تتخلل التفاعلات الكيميائية البطيئة والسريعة على حدٍّ سواء”.
ونتيجةً لكثرة هذه المراحل المؤقتة، كان من العسيرعلى الباحثين فصل كل مركب ينتج عن كل مرحلة على حِدَةٍ لرصد التغيرات التي تطرأ عليه في أثناء التفاعل. وفي عملٍ مُضنٍ دام أكثر من 10 سنوات، دأب الفريق البحثي على إيجاد حلول لتلك المعضلة، وتمثلت ثمرة جهدهم في طريقة مبتكرة أطلقوا عليها “المجهر الإلكتروني الجزيئي”، وهي تطويع لآلية عمل المجهر الإلكتروني لرصد الجزيئات في مرحلة التنوِّي.
بلورات هندسية دقيقة
يضيف “هارانو”: “بحثنا منوط بتتبُّع مسار تفاعُل ما يطلق عليها بلورات الهياكل الفلزية العضوية ((MOF، وهي عبارة عن بلورات مسامية تشتمل على عُقد، كل عقدة تمثل أيونًا لمعدن، وتتصل فيما بينها بروابط عضوية في شبكة هندسية بالغة الدقة والتعقيد. وتمتاز الهياكل الفلزية باختلاف تركيبها الكيميائي، وتبايُن الروابط العضوية، وتنوُّع بنيتها البلورية، فمثلًا MOF-2)) له شكل هندسي ذو أضلاع أربعة، أما MOF-5)) فيتخذ شكلًا بلوريًّا مكعبًا. بيد أنه قد يمكن الحصول عليهما بتفاعل كيميائي يختلف فقط في العوامل الخارجية المؤثرة مثل الحرارة، فالتفاعل مثلًا بين ذرات المواد الكيميائية في درجة حرارة 95 مئوية ينتج عنه (MOF-2)، أما عند درجة حرارة 120 مئوية فينتج عنه MOF-5))، ولذلك فإن مسار التفاعلات الكيميائية للهياكل الفلزية بالغ التعقيد.
تحديات مضنية
واجه الفريق مشكلةً تتألف من جزأين، فالجزء الأول- ويمثل تحديًا هندسيًّا هائلًا- يتعلق بقدرتهم على تصميم مجهر إلكتروني فريد من نوعه، عالي الدقة، وله مستشعر شديد الحساسية وفائق السرعة؛ لتسجيل مقاطع فيديو بلا انقطاع. أما الجزء الثاني فيتعلق باتباع نهج مبتكر قادر على تقييد حركة جزيئات المراحل الوسيطة وتثبيتها في مكان يتيح للكاميرا التقاط صورهم بسهولة.
ويقول “كوجي”: “سلفًا، لم يتسنَّ للباحثين رؤية الجزيئات بالمجهر الإلكتروني؛ لأن شعاع الإلكترونات الصادر عنه كان يتسبب في تشويهها، ولكن، الفكرة التي عملنا عليها لسنوات هي ربط الجزيئات بأنابيب الكربون النانومتريةCNT . وهي مادة تتكون من الجرافين (الكربون)، وجزيئاتها أسطوانية الشكل، قطرها دقيق للغاية، ووحدة قياسه النانوميتر = 0.000000001 متر”.
وجدير بالذكر أن أنابيب الكربون النانومترية من أهم المواد التي جرى اكتشافها واستخدامها في الآونة الأخيرة، وتدخل في العديد من الصناعات، أبرزها صناعة البطاريات، وتمتاز بصلابتها وخفة وزنها، بالإضافة إلى أنها جيدة التوصيل للحرارة والكهرباء.
وتابع “كوجي” حديثه قائلًا: “إن أنابيب الكربون النانومترية هي كلمة السر، ومفتاح تصوير المراحل الوسيطة، ويمكن للباحثين تطبيق هذه الطريقة على أيٍّ من التفاعلات الكيميائية لشتى المواد”، وشرح ذلك قائلًا: “على الباحثين أن يتخيروا مجموعةً وظيفيةً معينة، تكون بمنزلة البصمة المميزة لكل مركب عضوي (مثل الألكينات والكحولات والأمينات.. إلخ) وربطها بأنابيب الكربون برابطة تساهمية -بعد تعديلها كيميائيًّا وتجهيزها- لترتبط مع الجزيئات في المراحل الوسيطة؛ إذ تحتجز الأنابيب الجزيئات أمام البؤرة المحورية للمجهر، ومن ثم يمكنه تصويرها”.
بث مباشر للتفاعلات
من جانبه، يرى محمد حسن -الباحث في الفيزياء بمعهد كاليفورنيا للتقنية (كالتك)- أن أهمية هذا البحث تكمن في تصوير التفاعلات الكيميائية باستخدام مجهر إلكتروني عالي الدقة؛ إذ يبلغ معدل التأطير به نصف ثانية فقط، فقد صور التلاحم بين جزيئين مختلفين ليصيرا جزيئًا واحدًا، يظهر مؤقتًا في تفاعلات الـ(MOFs) وكأنه بث مباشر.
وأضاف “حسن” أن “أغلب التفاعلات الكيميائية تحدث في الحالة السائلة للمواد، ويصور المجهر الإلكتروني المتعارف عليه المواد في الحالة الصلبة فحسب، ولكن الآن، ظهر نوع جديد من المجاهر الإلكترونية يمكنه تصوير التفاعلات الكيميائية في حالتها السائلة، ويُعرف باسم “المجهر الإلكتروني للخلايا السائلة”. ويعتقد “حسن” أن أنظار الباحثين ستتجه إليه عاجلًا؛ “لأنه سيفتح أمامهم آفاقًا واسعة لتتبُّع التفاعلات الكيميائية عن كثب”.
ويقول بارت كاهر -أستاذ الكيمياء بجامعة نيويورك- معلقًا على نتائج البحث لـ”للعلم”: إن الباحثين قدموا تطبيقًا ذكيًّا للمجهر الإلكتروني، وتفوقوا على أقرانهم في إنتاج فيديو يرصد مرحلة التنوي لمركبات الـ MOFs بطريقة مقنعة لم يصل إليها غيرهم من قبل”.
واختتم “هارانو” حديثه لـ”للعلم” قائلًا: “لقد سرنا وفق خطة آتت ثمارها عام 2013، حينما التقطنا أول فيديو للوسيط المكعب MOF-5، وكلفنا الأمر عامًا تقريبًا لنقنع الناشرين بأن ما توصلنا إليه محض حقيقة، ويُعد هذا البحث هو حجر الأساس في السيطرة والتحكم بدقة في مسار التفاعلات الكيميائية، فيما يُعرف باسم “التوليف المنطقي” أو “التخليق المنطقي”؛ لأنه من الضروري رصد مسار التفاعلات من البداية إلى النهاية”.