“ذوات”.. فتاة من صعيد مصر تعلمت صناعة “التللي” بدورة تدريبية على تلك الصناعة، وبعد انتهاء الدورة التي استمرت ما يقرب من 6 أشهر تم اختيار 3 فتيات- كانت ذوات من بينهن – من المتدربات؛ ليقمن بتعليم مجموعة أخرى.
ولقد أتقنت ذوات صناعة “التللي” وعشقتها وكان إنتاجها هي وزميلاتها مميزا ورخيصا مقارنة بأسعار “التللي” في القاهرة، فالجلابية تباع ببلدتهم بأسيوط (مدينة تقع جنوب القاهرة) بحوالي 150 جنيها(الدولار=5.74 جنيه مصري)، بينما تباع في القاهرة بمئات الجنيهات ويستغرق العمل في الجلابية ما بين 10 إلى 15 يوما.
وعندما عرفت الفتاة الصعيدية أن هناك معرضا تم افتتاحه في بيت السحيمي “للتللي” أحضرت إنتاجها وجاءت لبيعه في القاهرة. وهناك التقت بأعضاء جمعية أصالة وبدأت في الاتفاق معهم على تسويق منتجاتها وبيعها.
قصة “ذوات” ألقت الضوء على أحد أدوار جمعية أصالة على مدى اثنتي عشرة سنة هو عمرها الآن، والتي سعت خلالها للحفاظ على التراث الفني وطابع الأصالة في مجالات العمل الحرفي والفني المختلفة، وتحقيق التواصل والتلاقي يبين الحرفيين العاملين على أرض الواقع والأكاديميين الدارسين للأصول النظرية لهذه الحرف، واستفاد كل طرف منهما من الآخر، وعاد ذلك بشكل أوسع على الشباب الذين تم تدريبهم.
وهو ما يذكره عز الدين نجيب رئيس الجمعية الذي أضاف أن هناك طرفين آخرين من المهم خلق التواصل بينهما، وهما الجمهور والمنتج الذي يخرج من الجمعية؛ لذلك حاولنا أن نعيد الجسور بيننا وبين الجماهير التي انقطعت صلاتها بالمنتج الحرفي ذي الطابع الثقافي لأنه يتحدث لغة غير لغتهم في بعض الأحيان؛ لذا فقد حرصت الجمعية على أن يحمل المنتج رؤية جمالية نفعية بلغة يفهما الناس وتحترم عقولهم وأذواقهم دون استعلاء أو تقعر حتى يبدأ المستهلك باستيعاب المنتج الفني لأنه أحد مخرجات الجمعية.
ولأن الحفاظ على الحرف والفنون التراثية وتنميتها يتطلب معرفة كاملة بما توورث منها عبر العصور، عكف باحثو موسوعة الحرف التقليدية في الجمعية على اكتشاف وتوثيق وتحليل الحرف المصرية، وبدأنا -كما يقول رئيس جمعية أصالة- في التقصي عن أسباب تدهور بعض الحرف واندثار البعض الآخر، والبحث في كيفية علاج ذلك وعرض الوجه المشرف لتراثنا الحرفي والفني الأصيل.
خلال السنوات الماضية، قامت الجمعية بتدريب مئات الشباب على الحرف اليدوية المختلفة مثل الحفر على الخشب، والنحت والمنتجات الخزفية والزجاجية والمصنوعات النسيجية اليدوية والحلي، كما أقامت عدة قاعات ومنافذ للعرض الدائم لمنتجات الحرف التقليدية والفنون التشكيلية، فضلا عن إنشاء ورش عمل دائمة ومتنقلة لتعليم تقنيات ومهارات تلك المهن.
وكان من بين المستهدفين من الشباب طلاب الجامعات وبدأت الجمعية بتدريب طلاب جامعة القاهرة ،ووجدت إقبالا كبيرا على التدريب والتعليم من الطلاب. ويضيف رئيس جمعية أصالة أن الحرف التقليدية فرصة حقيقية لرفع الدخل لأبناء المجتمعات المختلفة، وتدعيم سياسة الاعتماد على الذات على المستوى المحلي، فعدد منشآت الحرف التقليدية المقيدة بالسجل الصناعي بالهيئة المصرية العامة للتصنيع حوالي 2036 منشأة، توفر 32 ألف فرصة عمل، وتحتل القاهرة المركز الأول من حيث تواجد هذه المنشآت؛ ففيها حوالي 770 منشأة.
و تعتمد الحرف التقليدية على حشد الموارد والإمكانيات المحلية من خامات وشبكات اجتماعية. كما أنها تتم بأيد عاملة ماهرة، وتستطيع أن تستوعب عمالة كثيفة ومن السهل تأهيل من يرغب من العاطلين واستيعابهم بقدر يسير من الجهد فهي تتميز بعدد من السمات تؤهلها لأن تكون ملاذا للعديد من الباحثين عن مصدر دخل مميز؛ حيث تمتاز الحرف التقليدية بأنها ذاتية النشأة فغالبا ما يتوارثها الأبناء، ويضمن هذا توافر عدد معقول من الحرفيين المهرة الذين يمكنهم تدريب الشباب، واحتياجاتها من المعدات والآلات ومستلزمات الإنتاج بسيطة، وغير مرتبطة بمكان عمل خاص، هذا بالإضافة إلى أن أغلبها يتبناها المجتمع المدني بشكل عام أو القطاع الخاص.
تسويق المنتج يمثل العقبة الأشد صعوبة أمام الجمعية، وخشية من تحول الجمعية عن أهدافها الاقتصادية الثقافية الاجتماعية إلى جمعية ثقافية فقط قد تندثر ملامحها بعد فترة؛ قرر القائمون عليها أن يخوضوا تجربة التسويق بفكر جديد يساعد على عدم هجر الحرفيين لمهنتهم، واستقدام المزيد من العمال والمتدربين المهرة.
اخترقت “أصالة” الأسواق المصرية بمنتجاتها بأسعار بسيطة، وراعت أن هناك منافسة قوية من المنتجات الصينية المقلدة الموجودة في الأسواق، ونجحت في تسويق منتجاتها في الأسواق السياحية والعامة، والأكثر من ذلك أنها نجحت في تسويق منتجات مراكز وزارة الثقافة التي بقيت في المخازن لأكثر من 25 عاما دون تسويق، حيث كانت اللوائح الحكومية تفرض توريد قيمة البضائع التي تباع من إنتاج الوزارة إلى خزينة الدولة، ولم يكن الصانع يحصل على أي شيء منها إلا بعد التسويق بفترة.
لكن الجمعية دعمت الحرفي ماديا واعتبرته شريكا في النجاح، واحتضنته ولم يكن ذلك على مستوى الحرفيين الموجودين في الجمعية أو الوزارة فقط، لكنه تعدى هذا النطاق وشمل مناطق ومراكز كثيرة في مصر.
وقد شاركت الجمعية في العديد من المعارض الداخلية والخارجية والورش بألمانيا وكندا ولندن وبروكسيل فضلا عن المعارض التي اشتركنا فيها بمصر. وشجع هذا النجاح جمعية أصالة على الدعوة لإقامة مدينة الحرف التقليدية بالفسطاط وهو ما حدث بالفعل.
تصدير المنتجات
انطلاقا من أهمية تصدير منتجات الحرف اليدوية قامت “الجمعية المصرية للحفاظ على الموروثات الشعبية” بتوقيع اتفاق مع جمعية المصدرين المصريين، بهدف تنمية الصادرات من “التللي”، وبموجب هذا الاتفاق تقوم جمعية المصدرين بإدراج منتجات “التللي”النسيجية ضمن قائمة “القاطعات” التسويقية بغرض التصدير للخارج والترويج لهذا المنتج.
كما تقوم جمعية المصدرين بموجب الاتفاق بتقديم جميع الاستشارات الفنية والتسويقية لأعضاء “الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية”، وتحدد أهم الأسواق الخارجية المستخدمة، وحجم الفرص المتاحة، وتحديد الخطط الإعلامية والتسويقية التي تساهم في زيادة الصادرات من “التللي”، وفي إطار هذا الاتفاق قامت الجمعية الشعبية للمأثورات بالاشتراك في معرض فرنكس للأثاث والذي تنظمه جمعية المصدرين بالقاهرة.
ويضيف أحمد محسن أحد أعضاء “الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية” أن أهداف الجمعية ترتكز على شقين أساسيين: أحدهما الشق الخدمي والذي تحاول من خلاله الجمعية تدريب الشباب على ممارسة المهن التقليدية، أما الشق الثاني فيتعلق بتجميع مادة علمية حول تلك الحرف من المحافظات المختلفة وتشكيل فرق للقيام بهذه المهمة.
استطاعت تلك الجمعيات وغيرها من مؤسسات التدريب على الحرف اليدوية بناء أشخاص نافعين مميزين وخلقت لهم فرصة عمل توفر حياة كريمة.
فمحمود عيد شاب حاصل على بكالوريوس التجارة، فشل في العثور على عمل، فجاء لجمعية أصالة ليتعلم النقش على النحاس، وقرر أن تكون يده هي مصدر دخله، وشعر أنه من الممكن أن يصبح أفضل حالا لو بحث على طرق للتسويق والترويج.
ويرى محمود أن منتجات الحرف مميزة وتبهر السياح لكن ربما تكون حالة الركود وضعف القطاع السياحي خلال الفترة الماضية سببا لحالة الركود في سوق المشغولات اليدوية. ويتساءل محمود: لماذا لا نصدر للعالم إنتاجنا الأصلي الذي يفوق أي منتج يدوي يصنع في العالم كله؟ فنحن لا نستخدم الآلات الحديثة كما يفعلون لكننا نعتمد على النقش باليد لأننا نريد أن تظل تلك المشغولات “أصلية”.
أما الأسطى حسن -صاحب إحدى ورش تشكيل الزجاج- فحرص على تعليم أبنائه حرفة تشكيل الزجاج وفي نفس الوقت لم يحرمهم من حقهم في التعليم، فالحرفة اليدوية كما يقول الأسطى حسن ضمان للإنسان من الحاجة والفقر، وبديل عن انتظار وظيفة حكومية لا تأتي في الغالب، كما أنها مصدر للدخل من الممكن أن يجلب رزقا يجعل صاحبه ثريا للغاية وبسرعة.
هناك العديد من العقبات والمشكلات تواجه ازدهار هذا القطاع، ويراها الدكتور حسام البرميلي -الأستاذ بكلية الهندسة جامعة عين شمس- متمثلة في:
– نقص المعلومات لدى الجهات القائمة على تنمية تلك الحرف.
– غياب إستراتيجية قومية شاملة لتطوير تلك الحرف.
– عدم وجود برامج تستوعب طاقات الشباب المهيأ للعمل في قطاع الحرف اليدوية.
– عجز الكيانات العملاقة الحكومية عن مساندة ذلك القطاع.
– ضعف البنية التنظيمية لقطاع الصناعات التقليدية.
– غياب البرامج التي تخدم تنمية الصناعات التقليدية من التعليم الفني.
– ويأتي أخيرا تأثير المناخ الثقافي السائد من عدم احترام كل ما هو موروث أو محلي بما في ذلك الحرف التقليدية، والذي تغذيه أجهزة الإعلام ليكون العقبة الثقافية والمجتمعية أمام صناعة الحرف اليدوية.
ويطرح الدكتور البرميلي رؤيته للنهوض بالحرف اليدوية كي تصبح أداة فعالة في مواجهة البطالة فيقول: إن النهوض بذلك القطاع يحتاج إلى رؤية شاملة تقوم على توحيد الجهود وإنشاء هيئة قومية لمساندة هذه الصناعات ودعمها وتكوين قواعد بيانات عنها والتواصل مع الهيئات الدولية المعنية، وتوفير الخدمة الاستشارية المجانية للصناع الحرفيين.
ويؤكد الدكتور البرميلي على أهمية القيام بدراسات مستقبلية للتنبؤ بالأبعاد الاقتصادية لتلك الحرف والبحث عن طرق لتنميتها، وإعداد دراسات جدوى للمشروعات الصغيرة في المحافظات، ودعم الخامات المستوردة التي تدخل في بعض الصناعات التقليدية كالفضة والنحاس والصدف والعاج والأخشاب، وكذلك دعم المنتجات الموجهة للاستثمار والعمل على ربط التعليم الفني بالحرف التقليدية.
ولأن التسويق هو المشكلة الأساسية التي تواجه أي منتج فعلينا أن نواجه تلك المشكلة بضرورة دعم الطلب المحلي على المنتجات التقليدية وإعطاء منشآتها ميزة اقتصادية تساعدها على الاستمرار في حالة وجود أزمات والسعي لنتبنى نمطا غير تقليدي لتنمية السياحة من خلال التركيز على تشجيع الطابع المحلي وإبرازه أمام السائح فضلا عن إقامة المعارض بالداخل والخارج وإصدار كتيبات توزع على السياح بالأسواق التي يوجد بها المنتج الحرفي الموجود في مصر.
أمير إبراهيم
نقلا عن إسلام أون لاين