في التاسع من أغسطس عام 2008، فقدت الأمة العربية والعالم أجمع واحداً من أبرز شعرائها وأكثرهم تأثيراً، وهو محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الكبير الذي ارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية وبهموم الإنسان العربي في كل مكان. مثّل درويش حالة شعرية وإنسانية استثنائية، استطاع أن يجمع بين البعد الوطني والبعد الإنساني، وبين الشعر الملتزم والقصيدة الحديثة التي تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة إلى آفاق الكون والوجود.
رحيل محمود درويش شكّل صدمة كبرى لمحبيه ولقرّائه المنتشرين في مختلف بقاع الأرض، حيث ظل على مدار عقود الشاعر الأقرب إلى الجماهير وإلى النخب الثقافية في الوقت ذاته، في معادلة نادراً ما تتحقق لشاعر معاصر.
Table of Contents
محمود درويش: سيرة ومسيرة
ولد محمود درويش عام 1941 في قرية البروة بفلسطين، تلك القرية التي دُمّرت لاحقاً أثناء الاحتلال الإسرائيلي، ليجد نفسه طفلاً لاجئاً يحمل بين جنباته وجع التشرد والاقتلاع. هذا الألم الأول كان بذرة مشروعه الشعري الكبير، الذي لم يقتصر على التعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني، بل تجاوز ذلك ليصوغ رؤية إنسانية عميقة.
في ستينيات القرن العشرين، بزغ نجم محمود درويش في المشهد الثقافي العربي من خلال قصائده التي امتزج فيها الوعي الوطني بالصور الشعرية البديعة، فكان صوته صدى للحرية وللكرامة المفقودة. قصائده الأولى مثل “سجل أنا عربي” و”بطاقة هوية” جعلته رمزاً مقاوماً للكلمة، فكان الشعر عنده سلاحاً لا يقل قيمة عن البندقية.
شاعر القضية الفلسطينية
ارتبط اسم محمود درويش ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية، حتى صار يلقب بـ”شاعر فلسطين” أو “شاعر المقاومة”. غير أن درويش لم يحصر نفسه في إطار الشعارات المباشرة، بل طوّر أدواته الشعرية ليقدّم قصيدة تمزج بين الخاص والعام، وبين اليومي والرمزي.
لقد أدرك درويش أن الشعر لا يمكن أن يكون رهينة السياسة وحدها، لذلك عمل على تحرير قصيدته من قيد المباشرة، وجعلها تحتضن البعد الكوني. ومع ذلك ظل حاضراً في وجدان الفلسطينيين، لأنه لم يتخلَ يوماً عن قضيته، بل أعاد صياغتها شعرياً بطريقة جعلتها قابلة للتواصل مع كل إنسان يبحث عن الحرية.
تحولات التجربة الشعرية
تميزت تجربة محمود درويش بتحولات واضحة عبر الزمن. ففي بداياته، كان صوتاً صريحاً للمقاومة والهوية الفلسطينية، ثم انتقل إلى مرحلة أكثر عمقاً حيث بدأ يشتغل على البعد الإنساني والوجودي.
قصائده في مجموعات مثل “مديح الظل العالي”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً”، و”جدارية”، و”كزهر اللوز أو أبعد” حملت ملامح شاعر نضج تجربته وارتقى بلغة الشعر إلى مستويات جديدة.
لقد تجاوز درويش مرحلة أن يكون شاعر القضية فقط، ليصبح شاعراً إنسانياً يكتب عن الحب، عن الموت، عن الاغتراب، عن الوطن بوصفه رمزاً، وعن الحياة في معانيها الأوسع.
شاعر الجماهير والنخب معاً
من المميزات الفريدة في تجربة محمود درويش أنه نجح في الجمع بين جمهور واسع من القراء وبين النخبة الثقافية. عادةً ما يتجه الشعر إما إلى الناس العاديين فيكون مباشراً، أو إلى النخب المثقفة فيكون معقداً وعميقاً، لكن درويش تمكن من الموازنة بين الأمرين.
قصائده كانت تقرأ في الأمسيات الكبرى بحضور آلاف من الناس، وفي الوقت نفسه كانت نصوصه تدرّس في الجامعات وتخضع لتحليلات نقدية معمقة. هذا التوازن جعل من درويش “شاعر الجمهور” بالمعنى الحقيقي، فهو لم يكتب للصفوة وحدها، بل خاطب الإنسان العربي والإنسان العالمي على حد سواء.
درويش وجائزة نوبل
مع كل دورة من دورات جائزة نوبل للآداب، كان اسم محمود درويش يتردد كمرشح محتمل. اعتبره كثير من النقاد العرب والعالميين واحداً من أبرز الشعراء الذين كان من الممكن أن ينالوا الجائزة، إلى جانب أسماء مثل أدونيس. غير أن الجائزة لم تصل إليه في حياته، ليبقى هذا الغياب علامة استفهام في تاريخ نوبل.
لكن، وبالرغم من ذلك، فإن القيمة الحقيقية لدرويش لم تكن بحاجة إلى جائزة لتثبت حضورها. فقد كان شاعر نوبل الحقيقي في قلوب الملايين، وصوته الشعري ظل شاهداً على زمن كامل من الألم والكرامة.
المرض والرحيل
في أغسطس عام 2008، خضع محمود درويش لعملية جراحية دقيقة في القلب في مستشفى ميموريال هيرمان بولاية تكساس الأميركية. العملية كانت تهدف إلى إصلاح 26 سنتيمتراً من الشريان الأبهر (الأورطي) الذي أصيب بتوسع خطير.
وعلى الرغم من خطورة العملية، إلا أن مضاعفاتها لم تمهل الشاعر أكثر من ثلاثة أيام، حيث فارق الحياة عن عمر يناهز 67 عاماً. برحيله، أسدل الستار على مسيرة شاعر ظل يمثل الوجدان الفلسطيني والعربي لأكثر من أربعة عقود.أثر محمود درويش بعد الرحيل
رحيل محمود درويش لم يكن نهاية حضوره، بل بداية مرحلة جديدة من الخلود الشعري. فقصائده ما تزال تُقرأ وتُغنّى وتُلهم أجيالاً متعاقبة. لقد ترك تراثاً شعرياً ضخماً يضم أكثر من ثلاثين ديواناً، إضافة إلى كتابات نثرية ومقالات.
أثره امتد إلى الموسيقى والفنون، حيث غنّت كلماته أصوات كبرى مثل مارسيل خليفة، وجوليا بطرس، وأصبح شعره جزءاً من الثقافة العربية العامة.
محمود درويش: شاعر الإنسانية
إذا كان الناس قد عرفوا محمود درويش بوصفه “شاعر فلسطين”، فإنه في العمق كان “شاعر الإنسانية”. قصيدته لم تكن سجينة الحدود، بل كانت قادرة على مخاطبة الآخر أينما كان. من يقرأ درويش يجد صوته يتحدث عن الحب والفقد والاغتراب والحرية والهوية، وهي قضايا إنسانية مشتركة.
لقد ارتقى محمود درويش بالقصيدة العربية الحديثة، ففتح أمامها أبواباً جديدة في اللغة وفي الموضوعات وفي الرؤى، ليصبح واحداً من أبرز شعراء القرن العشرين على المستوى العالمي.
إرث يتجاوز الزمن
الإرث الذي تركه محمود درويش لا يقف عند حدود دواوينه الشعرية، بل يمتد إلى مشروع ثقافي أوسع. فقد أسهم في إثراء اللغة العربية وإعادة الاعتبار للشعر كفن قادر على مخاطبة الوجدان العام. كما أنه شكّل مدرسة شعرية قائمة بذاتها، سار على خطاها الكثير من الشعراء الشباب.
إرثه أيضاً يتجلى في قدرة قصائده على البقاء حيّة، إذ ما تزال تحضر في المناسبات الوطنية، وفي الأغاني، وفي الجامعات، وفي ساحات التظاهر، لتثبت أن الكلمة لا تموت حتى بعد رحيل صاحبها.
خاتمة
برحيل محمود درويش في 9 أغسطس 2008، فقدت فلسطين والأمة العربية والعالم شاعراً استثنائياً جسّد بكلماته أحلام الناس وآلامهم. استطاع أن يكون شاعر المقاومة، وشاعر الحب، وشاعر الإنسان في كل مكان.
لقد طوى موته مرحلة كاملة من الشعر العربي المعاصر، لكنه في الوقت نفسه فتح أفقاً أوسع لقصيدة عربية جديدة أكثر رحابة وإنسانية. سيظل اسم محمود درويش محفوراً في الذاكرة الجمعية، كشاعر حمل الوطن في قلبه، وحمل الإنسان في قصيدته، ورحل جسداً ليبقى روحاً خالدة في سماء الشعر العربي والعالمي.












./1153-220x150.jpg)
./1320-220x150.jpg)
