الزجاج المعشق بالجص، أو ما يطلق عليه فنان العمارة الإسلامية ‘شمسيات وقمريات’ هي حرفة الأجداد توارثها الأبناء عن الآباء.. وهي حرفة يدوية نادرة.. بلغت أوج ازدهارها في العصر المملوكي، وتعتبر من ابرز الفنون التشكيلية، التي يتسم بها الطابع الإسلامي، والذي تفوح منه رائحة الأصالة وعبق التاريخ.
و’شبابيك الشمسيات والقمريات’، لا تخلو منها المساجد والكنائس و البيوت الأثرية.. فضياء ألوانها الزاهية والجذابة بأشكالها الزخرفية الهندسية والنباتية والحيوانية، تبهر العيون وتأخذ العقول.. هذه المهنة القديمة مهددة الآن بالاندثار.. و’خالد رشاد’ احد الفنانين الذين يعدون علي اصابع اليد الواحدة، والذين عشقوا هذه المهنة، مازال يحمل مهمة الحفاظ علي هذه ‘الصنعة’ ويسعي جاهدا في سبيل تعليمها للصبية الصغار، حتى تصمد أمام تكنولوجيا العصر.. وهذه حكاية خالد رشاد.. مع الشمسيات والقمريات .
الوثائق الأثرية والتاريخ يروي لنا أن النوافذ ‘الشبابيك’ ذات الزجاج الملون..أطلق عليها مصطلح ‘قمرية أو شمسية’ وجاءت هذه التسمية نسبة إلي وظيفة هذه الشبابيك، التي يعكس زجاجها ألوانا متآلفة بديعة.. عند سقوط أشعة الشمس، أو ضوء القمر عليها، في النهار والليل.
وبلغ أوج صناعة القمريات كمالها وازدهارها الفني في العصر المملوكي..نتيجة لتطور فن العمارة الإسلامية في ذلك العصر.. وفي بادئ الأمر، صنعت القمريات من الحجر بدون زجاج.. ثم كانت الزخارف الجصية هي الأسلوب الشائع استخدامه للقمريات الجصية، ذات الزخارف المفرغة، المتشابكة وخالية من الزجاج الملون.. ومن أقدم هذه الأمثلة علي استخدام هذا النوع من النوافذ، تلك النوافذ الأربع الموجودة بجامع احمد ابن طولون عام 265ه.
وقد تطور هذا النوع من النوافذ الجصية، وأضيفت قطع من الزجاج الملون إلي هذه النوافذ الجصية المفرغة بأشكال زخرفية، ويغلب عليها ألوانها اللون الأرجواني المائل للاخضرار.. وكذلك الألوان الزاهية الأخرى، التي تعطي نوعا فريدا من الجمال.
وحرص الفنان المهندس المعماري علي استخدام هذه الشبابيك الجصية الملونة، داخل المساجد والعمارة الإسلامية القديمة، لما لها من وظائف علمية من حيث حجب الرياح، والغبار عن المساجد أو المبني.. مع السماح باتصال النور المناسب مع جمال تبادل النور والظلمة بأشكال زخرفية بديعة تسر عين المشاهد من خلال قطع الزجاج الملون وتشكيلاته الرائعة.
في حي القلعة، وتحديدا داخل معهد الحرف الأثرية.. التقينا مع ‘خالد محمد رشاد’ 35 سنة، الذي يعد أشهر من يعملون في مهنة صناعة الزجاج المعشق بالجص .
تحدث إلينا بتلقائية شديدة ‘خالد رشاد’ قائلا: حكايتي مع الزجاج المعشق بالجص بدأت منذ كان عمري (12عاما) بعد أن خرجت من الإعدادية.. والتحقت بمعهد الحرف الأثرية، الذي كان وقتها بالسيدة زينب، في ‘بيت السناري’ وتعلمت علي يد واحد من امهر وأشهر محترفي هذه المهنة في ذلك الوقت وهو المرحوم يوسف لطفي امين، الذي ورث هذه المهنة أبا عن جد، والذي قام بالترميمات الخاصة بالنوافذ الجصية، بمسجد القدس ‘الاقصي’ وكان عم ‘يوسف’ هو المسئول عن تدريبنا بالمعهد، إلي ان تخرجنا جميعا وكان عددنا خمسة صنايعية بعد انتهاء مدة الدراسة وهي ثلاثة أعوام وخلال هذه المدة كان كل واحد منا يحصل علي يومية قدرها (خمسة تعريفات)، اي قرشان ونصف القرش.
ويواصل ‘خالد’ قائلا: أول شئ تعلمناه هو أصول الرسم الهندسي ‘الصناعي’ بداية من المربع البسيط . ثم مرحلة الطبق النجمي ثماني الأضلاع و12 و16 ضلعا.. أما المرحلة الأخيرة وهي تعلم الرسم العربي، المزخرف وقواعده.. والذي يحمله الزجاج المعشق بالجص بأشكال هندسية ونباتية وحيوانية متنوعة.. ويلي هذه المرحلة، التجهيز لصب وتفريغ الشبابيك الجصية باستخدام الجبس، بعمل عجينة خفيفة، ‘لباني’ داخل برواز ‘فريم’ وبعد أن تتماسك بمرور ربع ساعة.. يتم عمل الرسم عليه وتجهيزه تمهيدا لمرحلة التفريغ للجص باستخدام الشنيور والزوانة وهي آلة حديدية تشبه صفيحة المنشار، وذلك لفتح الاخرام حسب الرسم.
ثم يلي ذلك مرحلة لصق وتركيب الزجاج الملون من خلف الشباك باستخدام الغراء الأبيض حاليا.. وقديما كان الغراء الحيواني.. أما الزجاج الملون كنا نحصل عليه من خلال تاجر متخصص ومشهور.. كان يقوم بجمع هذا الزجاج من المنازل واستمر الحال هكذا، حتى الثمانينات وبعدها تم استيراد الزجاج الملون لهذا الغرض من الخارج، حيث له مواصفات وجوده عالية ‘سمكه لا يزيد علي 3مللي وسادة’ ويصل سعر المتر من اللون الأحمر (341جنيها).
ومن أشهر المساجد والكنائس المباني الأثرية الزاخرة بالنوافذ المعشقة بالجص، هي مساجد ‘احمد بن طولون’ و’برقوق’ الذي يضم 125 شباكا، والقبة الفداوية، ومجموعة كنائس مصر القديمة وأشهرها الكنيسة ‘المعلقة’ ومن البيوت الإسلامية ذات الشهرة الواسعة، ‘بيت زينب خاتون’ و’جابر اندرسون’ ويتسم الزجاج المعشق بهذه المساجد والكنائس والبيوت بالزخارف المتنوعة من الرسومات الحيوانية والنباتية والهندسية.. بالإضافة إلي الرسم العربي.
ويقول ‘خالد رشاد’: لقد قمت بترميم غالبية هذه النوافذ بالمباني الأثرية من خلال عملي بالمجلس الأعلى للآثار.. والمشكلة ان هذه المهنة مهددة بالاندثار حيث لا يعمل بها حاليا سوي خمسة صنايعية فقط، وهي الدفعة التي كانت قد تخرجت من بيت السناري، وكنت احد أفرادها والعقبة التي تواجه هذه المهنة الآن هي عدم إقبال الصبية علي تعليمها في معهد الحرف الأثرية.
رغم أن حرفة الزجاج المعشق مربحة حيث يصل المتر منها (1200جنيه) ومطلوب رفع اليومية للصبية بالمعهد لأكثر من 5 جنيهات حاليا.. وهناك مدارس ومعاهد فنية تعلم هذه المهنة ولكن التركيز فيها علي الجانب النظري، وكذلك علي الترميم.. وحفاظا علي هذه المهنة ومنذ التسعينات انتقل الصنايعية إلي مرحلة أخرى وهي عمل النجف والفوانيس بالزجاج المعشق بالجص وكذلك إلي زبائن القصور والفيللات.. وهناك مهندسين من دول عربية منها ‘لبنان’ يحضروا إلي مصر، للحصول علي الشبابيك المعشقة بالجص، لوضعها في القصور والفيللات للأثرياء العرب .