كثيرة هي المراكز والمعاهد والمؤسسات المتخصِّصة بإحياء التراث العربي والإسلامي في البلاد العربية والأجنبية، ولكنّ المراكز الناجحة قليلة، ومن المراكز الناجحة الفريدة من نوعها «معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية» الذي أنشئ سنة 1982 في جامعة فرانكفورت في ألمانيا، برئاسة البروفسور التركي فؤاد سزكين» المولود في اسطنبول عام 1928، والمقيم في ألمانيا منذ عام 1961، والذي بدأ في عام 1963 إصدار كتاب: «تاريخ التراث العربي المستدرِك» والمكمِّل لما كتبه بروكلمان.
وبفضل جهود سزكين صار «معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية» من أنشط المراكز التي اهتمّت بالتراث الإسلامي والعربي، وذلك في نشر العديد من المخطوطات طبق الأصل، وبإعادة نشر الكثير من الكتب التي سبق نشرُها باللغة العربية واللغات الأعجمية، وبتجمِيع المقالات والبحوث التي خصّت موضوعاً ما من مواضيع العلوم والتراث العربي، وأنجز المعهد في هذا المجال نشْرَ مئات المجلدات التي شكَّلتْ سَلاسلَ غطّت مُعظم مجالات العلوم مثل سلسلة الطب، وسلسلة الرياضيات، وسلسلة الفلك، وسلسلة الجغرافيا والرحلات، وسلسلة الموسيقى، وسلسلة البيطرة والبيزرة، وسلسلة الفيزياء والكيمياء، وغير ذلك من السلاسل، بالإضافة إلى إصدار «مجلة تاريخ العلوم العربية – الإسلامية» وفهرسة المراجع والدراسات العربية والإسلامية المنشورة باللغة الألمانية، وامتاز المعهد عن غيره من المعاهد بإنشاء متحف الآلات العربية والإسلامية الذي يتضمّن مُجسّمات لأكثر من ألف آلة تجسّد ما وصلت إليه الصناعات العربية والإسلامية القديمة من تطوُّر في مُعظَمِ المجالات، وشكّلت الأساسَ الحقيقي للنهضة الصناعية المعاصرة، وتلك الآلات معروضة في معرض دائم في المعهد إضافة إلى عرضها في معارض موسمية متنقلة في المدن العالمية.
ومن الكتب الموسوعية المهتمة بإحياء التراث كتاب «العلوم والتقنية في العالم الإسلامي»، تأليف فؤاد سزكين، وصدرت من هذه الموسوعة باللغة العربية الطبعة الأولى من المجلد الأول سنة 1428 هـ/ 2007م. عن منشورات «معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية»، في إطار جامعة فرانكفورت. ومن المعلوم أن هذا الكتاب صدر باللغة الألمانية سنة 2003 (نقله من الألمانية إلى العربية مازن عماوي)، في خمسة مجلدات من الحجم الموسوعي مزدانة بصور المخطوطات والآلات وغيرها بالألوان، وتضمُّ مجلدات الكتاب علبة فاخرة.
أما الطبعة الألمانية فيقع المجلد الأول منها في 218 صفحة، وهو مدخل الى هذه الموسوعة العلمية الإسلامية العربية. والمجلد الثاني يقع في 226 صفحة، ويبحث في علم الفلك عند المسلمين. والمجلد الثالث، ويقع في 212 صفحة، ويبحث في علوم الجغرافيا، والملاحة البحرية، والساعات الشمسية والرملية وغيرها، والهندسة، والبصريات. والمجلد الرابع ويقع في 228 صفحة، ويبحث في الطبّ، والكيمياء، والمعادن والأحجار الكريمة. والمجلد الخامس ويقع في 236 صفحة، ويبحث في الفيزياء والتقنية، والهندسة المعمارية، والتقنية الحربية، والمعروضات القديمة.
صدر أصل الكتاب بمجلداته الخمسة باللغة الألمانية، ثم صدر كاملاً باللغة الفرنسية، وهو تحت الطبع كاملاً باللغة التركية، وتُرجِمت منه ثلاثة مجلدات إلى اللغة الإنكليزية، والعمل مستمّر لترجمة المجلدين الباقيين، ولعلّ العمل في ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية هو الأبطأ حيث لم يصدرْ منه سوى المجلد الأول، ولا يعلم إلا الله متى تصدر بقيةُ مجلدات الكتاب على رغم أن العلوم التراثية المكتوبة باللغة العربية هي الأكثر والأغنى من بين لغات العالم في هذا الكتاب، وربما؛ ما كان للمجلد الأول أن يصدر لولا دعم نشره من بعض المؤسسات العربية وفي طليعتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض بحسب ما أشار إليه سزكين في مقدمة الترجمة العربية.
يشكِّلُ هذا المجلد مدخلاً للبحث في العلوم والتقنية في العالم الإسلامي، وفي بدايته مُقدمة النسخة المعربة من الكتاب، وتقع في صفحة واحدة، يليها فهرس محتويات المجلد، وبعده لمحة عامة عن محتويات المجلدات الخمسة التي تُكَوِّنُ الكتابَ؛ تليها المقدمة التي تضمَّنتْ عرضاً لجهود رُواد الاستشراق الذين سجَّلوا في فِكرهم الإنساني تقديرَهم للعرب والمسلمين على دورهم في تطوير العلوم، وفضل العلوم العربية والإسلامية في سياق التطور العالمي للعلوم، أمثال يوهان جُتفريد هيردر (1744- 1803) ويوهان فولفغانج جوته (1749- 1832) وكورت شبرَنغل (1766- 1833) وألكساندر فون هومبولت (1769- 1859) ، وبرز تقديرُ التراث العربي في أعمال جان جاك سيديو وابنه لوي إملي اللذين نشرا عام 1834 الترجمة الفرنسية لكتاب أبي الحسن المراكشي في علم الفلك التطبيقي والآلات الفلكية، وفي عام 1844 قدم سيديو الإبن دراسة مثيرة للإعجاب حول كتاب المراكشي.
وأعاد نشر دراسة سيديو الابن فؤاد سزكين في المجلد 42 ضمن سلسلة الرياضيات الإسلامية والفلك الإسلامي، وتبعت تلك الدراسات بحوث وتحقيقات جوزف توسن رينو (1795- 1867) في مجال الجغرافيا، وعلم الآثار، والتقنية الحربية الإسلامية، وأوضح في أعماله تصوُّرَ وحدة تاريخ العلوم، ثم جاء أرنست رينان (1823- 1892) فأصدر عام 1853م كتاب «ابن رشد والرشدية»، فأثار دهشة مؤرخي العلوم الأوروبيين، ثم نشر فرانتس فوبكه نحو أربعين دراسة في الرياضيات العربية بين عام 1851، و 1864، ومن دراساته رسالته المنشورة عام 1851 تحت عنوان «جبر عمر الخيّام»، وأوضح في تلك الدراسة معالجة الخيّام لمنهجية معادلات من الدرجة الثالثة، ما أثار دهشة الرياضيين في ذلك الزمن. وسرق تلك الدراسة أحد الكتاب العرب المعاصرين ونشرها في أكثر من مؤسسة. وتبعت دراساتِ فرانتس فوبكه دراساتُ آيلهارد فيدمان (1852- 1928) وغيره من المستشرقين الذين أبرزوا الدَّورَ البنّاء للعرب والمسلمين في تطوير العلوم وتقدّمها.
وبعد المقدمة رتّب سزكين الكتاب على شكل طبقات تاريخية بحسب القرون الهجرية من القرن الأول حتى القرن العاشر للهجرة (من القرن السابع حتى القرن السادس عشر للميلاد). وتناول كلَّ قرنٍ على حِدة، (ص: 1-150). وهنا يقول سزكين: «إن أخذَ العلوم العربية والإسلامية في الغرب وتمثُّلَها واجَهَ مُنذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر؛ أي إبّان فترةِ نشاطه رُوحاً عدائياً ورفضاً شديداً؛ إنّ هذا التيار العدائي الذي كان مدفوعاً إلى حدٍّ بعيدٍ بحافز ديني؛ والذي استمرّ على رغم بعض المقاومة حتى أوائل القرن التاسع عشر طَبَعَ بطابعٍ قوّى ذهنية التدوين التاريخي؛ وأسلوبَ عرضه منذ القرن السادس عشر للميلاد، وفي خضم هذا التيار اندفع مؤرخو العلوم لأوّل مرّة في القرن الثامن عشر – كما يبدو – إلى تصوّرٍ لتاريخ العالم كأنه تعبير عن النهضة فيه، يعني بحكم تعريفه مُباشرة إنكارَ أية مكانة إبداعية للعلوم العربية الإسلامية في تاريخ البشرية الفكري. وهكذا تمَّ في تقسيم غليظٍ غير واقعي لتاريخ العلوم اعتبار الظاهرةِ التي سُمّيتْ بالنهضة مواصلةً مباشرةً للعهد الإغريقي، في هذه القفزة الزمنية لا يتبقى للثقافة العربية والإسلامية في أحسن الأحوال إلاّ دور الوسيط الذي ما قام إلا بحفظ كُتبٍ إغريقية مًعيّنة وترجمتها».
ويوضِحُ سزكين أوضاع بعض الومضات الاستشراقية المنصفة التي لم تؤثِّرْ في التيار العام الذي تجاهل دورَ العرب والمسلمين الحضاري، واعتبرَهم واسطةَ نقْلٍ لا أكثر ولا أقلّ، واستمرّ ذلك الوضعُ الشاذُّ حتى عارض ذلك التيار جورج سارطون (1884- 1956) الذي يُعتبر «مؤرخ العلوم الوحيد الذي سعى إلى أخذ نتائج الأبحاث الاستعرابية في الاعتبار في شكل مُسْتَوْفَى، قام بذلك بصورة مثالية في مُؤلَّفِه «مدخل إلى تاريخ العلوم». الذي صدر في خمسة مجلدات في بالتيمور (1927- 1948) «لكن يبدو أن النتائج التي توصَّل إليها لم تَحْظَ مع الأسف إلاّ بعناية أقلّ مما ينبغي في المؤلفات التاريخية التي كُتبتْ فيما بعد حوْلَ تاريخ فروع العلوم الطبيعية المفردة، ومما يُؤسَفُ له كذلك أنّ الكتب المدرسية لا تكادُ تظهَرُ فيها تصحيحاتٌ للتصوّر الموروث من التدوين التاريخي المعتاد للعلوم».
ويقول سزكين: «إنَّ الجيل الذي أنتمي إليه نشأ في زمنٍ ترسَّخَ فيه هذا التصوّرُ في الكتب المدرسية، ولا يُؤمل حُصول تصحيحٍ واضِحٍ إلاّ من خلال أبحاثٍ مستقبلية قائمةٍ على أساسٍ عريض، غير أنه سيكون ذا أهمية حاسمة أنْ تُتاح نتائجَه لدائرةٍ من المهتمين واسعة ما أمكن، ومن طُرُق التعريف الناجعة أنْ تجرى إعادةُ صُنعِ الآلات والأجهزة التي استُعمِلت، وطُوّرَتْ واختُرِعتْ في إطار العلوم الطبيعية والتقنية العربية والإسلامية، وإن هذه القائمة والمتحف الموصوفة فيهما معروضاته يسعيان إلى هذا النوع من التعريف». وبعد هذا الكلام يقدم سزكين صورة تجسد مكانةَ الثقافة العربية والإسلامية في إطار التاريخ العالمي للعلوم بتسلسُل تاريخي بحسب قرون التاريخ الهجري، وما يُقابلهُ من القرون الميلادية.
ثُمَّ بَحَثَ سزكين في القسم الثاني طُرُقَ أخذِ وتمثُّل العلوم العربية والإسلامية في الغرب، فقال: «حوالى مُنتصف القرن التاسع عشر الميلادي أخذ اهتمام المؤرخين يتَّجِهُ أكثر فأكثر إلى تطوُّر العلوم الطبيعية، وتقويم مكانة العلوم العربية والإسلامية تقويماً مزدرياً أكثر منه مُقدّراً…» (ص: 153). ثم أوضح سزكين طرُق انتقال العلوم العربية والإسلامية إلى أوروبا (ص: 245)، من طريق إسبانيا، وطريق صقلية وجنوب إيطاليا، (ص: 264)، وأخْذ العلوم من طريق بيزنطية، (ص: 282)، واختتم هذا الباب بكلمةٍ ختامية عالج فيها أسبابَ ترتيبِ كتابه على هذا المنهج، وناقش تطوّرات الإجحاف والإنصاف للتراث العربي والإسلامي من مؤرخي العلوم الغربيين والمستغربين (ص: 295).
وبحث في القسم الثالث موضوعَ بداية الرُّكود، وأسباب نهاية الإبداع في البيئة الثقافية العربية الإسلامية، فقال: «إنّ الإبداع أخذ يضعفُ حوالى منتصف القرن السادس عشر الميلادي إلى أنْ رَكَدَ مُنذ آخر القرن السادس عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر الميلادي، بصرف النظر عن حالاتٍ استثنائية قليلة». (ص: 308).
وأعقب سزكين ما تضمَّنه كتابُهُ بذِكْرِ المصادر العربية، (ص: 329)، والمصادر غير العربية، (ص: 331)، ثم أورد الفهارس، فذَكَرَ المؤلفات العربية، (ص: 351)، والمؤلفات غير العربية، (ص: 356)، وأسماء الأعلام العرب والأسماء المعربة، (ص: 360)، وأسماء الأعلام غير العربية، (ص: 369)، والمصطلحات والأماكن، (ص: 378 – 393).
وتضمَّن هذا المجلد الأول من الكتاب بعضَ الصور، ولكنَّ المجلدات الأربعة الباقية؛ التي لم تُترجَم بعد؛ تزدانُ بأعدادٍ وفيرة من الصُّور الملونة التي تنقل القارئ إلى مُعايشة تطورات العلوم من خلال ما يُشاهده من صُورٍ وما يقرؤه من معلومات وشروح مفيدة، ولذلك نأملُ صُدور ترجمة بقيّة المجلدات إلى اللغة العربية أسوةً باللغات الأعجمية لعلّ المبهورين بالدعايات المغرضة يقفون على الصورة المشرقة التي يجهلونها عن حقائق تطوّر العلوم عند العرب والمسلمين.
محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن