ما إن يُذكر اسم أبي حامد الغزالي حتى ترد إلى الأذهان موسوعته ذائعة الصيت {إحياء علوم الدين}، وعلى حاشيتها كتابه الجدلي {المنقذ من الضلال}، إضافة إلى كتابه {تهافت الفلاسفة}، الذي شكل مادة أثارت قريحة الفيلسوف الكبير ابن رشد، فأفرد حولها مؤلفاً مهماً بعنوان {تهافت التهافت}، لكن ذلك كله لا يحجب دفقة التصوف التي فاضت بها روح الفقيه والفيلسوف الكبير، الذي وصفه تابعوه ومحبوه ومنصفوه بأنه “حجة الإسلام”، وإن شئنا الدقة يمكن أن نقول عنه أنه “حجة المسلمين”.
Table of Contents
مولد الغزالي
ولد أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي في عام 1057، في منطقة غزالة في قرية طوس من أعمال خراسان في بلاد فارس، وقيل إنه استمد كنيته من مسقط رأسه، لكن قال البعض إنما سمي الغزالي لأن أسرته كانت تشتغل بالغزل. وفي مطلع حياته العلمية درس علم الكلام على يدي إمام الحرمين الجويني في نيسابور، وألم بالفقه السني الأشعري، وأجاد ما فيه من أبواب إجادة ملموسة، تجلت في مساجلاته ومجادلاته، فذاع صيته حتى بلغ مسامع الوزير السلجوقي نظام الملك، فاستدعاه إلى بغداد، وكلفه بتدريس الفقه، وتجهيز الرد على الشيعة {الإسماعيلية}.
ويقول أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل خطيب نيسابور عن الغزالي: {هو حجة الإسلام والمسلمين، إمام أئمة الدين، من لم تر العيون مثله، لساناً، وبياناً، ونطقاً، وخاطراً، وذكاءً، وطبعاً. شدا طرفاً في صباه، بطوس، من الفقه، على الإمام أحمد الراذكاني. ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين، في طائفة من الشبان من طوس. وجد، واجتهد، حتى تخرج عن مدة قريبة، وبذ الأقران، وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه، وواحد أقرانه، في أيام إمام الحرمين. وكان الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم، ويرشدهم، ويجتهد في نفسه.
وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام مع علو درجته، وسمو عبارته، وسرعة جريه في النطق والكلام، لا يصفى نظره إلى الغزالي سراً؛ لإنافته عليه فى سرعة العبارة، وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصانيف، وإن كان متخرجاً به، منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر، لكنه يظهر التبجح به، والاعتداد بمكانه، ظاهراً خلاف ما يضمره}.
الغزالي ومحاربة الحركة الإسماعيلية
انخرط الغزالي في حاشية نظام الملك، ولم يكن عمره آنذاك قد تجاوز الثامنة والعشرين، ليصبح أحد أدواته القوية في محاربة الحركة الإسماعيلية التي كان يتزعمها آنذاك الحسن الصباح، والمعروفة تاريخياً باسم {الحشاشين}. وفي معرض رده عليهم كتب الغزالي بأمر من الخليفة العباسي المستظفر بالله أسماه {فضائح الباطنية}، وأهداه إلى الخليفة نفسه.
خلال هذه الفترة كتب الغزالي {مقاصد الفلاسفة} الذي لخص فيه جوانب عدة من مباحث الفلسفة ومضاربها، من دون أن يوجه إليها انتقاداً ظاهراً، لأنه رام دحض دعوة التعليم {العرفانية} أو {الغنوصية} التي تبناها الباطنيون، وراح يستدعي المنطق الأرسطي، ليجعل منه {أيديولوجية} الدولة السلجوقية. لكن الأشاعرة، الذين كانوا يعتقدون أن دراسة الفلسفة وعرضها تشكل خطراً على العقيدة والشرع، عابوا عليه عدم نقده التفلسف، فدفعوه دفعاً إلى تأليف كتاب {تهافت الفلاسفة} الذي حوى انتقاده لهذا العلم ورجاله.
الغزالي وفراق الفلسفة
ويرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أن الغزالي لم يهجر الفلسفة تماماً، إنما فارق فلسفة ليأتلف مع غيرها، إذ ترك فلسفة أرسطو وتلامذته ومن راق لهم من فلاسفة المسلمين، ليذهب إلى فلسفة أفلاطون، والأفلاطونية المحدثة عموماً، وظل على إخلاصه لها حتى وافته المنية. لكن الدكتور عبد المنعم الحفني يخالفه الرأي، ويقول إن ما حواه {إحياء علوم الدين} يدلّ على أن الغزالي قد هجر الفلسفة فعلاً، لا سيما أن هذا الكتاب الضخم والمتسع هو المعبر شبه النهائي عن رؤية الغزالي ومواقفه.
أما ابن سبعين، فينتقد الغزالي ومسلكه في الفلسفة والفقه والتصوف واصفاً إياه بأنه مطنطن، وأنه ناعم مراوغ كالثعبان، لا تستطيع أن تقبض عليه، فهو فيلسوف مع الفلاسفة، ومتكلم مع المتكلمين، ثم هو صوفي مع المتصوفة.
لكن الدكتور فيصل بدر عون يرى أن هذا الحكم الذي أراد صاحبه أن يذم الغزالي ويقدح في عطائه، هو مدح له، وأمر يحسب له وليس عليه، لأنه يدل على موسوعية الغزالي وإحاطته بعلوم متعددة، وهذا كان شأن كثيرين في الزمان الأول.
إحياء علوم الدين
وأعطى الإمام أبو حامد الغزالي كلمة الإحياء معناها الديني، العقدي والفقهي، حين وضع مؤلفه ذائع الصيت {إحياء علوم الدين}، أحد أهم كتبه، لذا نسخ على ضخامته أكثر من 250 مرة قبل اختراع الطباعة، وترجم إلى لغات عدة، وقُدمت له شروحات كثيرة، ولخص 26 مرة أو أكثر.
يحتوي الكتاب على معارف كثيرة في العقيدة والفقه والتصوف والفلسفة، تصفها إصلاح عبد السلام الرفاعي في سياق عرضها للكتاب بقولها: {هو يتأسس على كلمة الإخلاص لله بالتوحيد، والإخلاص للدين بالرجوع إلى حظيرته، والعمل بجوهره، ويحاول فيه مؤلفه أن يصحح مسائل كثيرة تناولها سابقوه من الفقهاء وعلماء الدين، بحل ما عقدوه، وكشف ما أجملوه، وترتيب ما بددوه، ونظم ما فرقوه، وإيجاز ما طولوه، وضبط ما قرروه، وحذف ما كرروه، وإثبات ما حرروه، وتحقيق أمور غامضة استعصت على الأفهام}.
وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام، الأول عن العبادات وتناول فيه الغزالي العلم وقضاياه، العقيدة وقواعدها، الطهارة وأسرارها، أركان الإسلام ومغزاها، آداب تلاوة القرآن، الأذكار والدعوات، وأوراد الليل. والثاني عن العادات وشمل آداب الأكل والنكاح، الكسب والمعاش، الألفة والصحبة، العزلة والسفر، السماع والوجد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أوجه الحلال والحرام والشبهات، وأخلاق النبوة. والثالث عن المهلكات وتطرق فيه إلى أوضاع القلب، رياضة النفس، آفات اللسان، كسر شهوتي البطن والفرج، وذم الغضب والحسد والحقد والبخل وحب المال والجاه والرياء والكبر والعجب والغرور والدنيا بأسرها. والرابع عن المنجيات وبيّن فيه حقيقة التوبة، فضل الصبر والشكر، طبيعة الخوف والرجاء، أوضاع الفقر والزهد، أحوال السائلين والسالكين، قضية التوحيد والتوكل، المحبة والشوق والأنس والرضا، النية والإخلاص والصدق، المراقبة والمحاسبة، التفكر، وذكر ما بعد الموت.
وهذا الشمول الذي سيطر على كتاب الغزالي انتقل إلى كثيرين من بعده، فاستخدموا لفظ {الإحياء} مراراً وتكراراً كلما اعتقدوا أن الناس قد انصرفوا عن {الدين الصحيح}، وأن العقيدة قد خالطتها شوائب وجرحتها ألوان عدة من الشرك الخفي، واللهو الظاهر. وارتبط الإحياء هنا بمسألة العودة إلى الدين في صورته النقية التي كان عليها وقت نزول الوحي وتكليف محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة. وقدم علماء الإسلام وفقهائه المحدثين مثل هذا التصور، من أمثال محمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا.
لكن بلوغ الغزالي مشارف الفلسفة، ثم توغله فيها، كان مرده أيضاً مرور الرجل بفترة من الشك العنيف، المصحوب بمخاوف من أن يكون إيمانه قائماً على التقليد الأعمى، وليس إيمان المتبصر الواعي المدرك المقتنع، الذي لا توجهه تربية معينة توجيها مباشراً، لا يكون فيه الإنسان ممتلكاً لحرية الاختيار.
الغزالي وشاطئ التصوف
كان أبو حامد مدرسة فقهية تسير على قدمين، ورجالاً في رجل. تجاذبته أمواج عصره المتلاطمة، وأفكاره المتضاربة، ورمت به إلى شاطئ التصوف، فراح يلتقط أنفاسه التي ألهثتها معارك الفقهاء، وجدال علماء الكلام، وفساد الملك، وتراخي أغلب الناس عن مقاومة الظلم. ففي التصوف وجد الغزالي ضالته المنشودة، حيث الخلاص الروحي والسكينة، التي طالما بحث عنها خلال أيامه المترعة بالرغبة في حيازة الحقيقة الجلية، أو على الأقل الاقتراب منها.
الغزالي وورطة خدمة السلطة
تركت السنوات التي أمضاها الغزالي في خدمة السلطة بنفسه مرارة وحسرة، حين أدرك أن العلم الذي حصله يستخدمه لتثبيت شرعية كراسي يجلس عليها ظالمون، وأن المعرفة التي وهبها الله له مجرد سوط في يد الحكام يضربون به أعداءهم، الذين يصارعونهم على السلطة، أو يتمردون عليهم. فهذه النتيجة تركت الغزالي حائراً حزينا، فتملكه يقين بأن معرفته جاءت لتحرره من عبودية الأشياء، وتلقي به في خضم عبودية الواحد الديان، لكنه لم يكن قادراً على فك ارتباطه بالسلطة في يسر وسهولة، فأمضى فترة عصيبة عاشها في صراع نفسي هزه من الأعماق، وهو يحاول أن يجيب عن تساؤلات راحت تمطر على رأسه كالسيل المنهمر: هل يترك بغداد أم يمكث فيها مدة أخرى؟ وهل حربه على الباطنية حق وصواب؟ وهل هذه الحرب كانت ابتغاء مرضاة الله أم لمصلحة صاحب السلطة؟
وراح يصطنع الحيل كي يخرج من هذه الورطة الحياتية فكان له ما أراد. وعاد إلى مسقط رأسه يبحث عن ذاته مجدداً. ومكث سنتين كاملتين متفرغاً للعبادة، لا يلهيه عنها أي عرض دنيوي. اختلى بنفسه وراح يحاسبها، ويفرط في الحساب، ويروض شهوة الاقتراب من السلطة، والانتفاع مما لديها، ويجاهد كل ما علق في نفسه من أيام نظام الملك، حتى قهر الرغبات العارضة والدفينة، وخلص من كل ما شابه وأتعبه، وصار قلبه أبيض كصفحة نهار أبلج، صاف كماء رقراق.
الغزالي في بيت المقدس
وفي رحلة بحثه عن مزيد من التقوى والزهد والاقتراب من رحاب ذي الجلال والإكرام، ذهب الغزالي إلى بيت المقدس، ومنه إلى بيت الله الحرام.
وعلى رغم أن الغزالي عاد بعد ذلك إلى بغداد، فإنه لم يرجع إلى بلاط الخليفة، بل ركن إلى رحاب رب الخليفة، ورب كل العالمين، فراح يعبده بكل ما أوتي من طاقة، ويقنت إليه بكل ما يملك من قنوت وورع، حتى قال فيه الناس: {محمد عشق ربه}. وفي هذه المرحلة ألف الغزالي كتابه الشهير {المنقذ من الضلال}، الذي وضع فيه كل ما ألفه وعرفه وأدركه من رحلته الروحية، المفعمة بتفاصيل كثيرة.
سأل الغزالي عن الطريق إلى الكشف والمعاينة، فكانت الإجابة أنه {علم وعمل} فترك كل شيء وخرج هائماً على وجهه في الصحارى والقفار، ذاهباً تارة إلى الشام، وأخرى إلى الحجاز، وثالثة إلى مصر. ذلك كله كان فراراً بنفسه من الناس، وجرياً وراء الخلوة، كي يحقق من يؤدي إلى {قطع علائق القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله، وهو ما لا يتحقق إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه}.
وبعد أن عاش الغزالي هذه الحياة الروحية راح يقول عن التصوف: {أن تخلو بنفسك في زاوية، تقتصر، من العبادة على الفرائض والرواتب وتجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلاً بذكرك على الله، ذلك في أول الأمر بأن تواظب باللسان على ذكر الله، فلا تزال تقول: الله، مع حضور القلب وإدراكه، إلى أن تنتهي إلى حالة لو تركت تحريك اللسان لرأيت كأن الكلمة جارية على لسانك لكثرة اعتياده، ثم يصير مواظباً عليه، إلى أن لا يبقى في قلبك إلا معنى اللفظ، ولا يخطر ببالك حروف اللفظ وهيئات الكلمة، بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في قلبك على اللزوم والدوام، ولك اختيار إلى هذا الحد فحسب، ولا اختيار بعده لك، إلا في الاستدامة لدفع الوساوس الصارفة، ثم ينقطع اختيارك فلا يبقى لك إلا الانتظار لما يظهر من فتوح ظهر مثله للأولياء}.
وفي رسالته التي وسمها بـ {منهاج العارفين}، يبين العزالي أن من يعتزل الناس زاهداً، لا بد له أن يتحلى بعشر خصال، إن فقد إحداها أضيرت خلوته، وهي:
علم الحق والباطل، والزهد، واختيار الشدة، واغتنام الخلوة، والنظر في العواقب، وأن يرى غيره أفضل منه، ويعزل عن الناس شره، ولا يفتر عن العمل، فإن الفراغ بلاء، ولا يعجب بما هو فيه، ويخلو بيته من الفضول، وهو ما فضل عن يومك لأهل الإرادة، وما فضل عن وقتك لأهل المعرفة، ويقطع ما يقطعه عن الله تعالى}.
العلم اللدني
وكان الغزالي يرى أن القلب إذا طهر من أدران المعاصي، وصقل بالطاعات، أشرقت صفحته، فانعكس عليها من اللوح المحفوظ ما شاء الله أن يكون، وهذا هو المعروف بالعلم اللدني أخذاً من قول الله تعالي في محكم آيات القرآن الكريم {وآتيناه من لدنا علما}. ومن يصل إلى هذه الحال لا يهمه ولا يحزنه بحثاً عن رزق، لأن الله تعالى قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
وقد طبّق الغزالي هذا المنهج على نفسه حتى صقل قلبه، كما يخبرنا قائلاً: {وانكشف لي أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به، أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خصوصاً، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به… وأنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً، ويقتبسون منهم فوائد}.
لكن الغزالي لم يسقط أبداً في شطحات المتصوفة، بل ظل طيلة حياته منحازاً إلى {الشريعة} وليس إلى {الحقيقة}، كما يراها أهل التصوف، وظل يهاجم من قالوا إن الثانية فوق الأولى، والتصوف فوق التكاليف، وكان يقول دائماً:
{خلاصة العلم أن تعلم أن الطاعة والعبادة ما هي؟ … واعلم أنهما متابعة الشارع في الأوامر والنواهي بالقول والفعل، فالعلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة، وينبغي ألا تغتر بشطج الصوفية وكراماتهم، لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة، وقطع شهوة النفس، وقتل هواها بسيف الرياضة، لا بالطامات والترهات}.
ويذهب الغزالي في {إحياء علوم الدين} إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يقر بأن {من يقل بسقوط التكاليف فقتله أفضل في دين الله}. ويبرر هذا بقوله: {إن هذا ضرره في الدين أعظم لأنه يفتح باباً من الإباحة لا ينسد}، ثم يصف كلام أصحاب الشطحات بأنه ليس إلا تشويشاً للقلوب، وحيرة للعقول والأذهان.
والتصوف عند الغزالي يعتمد اعتماداً كلياً على القلب، إذ ذهب، رغم إيمانه بدور الحس والعقل في تحصيل المعرفة، إلى أن هناك معرفة لا تدرك إلا بالقلب، لأننا ندرك به معقولات لا نظير لها في عالم المحسوسات. ويرى الغزالي أن القلب محل العلم ويشبهه بمرآة تعكس الصور، فإن كانت نظيفة تجلت الصور كما هي، وإن كانت غير ذلك ظهرت الصور على صفحتها مشوهة، لا تعبر عن ذاتها تعبيراً حقيقياً. وهنا يقول: {قلب الطيع الصالح ليس يتضح فيه جلية الحق، لأنه ليس يطلب الحق، وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب، بل ربما يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية، أو بتهيئة أسباب المعيشة. ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية، والحقائق الخفية والإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال، وخفايا عيوب النفس، إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكراً فيها. وإذا كان تقييداً لهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف حقيقة جلية الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها، فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي}.
معالم الطريق
ويطلب الغزالي من الشيخ أن يوضح لمريديه معالم الطريق، ويشرح له مشقته، ويبين له أن هذا الأمر ليس سهلاً، وأن الدرب إلى الله طويل، والسفر فيه صعب لا يقدر عليه إلا من ألقى الدنيا وراء ظهره، ونفذ من العالم الحسي المادي المباشر إلى فضاء اللامحسوس واللاملموس. ويرى أن المريد يجب أن يتحصن بأمور أربعة هي الخلوة والصمت والجوع والسهر. فالخلوة ضرورية لتصفية قلب المريد من شواغل الدنيا، والصمت ضروي لأنه يبعد ما يشغل القلب، ولأنه ينقح العقل، ويجلب الورع ويعلم التقوى. والجوع يبيض القلب فيشرق بنور الله، ويقلل من دمه، ويزيل عنه الشحم الجاسم عليه. أما السهر فيساعد على تصفية القلب، ويخلع عنه الكسل، ويفتح للمرء باباً وسيعاً لمناجاة الله خالياً.
وترك الغزالي وراءه مؤلفات عديدة من أشهرها: إحياء علوم الدين، بداية الهداية، المنقذ من الضلال، مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، معيار العلم (مقدمة تهافت الفلاسفة)، محك النظر، ميزان العمل، الاقتصاد في الاعتقاد، المستصفى في علم أصول الفقه، الوسيط في المذهب، الوجيز في فقه الإمام الشافعي، فضائح الباطنية، القسطاس المستقيم، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، آداب النكاح وكسر الشهوتين، أيها الولد المحب، كيمياء السعادة (بالفارسية)، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، المنخول في علم الأصول}.
لم يعش أبو حامد الغزالي سوى 54 عاماً، وتوفي عام 1111، لكنه أنتج في عمره القصير آلاف الصفحات في مختلف ألوان المعرفة الإنسانية، وفرض على كل من أتى بعده أن يرجع إليه في أمور شتى.
(ورد هذا في كتابي “فرسان العشق الإلهي” الذي صدرت منه ٧ طبعات حتى الآن)
د/ عمار على حسن