لم يكن مبتسما كعادته.. وبدلا من كلمات الترحيب التي يبادر بقولها فور رؤيتي، دخلت غرفة مكتبه بمركز البحوث الزراعية بمحافظة الجيزة بمصر، وجلست على كرسي أمام مكتبه، ولم يرني.. هذه الحالة الغريبة على شخصية د.أحمد خورشيد خبير الصناعات الغذائية أشعرتني بأن مشكلة كبيرة تستعصي على الحل ألمّت به أو بأحد أفراد عائلته.
ماذا بك يا دكتور؟.. قلتها بصوت مرتفع، فأدرك لتوه وجودي بمكتبه.. وبعد عبارات التحية التي حرص كعادته على قولها، أخرج د.خورشيد من مكتبه موضوعا صحفيا نشر بإحدى الصحف العربية، وقال لي: هذا ما يضايقني.
الموضوع كان يتحدث عن أزمة الزيوت في العالم العربي، ونقل كاتبه عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية إحصائية تشير إلى أن حجم الفجوة الزيتية في العالم العربي يبلغ 49%، أي إننا لا ننتج سوى 51% فقط من استهلاكنا، والباقي يتم استيراده بما يعادل 2.7 مليار دولار سنويا.
أدركت حينها أن الهم الذي يشغله هم عام، وكان أكثر ما يضايقه أن الحل موجود، ولكن لا أحد يلتفت إليه، برغم أن صوته بح مطالبا به.
والحل الذي يطالب به د.خورشيد هو الاتجاه لأجنة حبوب القمح والأرز والذرة، والتي يمكن أن تسد هذه الفجوة، والجنين هو أعلى مكونات الحبوب غذائيا، ويوجد في القمح والذرة بالجزء الأسفل منها، وفي الأرز يشكل مع قشرة الحبة ما يعرف باسم “رجيع الكون”.
وما يثير ضيقه أن هذه الأجنة يتم فصلها تلقائيا من الحبة في مضارب الأرز ومطاحن القمح، وبدلا من أن توجه لصناعة الزيوت يتم التخلص منها أو بيعها لمربي الحيوانات بأثمان بخسة لاستخدامها كعلف للحيوانات، وفي الذرة تبدو المشكلة مع الجزء من المحصول الذي يوجه لصناعة الدقيق، فالجنين يطحن مع باقي مكونات الحبة ليَنتج دقيقٌ به نسبة من الزيوت تكون أحد أسباب عدم جودته إذا تم تخزينه لفترة طويلة، مع أن الدقيق ستكون مواصفاته أفضل إذا فصل عنه الجنين.
لماذا لا تستغل؟
قد تكون تكنولوجيا استخراج الزيت من أجنة الحبوب مكلفة جدًّا، فلا تشجع على المضي قدما في هذا الاتجاه.. فرضية طرحتها على د.خورشيد لعلها تقدم تفسيرا للتجاهل، ولكن كانت المفاجأة أنه قال: “بالعكس تماما.. الأمر غير مكلف على الإطلاق”.
وأوضح أن أي معصرة زيت بدائية تستطيع استخراج الزيت من أجنة القمح والذرة، أما زيت جنين الأرز فهو الوحيد الذي يحتاج معاملة خاصة؛ حيث ثبت أنه سريع التزنخ بسبب وجود بعض الإنزيمات التي تعمل على أكسدته.
وحل هذه المشكلة بسيط جدا؛ حيث يتم تعريض الجنين لمعاملة حرارية عن طريق البخار توقف نشاط هذه الإنزيمات قبل استخراج الزيت، واستمرارا لمحاولة تفسير التجاهل، افترضت أن كمية الزيوت الناتجة من الأجنة غير مشجعة، ولكن كانت المفاجأة الأخرى قوله: “لو أحسن استغلال هذه المصادر لأسهمت بشكل كبير في سد فجوة الزيت”.
وتبلغ نسبة الزيوت في جنين الأرز “14 % “، بينما تبلغ في الذرة “20 % “، وفي القمح من “6 إلى 8%”، وهي نسب يراها د.خورشيد كافية لسد فجوة الزيت لو أحسن استغلالها.
ويشير في هذا الإطار إلى دراسة كان قد أجراها عام 2005 عن فجوة الزيوت في مصر، توصلت إلى أن مصدر جنين الأرز وحدة يمكن أن يمدها بـ200 ألف طن زيت، شريطة استخدام مليون طن من رجيع الكون، تخرج من مضارب الأرز سنويا.
وبحسبة بسيطة، قال: “إذا عرفنا أن مصر كانت تستورد وقتها 966 ألف طن وفق إحصائيات جهاز التعبئة والإحصاء المصري، فمعنى استغلال هذا المصدر أننا نقلل حجم الاستيراد السنوي من الزيوت بمعدل 20%”.
فوائد صحية وغذائية
وبمزيد من الدهشة، مضى د.خورشيد يعدد فوائد أجنة الحبوب لو تم توجيهها لصناعة الزيوت، وأضاف: “فضلا عن كل ما سبق، فإنه تنتج زيوت ذات قيمة غذائية عالية، مستفادة من مكونات الأجنة”.
ويحتوي جنين القمح على نسبة عالية من المركبات البروتينية والدهنية، بالإضافة إلى العديد من الأحماض الأمينية الأساسية، ويتميز جنين الأرز بغناه بحمض “الفيتيك” الذي يساعد في طرد السموم من الجسم، كما توجد به نسبة عالية من (فيتامين ب) المركب المفيد للجهاز العصبي والمخ، بينما ترتفع بجنين الذرة نسبة عنصر الزنك الذي يقوم بدور مهم جدًّا في المحافظة على حيوية كرات الدم البيضاء التي تعتبر الدرع الواقي للجسم من الأمراض.
بعد كل ما سبق لم يعد سوى احتمال أخير طرحته على د.خورشيد لتبرير عدم المنطقية في تجاهل هذا المصدر المهم.. قلت: “ربما لا يعرفون”؟.
ارتسمت ابتسامه باهتة على وجهه، ورد على تساؤلي بتساؤل آخر: ألم يشاهدوا هذه الزيوت في المولات التجارية؟، وقال: “الغرب أدرك قيمة هذه المصادر، فاستخدمها في إنتاج زيوت سعرها مرتفع عن الأنواع التقليدية.. وللأسف نحن نستوردها، بينما لدينا إمكانيات محلية لإنتاجها”.
واستطرد: “سأفترض معك أنهم لم يشاهدوها.. ألم أقل لك في البداية إن صوتي بح مطالبا بالالتفات لهذه المصادر”.
الآن.. عرفت بالتفصيل لماذا بدا د.خورشيد مهموما؟.. إنه التناقض غير المبرر الذي يسير بالأمور عكس المنطق والمألوف.
حازم يونس
المصدر: إسلام أون لاين