تجربة شخصية تلقي الضوء على « المصحّات العقلية »
تجربة شخصية تلقي الضوء على « المصحّات العقلية »
الملجأ الأخير.. تاريخ للجنون في عصرنا
– تأليف «برباره تايلور»، المؤرّخة الكندية الأصل وأستاذة العلوم الإنسانية في جامعة الملكة ماري بلندن
– نقلا عن البيان الاماراتية
حظيت ظاهرة الجنون خاصّة والأمراض العقلية عامّة ومكانها في المجتمع وكيفية التعامل معها وفهمها وتحليلها بالكثير من الاهتمام في هذه الحقبة المعاصرة. هذا ما يدلّ عليه بوضوح أن العديد من الفلاسفة والمفكرين وضعوها في صميم اهتماماتهم. ولعلّ من أهم وأشهر الأعمال التي قدّمها الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» كتابه الشهير الذي يحمل عنوان «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي».
وفي كتاب يحمل عنوان «الملجأ الأخير» لمؤلفته «برباره تايلور»، المؤرّخة الكندية الأصل وأستاذة العلوم الإنسانية في جامعة الملكة ماري بلندن، تلقى الكثير من الأضواء على تلك المصحّات «الملاجئ العقلية» من خلال عرض الكاتبة لتجربة إقامتها فيها لمرّات عديدة كـ «نزيلة» بسبب أعراض «لوثات عقلية» متكررة عانت منها خلال سنوات 1980 و1990. هذا مع متابعتها مسار تدريسها الجامعي بنجاح.
إن «برباره تايلور» ومن خلال تجربتها الشخصية تقدّم ما تعتبره «تاريخاً للجنون في عصرنا»، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب. إنها تعود بذاكرتها إلى سنوات شبابها في كندا خلال عقد الخمسينات الماضي حيث عانت على مدى عقدين كاملين من مشاعر اختلط فيها الإحساس بـ«الغضب» وبـ«الحرمان».
وتشير أن جو منزل أسرتها لم يكن يبعث للطمأنينة والإحساس بالأمان. ذلك بسبب «عدائية الأب» و«نرجسية الأم»، خاصّة أن ذلك ترافق مع «شحّ عواطفهما» حيالها. وتؤكّد مع ذلك أنه «ليس في قصّتها ضحيّة. وإذا كانت هناك ضحيّة، فهي أنا»، كما تكتب.
تابع تجربة شخصية تلقي الضوء على « المصحّات العقلية »
وتروي أنها حاولت الهروب من ذلك «الجو الخانق» عبر اللجوء أوّلاً إلى الشراهة بالطعام حيث تكتب: «كنت دائماً في غاية الجوع. ولم يكن يسدّ جوعي أي شيء. ربما كنت أستطيع التهام العالم، لكنني فضّلت أن أتآكل في داخلي». ثم كان اللجوء إلى الكحول والمخدرات والإفراط في كل أشكال الجنوح. الأمر الذي قادها في مطلع عقد الثمانينات الماضي لتكون نفسها فريسة أوهام وأشباح ومشاعر بالكآبة دفعت بها إلى عيادة طب التحليل النفساني.
ومن عيادة التحليل النفساني حصلت على «بطاقة القبول» في أحد مستشفيات «التحليل النفساني»، التسمية الملطّفة للدلالة على الأمراض العقلية، وهو «مستشفى فريم» شمال العاصمة البريطانية لندن. كان ذلك في عام 1988 حيث ترددت عليه وأقامت فيه بعد ذلك مرّات ومرّات على مدى 21 سنة.
وهي تروي في هذا الكتاب، بدون مواربة، حالة الاكتئاب والانهيارات النفسية التي عرفتها وطرق المعالجة التي خضعت لها والأدوية والعلاجات التي تناولتها بكميات كبيرة والتي لم يكن أقلّها استخداماً «المهدئات القويّة». وتصف المؤلفة «ذروة مرضها العقلي» بأنها كانت أيضاً «ذروة في القلق والذعر والعجز عن تحمّل نفسها». وهي لا تتردد في استخدام الكلمات «الصريحة» بدون قناع للتعبير عن حالات «الجنون» و«المجانين».
التعبير عن ذروة المرض النفساني الذي عانت منه تدلّ عليه بعض الجمل التي تسوقها المؤلفة بخصوص إحدى جلساتها مع المحلل النفساني الذي توسّلت له كي يساعدها للخروج من المشاعر التي كانت تدمّرها. نقرأ: «ماذا سأفعل؟. لا استطيع العيش في هذه الحالة. ولم أعد استطيع العيش خارج المستشفى. من يساعدني؟. أريد أن أموت. أفعل شيئا ما من أجلي». كان المستشفى لها بمثابة الملجأ. وبدونه كان ينتابها الإحساس بـ«غياب الملجأ» ومما كان يولّد «قلقاً يجتاح في طريقه كل شيء»، حسب تعبيرها.
وتشير «برباره تايلور» أن فترة نهاية عقد الثمانينات وبداية عقد التسعينات من القرن الماضي، العشرين، تزامنت مع يطلق عليه المؤرخون توصيف «غسق ظاهرة»، وتقصد بذلك «غسق عصر الملجأ» العقلي. ذلك على أساس أن ذلك النمط من الملاجئ كان ينتمي إلى الماضي، حسب تقديرات السياسة اللبرالية التي انتهجتها مرغريت تاتشر.
في عام 1993 أغلق مستشفى فريم أبوابه بصورة نهائية. هكذا، ومن خلال قصّتها، حاولت مؤلفة الكتاب التأريخ أيضا لتلك المؤسسات الطبية المختصّة. وهي لا تتردد في المطالبة بأن يعاد لها اعتبارها. ذلك على اعتبار أنها تقدّم مكان اللجوء الأفضل لأولئك الذين يعانون من الهشاشة النفسية ويريدون الانزواء بعيدا عن العالم. وهذا بالتحديد ما يعنيه أن يعاني الإنسان من «آفة الجنون».
وتشير المؤلفة في تأريخها لمؤسسة المعالجة النفسانية التي كانت ترتادها، مستشفى فرين، أنه عند افتتاحه، أثناء الحقبة الفكتورية، عام 1851 كان يُطلق عليه توصيف «مؤسسة فاخرة من أجل مواساة الروح الإنسانية وشفائها».
تجربة شخصية تلقي الضوء على « المصحّات العقلية »