أصبحت موجة التدين الجديد ظاهرة لا تخطئها العين، وهي ظاهرة أوسع من الحركات الإسلامية، تتبادل معها التأثير والتأثر لكنها لا تستوعب فيها، وقد أخذت هذه الظاهرة تتبلور في شكل تجمعات شبابية من المتدينين الجدد تتمحور حول العمل الخيري، فيما يبشر بإمكانية عودة روح التطوع من أجل “الخير العام” إلى مجتمعاتنا خاصة مع تدفق موجات الشباب على العمل الخيري تدفقا جعل منه “موضة” نرجو أن تنمو لتصير “روحا” تسري في أوساط الناس. وفي السطور التالية نتتبع آثار أقدام القافلة.. قافلة الخير الجديدة، وبعد أن نرسم معالم الصورة ننظر إليها بعين المحب التي ليست عن كل عيب كليلة.
عندما خرجت السياسة من الشباك دخل العمل التطوعي الخيري من الباب، هذه هي العبارة التي يمكنها أن تلخص بإيجاز “قصة جمعيتين”.
ففي النصف الثاني من عقد التسعينيات سحبت مظلة السياسة التي كانت تظلل حركة الشباب في الجامعات المصرية قسرا، بينما خارج أسوار الجامعة كان تيار جديد للتدين العام يتشكل، تيار بعيد عن السياسة والأيديولوجيا، آخذ في طريقه قطاعات جديدة من الشباب تنتمي بالأساس للشرائح العليا من الطبقة الوسطى إضافة لجميع شرائح الطبقة العليا من المجتمع.
في ظل هذا المناخ خرجت طائفتان من الشباب حاملة لواء العمل الخيري التطوعي، جاءت إحداهما من جامعة القاهرة وبالتحديد من كلية الهندسة لتؤسس “جمعية رسالة للأعمال الخيرية”. أما الثانية فقد جاءت من الجامعة الأمريكية بالقاهرة لتؤسس “فاتحة خير.. متطوعون للتنمية”. وكأن كلمة السر كانت “1999”؛ ففي ذلك العام تأسست الجمعيتان لتقدما نمطا مختلفا من العمل الأهلي الخيري لا يعتمد على كبار السن أو الموظفين من أرباب المعاشات، ولا يقدمه شرائح المتدينين التقليديين أو المسيَّسين الملتفين حول المساجد؛ بل يعتمد بالأساس على شباب “مختلف” يتطوع بجهده وماله ووقته من أجل مد يد العون للشرائح الفقيرة والمهضومة الحق في المجتمع، شباب عرف طريقه إلى شبكة الإنترنت منذ عرف طريقه إلى العمل الخيري.
إذا كان انسحاب السياسة من الجامعات قد مثل مؤثرا “بالسلب” في نشأة الموجة الجديدة من العمل الخيري، فإن ثمة بيئة أثرت بالإيجاب وسبقت في الوجود رسالة وفاتحة خير، ومن ثم لا بد أن تذكر قبل استكمال المسير أن تلك البيئة -فيما أظن- تهيأت فيها البذور الجنينية لظاهرة التدين الجديدة التي بدأت تأخذ طريقها في أوساط أبناء النخب الاقتصادية منذ أوائل التسعينيات، كان لدعاة مثل “عمر عبد الكافي” و”حازم صلاح أبو إسماعيل”، ولظاهرة مثل حجاب الفنانات المعتزلات أثرها في غرسها إما مباشرة أو بشكل غير مباشر.
وعندما أخذت تلك الظاهرة في الاتساع في نطاق “الدقي والمهندسين” وبدأ صداها يسمع خارجها، وما لبثت الحكومة أن انتبهت إلى خطورتها على “الأمن العام” -من وجهة نظرها بالطبع- ومن ثم قررت منع الدكتور “عمر عبد الكافي” عام 1996. ولأن التدين روح تنساب بين الناس لا يمكن إيقافها بقرار بمنع “س” أو “ص”، ولأنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ليعود الناس إلى عقد الستينيات؛ عقد الدولة البوليسية، والحيطان ذات الآذان والشعب المستأنس الذي يعمل أفراده “مستخدمين” لدى الدولة؛ فقد عادت الظاهرة للانتشار والاتساع بشكل أكبر من ذي قبل وكأنها قطعة من الجيلي، ما إن تضغط عليها من ناحية حتى تقفز من أخرى، لكن الطريف أن قطعة الجيلي قفزت هذه المرة من نفس المكان: الدقي والمهندسين وما حولهما، وذلك مع ظهور “عمرو خالد” كوجه شبابي جديد في نفس عام إيقاف عبد الكافي؛ أي عام 1996.
على حواف موجة التدين الجديدة تلك كانت هناك موجة عمل خيري آخذة في التشكل يغلب عليها الطابع النسائي، تبلورت حول الحاجة “ياسمين الخيام” وجمعيتها، وامتدت إلى نفس الشريحة من “النخب” النسائية والبناتية -إن جاز التعبير- في مناطق أخرى، لكنها لم تشكل ظاهرة إلا عندما ظهرت جمعيتا “رسالة” من ناحية، و”فاتحة خير” من ناحية أخرى، وقبل ذلك بزمن كانت اللجنة النسائية التابعة للجنة الزكاة بمسجد صلاح الدين بالمنيل بيئة أخرى للعمل الخيري الذي يقوم به المتدينون “الشيك”، كإحدى النقاط المتقدمة في العمل الخيري التقليدي، ومن ثم فإنها ما لبثت أن استقطبت بعض الشباب “الشيك” أيضا الراغب في العمل الخيري في موجاته الجديدة.
كانت “رسالة” و”فاتحة خير” هي الأطر الخيرية التي استوعبت الموجة الأولى من الشباب المتدين تدينا جديدا بعيدا عن السياسة.. موجة استمرت في التشكل 3 سنوات من عام 1996 إلى عام 1999، لا أستطيع أن أجزم أن هناك رابطا مباشرا وحقيقيا بين الأمرين، لكن بلا شك أن ما أحدثه ظهور “الشاب عمرو” في ساحة الدعوة من تأثير يشبه سقوط الحجر في الماء الراكد أثر في خلق دوامات تأثيرية من التدين الشبابي الجديد، وإذا كنا قد تناولنا هاتين الجمعيتين قبل ذلك؛ فلا بد لنا من تناول الموجة التالية الحالية من العمل الخيري الشبابي التي أرى أن لها رافدين:
– الأول وهو الرافد الأقوى: برنامج “صناع الحياة” الذي فتح أعين الكثير من الشباب المتدينين الجدد على التحول من مجرد التدين العبادي الفردي إلى التدين ذي الدور الاجتماعي.
– الثاني وهو الرافد الأقل بريقا: وهو بيئة عمل الخير الجديدة منها والقديمة، والتي شكلت أرضية وخلفية حافزة وحاضنة أحيانا والتي ألمحنا إليها في تتبعنا لجذور القافلة.
وباستعراض 5 نماذج من العمل الخيري الشبابي الجديد (وهي الجمعية المصرية للتنمية الإنسانية، وجمعية مشوار، وجمعية رحمة، ومساعدة.كوم، ونادي يللا شباب)، والتي لا يتجاوز عمرها العام الواحد، يمكن أن نخرج عليها بالملاحظات التالية:
– أنها تتشابه إلى حد كبير في أنشطتها وكأنها نسخ بالكربون.
– وتتشابه في طموحها الكبير على قلة إمكانياتها.
– وتتشابه في جرأتها في الانفتاح السريع على شبكة الإنترنت.
– أن تلك الأعمال تتسم في الغالب بالعفوية وقلة الخبرة.
– كما يعيبها النمطية الشديدة التي لا ترى آفاقا للعمل التطوعي أبعد مما كان يراه الأقدمون من الجمعيات الخيرية التقليدية بفارق وحيد في الفئة العمرية للمجموعة القائمة على العمل.
إلا أن بعض الإضافات النوعية بدأت تطرأ على تلك الموجة متمثلة في بعض الأعمال أو الجمعيات النوعية (مثل جمعية مصر شريان العطاء). ومن تلك الأعمال النوعية الجديدة التي لا يتعدى عمرها بضعة شهور “التدريب”، وأبرز أمثلته هو فريق “برنامج الفعالية الشخصية” الذي يقوم به بعض الشباب من أجيال أكبر من جيل موجة العمل الخيري الجديد، إلا أنهم ارتأوا أن الشباب الأصغر سنا في حاجة لمثل ذلك التدريب الذي يضمن لهم تحقيق النجاح سواء في أعمالهم التطوعية الخيرية أو في أعمالهم لكسب العيش، وقد أقام هذا الفريق 3 حلقات تدريبية بالتعاون مع جمعية مسجد رابعة العدوية، حضر فيها ألف شاب وفتاة، وكان يوم الثلاثاء 14 سبتمبر 2004 هو حفل تخرج تلك الدفعات، والآن تنهال عليهم العروض لتكرار هذا البرنامج التدريبي التطوعي في العديد من النوادي والجمعيات. وفي الوقت نفسه بدأت جمعية رسالة تدخل نشاط التدريب كأحد أنشطتها الأساسية، وذلك من خلال مركز رسالة للتدريب، الذي بدأ بالأساس بالتدريب على برامج الكمبيوتر، وكذلك مهارات إعداد السير الذاتية والحضور الناجح للمقابلات؛ مما يساعد الشباب في الالتحاق بالأعمال لكسب العيش بشكل ناجح.
وإذا كان هؤلاء الشباب جميعا قد امتلأت جوانحهم بالحماس للعمل، وترجموا هذا الحماس بالفعل في شكل مؤسسات أهلية خيرية.. فهم بحاجة إلى استيعاب رسالة مفادها أن النهضة أو “صناعة الحياة” التي يرغبون في تحقيقها لا يحدثها العمل الخيري وحده؛ فسفينة الأمة بها ألف ثقب، تحتاج إلى أنماط متعددة من العمل التطوعي لسدها، وهو عمل لا يقل “ثوابا” بحال عما يقومون به من أعمال خيرية.
د. مجدي سعيد
نقلا عن إسلام أون لاين